العراسة وأبوعجور والبحث عن هوية المسرح المصري
“العراسة” جماعة من أهل القرية، تُسْند لهم مهمة تنظيم الاحتفال بالعرس وتتخصص فيه، وبجانب طقوس الأفراح المعروفة، كانت تقوم تلك الجماعة بتشخيص أدوار معينة، على سبيل الدعابة، كأن يلعب “عم العراسة” دور السلطان أو الملك أو عمدة القرية، ويكون له الحق في إصدار الأحكام ـ الهزلية عادة ـ ويلتزم كبار العائلات بتنفيذ أحكامه بجدية مهما كانت الظروف، وهذا الدور الذي يلعبه “عم العراسة” ويتحول بموجبه من كائن هامشي جدا إلى كائن مركزي، وهو دور طقسي له أبعاده الرمزية، و ينتمي إلى ثقافتنا الشعبية، لكنه يحمل جانبا إنسانيا إذ نجده في ثقافات أخرى بأشكال مختلفة، ويتلاقى مع الحلم العام الذي تذوب فيه المسافات بين المركزي والهامشي.
عالم العراسة
عالم العراسة بما يحمله من دلالات ترتبط بالخصوبة، وثنائية المركز والهامش، كان واحدا من عناصر الثقافة الشعبية التي لجأ إليها درويش الأسيوطي في طريقه للبحث عن هوية المسرح المصري، وقد ظهر ذلك العالم في مسرحيته (عرس كليب) التي مزج فيها بين شكلين تراثيين، الأول هو الراوي الشعبي الذي جاء إلى أحد الأفراح ليقدم سيرة الزير سالم وعالم “العراسة” الذي ينتمي إلى المسرح الشعبي.
لقد تجلى حضور السيرة الشعبية في مسرح درويش الأسيوطي واضحا، وهو يتكرر في عدة أعمال، لكن مسرحية (عرس كليب) تأتي علي درجة عالية من الأهمية في ذلك الإطار، وقد اعتمد فيها علي السيرة كمدخل، حيث ينطلق من قيام حسان اليماني بطلب جليلة بنت مرة زوجا له، ثم يقوم بتطوير ذلك الحدث دراميا ليتناول الصراع العربي الإسرائيلي، فحسان اليماني هو الغازي الذي جاء إلي بلاد الشام، واحتل الممالك، وكليب هو الذي قتله واسترد العِرض المتمثل في جليلة.
شخصيات العراسة
أبوعجور هو الآخر شخصية هامشية واستثنائية، تنتمي إلى رمزية الخصوبة، لكنه لا يستمد قيمته من لحظة استثنائية مثل ليلة العرس، لكن من علامة جسدية استثنائية، هي العضو الذكري الضخم، الذي يشبه “العجور” وهو نوع من الثمار قريب من الشَّمَّام.
لقد تحول “أبوعجور” إلى فصول مسرحية تقوم على شخصية واحدة أساسية لا تتغير، هي شخصية المهرج الشعبي الذي لا يملك شيئا سوى آلة إخصاب مبالغ في تصويرها، وتلك الشخصية لم تكن من إبداع مخيلة الكاتب، بل استدعاها من طفولته البعيدة عندما شاهد الشخصية في احتفال في القرية، في أوائل الخمسينات.
في أحد تلك الفصول المسرحية نلتقي بثلاثة أشخاص يلبسون ملابس الرجال ورجلا يلبس ملابس النساء. أما أبوعجور فكان يقوم بدوره شاب يعمل حجارا، يرتدي فـانلة وسروالا “جمالي”، وعلى رأسه لبدة ممطوطة، وقد لون وجهه بدقيق الذرة وألوان أخرى. وكانت القصة تدور حول التركي الذي جرد الفلاح المصري من كل شئ، الأرض، والحيوانات، والمحاصيل، ولم يبـق للفلاح غير زوجه و”عجورته” وهي عبارة عن كيس قطني طويل مبروم، يربطه الممثل بطريقة ما حول وسطه، ويخفيه تحت الفانلة، فإذا رفع الفانلة برز العضو منتصبا، فيثير عاصفة حقيقية من الضحك واللعنات غير الجـادة من النساء وينتهي الفصل باسترجاع كل ما حصل عليه التركي من الفلاح بفضل حيلة المرأة وجرأة الرجل.
درويش الأسيوطي
لقد استفاد درويش الأسيوطي من تلك الشخصية في عدد من العروض، وقدمها في أكثر من شكل، كان أهمها شكل المحاكاة التهكمية، الذي ظهر في مسرحية (حفلة أبوعجور) وحاكي مسرحية محفوظ عبدالرحمن (حفلة علي الخازوق)، وكذلك مسرحية (أبوعجور سلطان جاير) والتي تحاكي مسرحية (السلطان الحائر) لتوفيق الحكيم، ومسرحية (أبو عجور وديدمونة) التي تحاكي مسرحية “عطيل ” لوليم شكسبير، وذلك إلي جانب أعمال أخرى لم تعتمد على المحاكاة التهكمية، ولكنها اعتمدت علي أسلوب المسرح الشعبي.
في مسرحية (كيد البسوس) يمزج الكاتب بين جدية الشاعر الشعبي وطريقة “أبوعجور” الفجة في التشخيص، حيث يتداخل الغناء مع الرقص مع التشخيص ويبرز السؤال حول الفتنة الخارجية ودورها في تقسيم العرب إلى أعراب وإشعال الحروب بينهم.
لقد التقط الكاتب تلك الشخصية، وجعلها محورا لفرقة من المحبظين الجوالة، وراح يقدم من خلالها رؤاه المسرحية، فكانت من أبرز ملامح تجربته ككاتب مسرحي، وأحد مسالكه نحو تحقيق حلمه في البحث عن هوية المسرح المصري.
اقرأ أيضا
درويش الأسيوطي ورمزية الذئب والحمل
تعليق واحد