«الصادق» يحفظ ذاكرة مقابر القاهرة رغم خطر المحو
«هو الحي الباقي»، جملة تتكرر كثيرا، تخفي خلفها فلسفة ماكرة في عشق الحياة، تجدها على شواهد قبور جبانات القاهرة التاريخية، لكنها تفهم بالضد! أي أنها تترجم الرغبة في الخلود عبر بناء مقابر رائعة الجمال تحفظ ذكرى أصحابها وأمجادهم في إحياء لميراث مصري عتيد. ومن حسن الحظ أن هذه الثروة وجدت من يحنو عليها، يرصد ويحفظ لنا كل هذا التراث المنسي والمتفجر بالإمكانات البحثية الهائلة، عاشق ولهان بالجبانات وما فيها، هو الدكتور مصطفى محمد الصادق، الذي يعرفه كل المهتمين بالقاهرة وتراثها.
الصادق أصدر كتابه (كنوز مقابر مصر: عجائب الأمور في شواهد القبور) عن ديوان للنشر مؤخرا. في طبعة قشيبة تمتاز بجودة الإخراج الفني الذي راعى حساسية موضوع الكتب الفريد. والذي يسد ثغرة في المكتبة العربية عن موضوع شديد الحيوية في مدينة مثل القاهرة.
***
موضوع الكتاب؛ اكتشاف الجبانات وما فيها من تراث متعدد الزوايا، يعكس طبقات المدينة التاريخية بشفافية وصدق كاملين. تراث لم يتم اكتشافه ولا تسليط الضوء عليه بالقدر الكافي بعد، على الرغم مما يحتويه من إمكانات للمؤرخين وباحثي علم الاجتماع والأنثروبولوجية ودارسي فن الخط العربي. بل وحتى الراغبين في تنشيط السياحة! يأتي الكتاب ليكرس مكانة الصادق كحارس أول لذاكرة شواهد المقابر في زمن المحو الحكومي لها.
يبدو الكتاب كلوح من الشوكولاته الفاخرة، عليك أن تستمتع بكل قطعة فيه على مهل وبهدوء كامل. فيمكن لك بعد أن تقرأ المقدمة القصيرة للصادق، والتعريف الذي يزين الغلاف الخلفي للكتاب. والذي كتبه الدكتور خالد عزب، أن تقرأ الكتاب من النقطة التي تريدها. إذ يعكس الكتاب طريقة في التأليف بنظام الومضة، فكل شاهد قبر بجواره قصة مكتوبة لصاحبه؛ شاهد جديد لكن من كلمات مصطفى الصادق. فنحن أمام 40 شاهدا بأربعين قصة.
عندما تقرأ الكتاب لك أن تتمهل مع كل قصة شاهد قبر. تعيد النظر فيها وتتخيل العلاقات وحيوات البشر التي تصعد على مسرح الأحداث في قلب بؤرة الضوء، تدب فيها الحياة عبر استعادة تفاصيلها. وكل ذلك من قراءة شاهد قبر منسي؛ استعادهُ مصطفى الصادق وأعطاه حياة أكثر خلودا بالتسجيل على الورق وإتاحته للناس.
***
أحد جوانب أهمية كتاب (كنوز مقابر مصر) في توقيت صدوره. أي في بعد اللحظة التي بدأت فيها الحكومة إزالة العديد من المقابر والأحواش بالقرافة الصغرى وامتداداتها. بحجة تنفيذ مشاريع بنية تحتية، لأن الكتاب يكشف لكل ذي عينين عن التراث الضخم وغير المكتشف بدقة وبالتالي غير المحصور. تراث فريد من نوعه يشمل مظلة واسعة من الفنون، ويهم طيف واسع من الباحثين. وذاكرة لا تحتاج إلا لبعض الإنعاش لتاريخ هذه الأمة، وإعادة اللحمة بين القاهريين ومدينتهم وزرع الانتماء لها في نفوسهم.
الصادق يشير بين شواهد كتابه، إلى بعض الهجمات التي تعرضت لها الجبانات في الآونة الأخيرة والتأثير الكارثي لذلك. إذ يقول عن قبر أمير الشعراء أحمد شوقي: “في شهر أغسطس سنة 2023، أُذيع أن بعض اللصوص قد دخلوا إلى حجرة الدفن بحوش حسين باشا شاهين. ودمروا التركيبات الست التي كانت موجودة به وسرقوها. ولكنهم -ولله الحمد- لم يقربوا من تركيبة أمير الشعراء أحمد شوقي، وتركوها سليمة تمامًا. في حادثة أثارت دهشة جميع المتابعين لهذا الحدث الجلل الغريب”. هنا يتحول المؤلف إلى شاهد عيان يترك شهادة للتاريخ.
ونراه يرصد انتقال بعض التراكيب بسبب مشروعات التطوير الجارية. فيقول عن تراكيب حوش الأمير أحمد كمال باشا: “في سنة 2023، حصل الأستاذ عباس حلمي الثالث ابن الأمير محمد عبد المنعم، على الموافقة بنقل تراكيب حوش يوسف كمال. بسبب أنه في مسار مشروع تطوير القاهرة، إلى قبة الخديو توفيق في العفيفي. وفعلا رقمت قطع رخام التراكيب يوم 26 أغسطس 2023. وفككت في الأيام التالية تمهيدا لنقلها وتركيبها”. لاحظ هنا أن الصادق يرصد الواقعة بتاريخ اليوم، وهي دقة لم تكن لتتوافر إلا لأنه يُديم الزيارة للجبانات.
***
إذا انتقلنا إلى مستوى آخر من جوانب أهمية الكتاب، سنجد أنفسنا أمام كنز من روائع الخط العربي المحفوظة بين جنبات جبانات القاهرة. إذ تشكل الأخيرة أكبر متحف مفتوح للخط العربي ربما في العالم. وهي ثروة تاريخية وفنية لا تقدر بثمن لما تحويه من تنوع هائل في استخدام فنون خطية مختلفة، والاحتفاظ بنماذج من أعمال كبار الخطاطين في مصر الحديثة. فضلا عن ثروة من المعلومات التاريخية التي يمكن من خلالها إصلاح بعض المعلومات المغلوطة. وهو أمر يجيده مصطفى الصادق الذي يستخدم ما خطته الأنامل الذهبية في إعادة كتابة تاريخ مصر الحديث.
اهتمام الصادق بتطور الخط العربي لم يتوقف عند تسجيل ما كتب من روائع الخط على شواهد القبور. بل نراه يقدم مجموعة من التراجم السريعة الموجزة لعدد من أعلام مدرسة الخط العربي في مصر، الذين لا نكاد نعلم عنهم الكثير. ولا يهتم أحد بذكر أخبارهم ولا التعريف بهم إلا لمامًا، فنراه بين الفينة والأخرى يترجم لعلم منسي من هؤلاء الأعلام أمثال يوسف أحمد يوسف وسيد إبراهيم وحسن خالد. ويعيد التذكير بهم في أكثر من موضع لأنه يعلم حجم الإهمال الذي يطال هذه الأسماء التي تستحق أن تخلد بحجم منجزها الفني.
***
نعرض هنا لطريقة الصادق في الترجمة للفنان يوسف أحمد يوسف (توفي العام 1942) كنموذج، الذي يقدم لحياته بإيجاز في فقرة مركزة. ثم يقول عنه: “يُعد يوسف أحمد الباعث لفن الخط الكوفي الحديث وأستاذ الخطاطين وأحد المجددين في هذا النوع من الخطوط العربية. وله الريادة في انتشال الخط الكوفي من الضياع بسبب إهماله في العصور المتأخرة”. ويشير الصادق إلى دور يوسف أحمد في إضافة الخط الكوفي إلى الخطوط التي تعلمها مدرسة الخطوط.
يبدو الكتاب مهما لكل الباحثين في تاريخ القاهرة والمهتمين بتراثها، يقدم ثروة معلوماتية ويكشف عن كنوز الجبانات. لكن رغم هذه الحقيقة إلا أن هناك حقيقة أهم، وهي أن الكتاب لا يعبر إلا عن قمة الجبل الجليدي. فهو لا يضم إلا النذر الضئيل من أرشيف مصطفى الصادق، طبيب النساء والتوليد بطب القصر العيني، المولع بالقاهرة وجباناتها. والذي ينفق سنوات عمره بسخاء لتوثيق شواهد جبانات القاهرة بصورة تعجز عنها المؤسسات. فالرجل يمتلك مادة خام ذات طابع توثيقي لشواهد القبور. نرجو نحن وكل المهتمين بالقاهرة أن يكون كتابه (كنوز مقابر مصر) بداية الغيث وأول الفيض، في مجال لا يزال يحبو خطواته الأولى.
اقرأ أيضا:
المقريزي بعين ناصر الرباط.. سيرة إنسانية شديدة الحساسية