الدراما والكتابة والواقع المراوغ
في ظل المجالات العامة المغلقة في عالمنا العربي، تحولت مواقع التواصل الاجتماعي المفتوحة على مصراعيها –ومعها أنظمة الرقابة الرقمية- إلى سجالات، وتفضيلات، وتحبيزات وتحيزات، ورفض، وقبول. وهجاءات للأعمال الدرامية التلفازية التي تعرض على شاشات التلفزة، والألواح الرقمية، والمنصات!
هي حالة شبه عامة، تظهر الاتجاهات السائدة، واهتمامات الجماهير الرقمية الغفيرة، وبعض المثقفين، وأولوياتهم التي تحولت إلى الأعمال الدرامية. بعضهم يستخدمها في الهجوم على الشركات المنتجة، كغطاء للهجوم السياسي على ما وراءها سياسيا، في أجهزة الدولة! بعضهم الآخر يوظفها في تأويلاته التاريخية المسطحة. والتي تصل إلى حد التفاهة وعدم المعرفة بتاريخ كل دولة ومجتمع! أو المعرفة المبتسرة، أو صراع التأويلات السطحية دونما سند معلوماتي، أو منهجي!
**
بعض الجماهير الرقمية الغفيرة، وقع في استقطاب حول بعض الممثلات والممثلين، والمخرجين، وأداءهم. ومرجع ذلك قيام هؤلاء، عبر بعض الأشخاص، أو الشركات الرقمية في صناعة اتجاه، تجاه هذه الممثلة أو تلك، أو هذا الممثل والممثلة أو ذاك. والترويج له افتراضيا، في المواقع الرقمية على تعددها، أو عبر الصور، أو الفيديوهات، أو التصريحات المثيرة، أو المحمولة على الغرابة لجذب الاهتمام من رواد المواقع الرقمية. بعض الصحف الورقية لاسيما الخاصة، تضع هذه التصريحات الغريبة جذبا لمواقعها الرقمية. في ظل غياب سياسة للنشر تتسم بالمهنية والاهتمام بوعي، وعقل الجماهير الرقمية والفعلية الغفيرة!
هذه الظواهر باتت جزءًا أساسيًا من الحياة الرقمية المصرية والعربية، والتي يمكن وصفها بأنها ثقافة السطحيين الرقميين الجدد سواء من بعض الأجيال القديمة الأكبر سنا. التي تستخدم الواقع الافتراضي في مقارناتها بين الدراما التلفازية في شبابهم، أو النوستالجيا –الحنين- إلى ما يطلق عليه في العبارة الشائعة لديهم حلاوة زمان. وأن كل ما كان يجرى في زمن صباهم وشبابهم هو الأجمل. أو محاولة بعضهم نقد الحاضر في الفن، والاقتصاد، والقيم، والأخلاق، والتمثيل والسينما. وهي نزعة قديمة، ومتجددة حيث كل جيل غادر الشباب، يلجأ إلى استدعاء الماضي على أنه الأجمل، والأفضل. في ظل تحولات الواقع الاجتماعي – الاقتصادي، والسياسي، وهو ما يشكل نزعة لا تاريخية بامتياز!
**
الأجيال الجديدة الشابة، وفي مرحلة الصبا، والطفولة هم أبناء عصرهم الرقمي، ونتاج تعليمهم الرديء مع الأجيال الأسبق –والاستثناءات محدودة- في كل البلدان العربية. ومن ثم تفضيلاتهم وتحيزاتهم لهذا المسلسل الدرامي، أو غيره هو تعبير عن الذائقة شبه الجماعية السائدة بينهم!
بعض السطحيين الجدد، ومعهم صناع الدراما التلفازية يقدمون عوالم موازية للواقع المعاش. أو بعض الأحداث التاريخية من خلال نظراتهم المبتسرة أو المختلفة، أو التأويلية التي تفتقر إلى عمق المعالجة، أو التخيلات التي تفتقر إلى الذكاء الفني، والأحكام في بناء السيناريوهات، أو الحوارات، أو السردية البصرية!
بعض هذه الأعمال التلفازية، تفتقر إلى السلاسة الإيقاعية، والكثافة، والإيجاز، لصالح الثرثرة وسطوة الحوارات المطولة، وحركة الكاميرات البطيئة! تفسير ذلك غياب الاعتبارات الفنية. من أجل التركيز على أبطال المسلسل، أو اعتبارات التطويل من أجل رفع ميزانيات هذه الأعمال، والاستمرار طيلة ثلاثين حلقة، أو خمسة عشر حلقة. سواء في شهر رمضان الذي تجلس غالب الأسر العربية أو بعض أفرادها أمام شاشات التلفاز المختلفة. أو المنصات الرقمية، والألواح الرقمية، وبعضهم على الهواتف المحمولة.
الأخطر أن غالبُ هذه المسلسلات، لا تعكس المشكلات والتحولات الاجتماعية في الواقع المعاش. فلا تزال تركز على حارة متخيلة، وبطل يعتمد على القوة البدنية، وعصبة الرفاق، والزواج المتعدد، والمال الوفير. وهي سردية تعتمد على مغازلة الوعي الجمعي لبعض الفئات الشعبية، وخاصة الصبية والشباب. بينما الواقع الفقير والبائس مختلف، غالبُ همومه هو البحث عن “لقمة العيش”، والعمل.. إلخ! لاشك أن مشكلة هذا النمط من الدراما، أنه يحاول مغازلة الوعي البائس، والشعبي على نحو يؤدى إلى إعادة إنتاجه. وليس تطويره اجتماعيا، ودفعه نحو القيم الإيجابية في العمل، والزواج، والتدين الفردي المعتدل. ومن ثم يدفع نحو تحفيز العنف الديني، واللفظي، والتعصب، والزواج المتعدد، والطلاق، وإنماء التطلعات الطبقية دون عمل منتج يؤدى إلى الحراك الاجتماعي لأعلى!
**
بعض المسلسلات التلفازية، تدور في عالم المنتجعات المغلقة حول القاهرة مثالا، وعالم رجال الأعمال، ومؤامراتهم المالية، والخيانات الزوجية، والتصدعات الأسرية والتهتك الحراسي، واللفظي، ولغة الاستعلاءات الطبقية الكاذبة. كل ذلك يدور في عوالم مغلقة لا علاقة لها بالمجتمع المصري، وما يدور من تحولات، ومشكلات. دراما العوالم المغلقة لا تعدو أن تكون وصفية، واستعراضية ودونما سردية درامية، مكثفة، وسريعة، وتنطوي على جماليات بصرية، وحوارية، تحلل وتكشف عن لغة العيون، والوجوه والأجساد، بعيدا عن الأناقة المصطنعة، والمترفة شديدة الثراء في مجتمع تعاني الطبقات الوسطى، والشعبية من عسر الحياة.
الحياة المصرية، والعربية في الدراما تبدو في غالبها -والقلة تشكل استثناءًا- تبدو غائبة، أو مصطنعة في سردياتها الدرامية. بعض الدراما التاريخية، تبدو هشة، وضعيفة البناء، وأداءها التمثيلي، يبدو مثل الأداء المسرحي والخطابات المحملة بالوعظ، أو العنف، وتوظيف التاريخ أو بعض وقائعه لأداء وعظ سياسي أو وطني معاصر!
هذا الاتجاه من الدراما الاصطناعية الضعيفة، يجافي التاريخ، والأخطر يتحول إلى وعظ درامي، يغادره الفن التمثيلي، والإخراجي، والسردي البصري، ومن ثم لا يؤثر فنيًا، وجماليًا.
التخيل السينمائي، والدرامي التلفازي، كعمل فني يعتمد على الرؤى التخيلية الخلاقة، ومواكبة عصر السرعة الفائقة، وتحولاته، وعلى التقنيات السينمائية، والتلفازية التي باتت توظف تقنيات رقمية جديدة، وتراعى ثقافة العيون الرقمية المتغيرة. وبعض المسلسلات الأمريكية والأفلام، باتت توظف الذكاء الصناعي في أعمالها. ومرجع ذلك تطور العلاقة بين التطور التقني، والسينما، والدراما، وغيرها من الفنون تاريخيا. وتخلفنا التقني، ورتابة غالبية الأعمال الفنية، وتخلف أدواتها التقنية، الأهم هو نمطية الرؤى الفنية القديمة والتقليدية المستعادة في عالم غادرته هذه الرؤى، وأيضا التغير الاجتماعي في عالمنا العربي.
**
يلاحظ أيضًا نمطية بناء السيناريوهات، والحوارات، وحركة الكاميرا في هذه الأعمال -والاستثناءات قليلة-. بينما السرعة تحكم حركة الواقع، والعيون، والمشاهد، والأهم الأجيال الجديدة من الشباب والصبايا الذين تسيطر عليهم ثقافة العيون الرقمية السريعة جدًا. في تعاملهم مع الفيديوهات السريعة، وفائقة السرعة، والصور على الواقع الرقمي. وهو ما يؤدى في ظل استمرارية التطويل والرتابة، والأداء المسرحي لبعض الممثلين والممثلات، وخطابهم الوعظي الممل إلى جفوة بين هؤلاء المشاهدين، وثقافتهم الرقمية السطحية! التي مجافاة الوعظ النمطي الأخلاقي، أو لغة البلطجة، والبطل زعيم عصبة الرفاق في الحارة!
لغة الدراما التلفازية، وسردياتها البصرية تحتاج إلى تجديد جذري. يحاول أن يجددها مع عالم فائق السرعة، والصورة ويدمجها مع التطورات التقنية، والذكاء الصناعي. وهذا يحتاج إلى مواهب، وتقنيين أكثر علما وذكاء وموهبة.
اقرأ أيضا
نبيل عبد الفتاح يكتب: السينما والناقد والتغير في رؤى العالم