الحكومة تزيل «الفلكي» في ذكرى رحيله الـ140

تسابق أجهزة الحكومة المصرية الزمن لهدم أكبر عدد من المقابر في القرافة الصغرى (ترب الشافعي)، بلا ذرة ندم أو لمحة خجل، فالإصرار الرسمي على هدم المقابر يتحدى أي منطق، فالآذان لا تسمع والعقول لا تعي حجم الجريمة، ولا نية للإنصات لأصوات المتخصصين والمهتمين. فصوت البلدوزر أعلى من صوت المنطق، لذا لم يكن غريبًا أن يواصل بلدوزر الهدم مهمته بكل همة ونشاط يدعو للأسف، وكاشف لإصرار الحكومة على ارتكاب هذه الجريمة الكبرى في حق تاريخ القاهرة وتراثها. إذ وصل قطار الهدم والفناء إلى مسجد الفلكي، الذي يعرفه الكثير من سكان القاهرة بسبب الشارع الشهير الذي يحمل اسمه في قلب القاهرة، لكن قلة تعرف القيمة الرمزية للفلكي في تاريخ مصر الحديث.

إزالة معالم منشآت الفلكي تزامنت مع الذكرى الـ140 لوفاته، فقبل أيام قليلة، أزيل الجامع الذي بني بجوار قبته الضريحية، التي سبق أن تم إزالتها قبل عدة أشهر، مع تفكيك التركيبات الخاصة بشواهد قبور الضريح، على نية نقلها إلى ما يسمى بمقبرة العظماء، التي لا يُعرف على وجه اليقين طبيعة دورها، في ظل هذه المذبحة غير المسبوقة للتراث المصري في ما يتعلق بالمقابر التاريخية. إذ يعد هدم مسجد الفلكي خطوة إضافية تؤكد أن حكم الإعدام قد صدر لهدم جميع المقابر، بغض النظر عن قيمتها التاريخية، التراثية، المعمارية أو الفنية، في المسار المروري الذي تعتزم الحكومة صنعه على جثة المقابر والأحواش.

***

وقال عدد من المهتمين بتوثيق جبانات القاهرة لنا، إن الهدم شمل قبة ومئذنة مسجد الفلكي، لتنتهي السلطات بذلك من هدم كل منشأة لها علاقة بالفلكي، والتي كانت تقع لسوء حظها في مسار الطريق الجديد الذي سيكون بديلا لجزء من محور صلاح سالم. وأشاروا إلى أن هدم الفلكي جاء في سياق حركة واسعة ومتواصلة من هدم المقابر في منطقة ترب الشافعي في الأيام الأخيرة، في ظل إصرار حكومي على تفريغ مساحة هائلة في قلب القرافة الصغرى من جهة الشمال، ثم تتجه جنوبًا إلى الغرب لخلق المحور المروري الجديد، بغض النظر عن حجم المقابر التاريخية التي سيتم إزالتها بدماء باردة، في أكبر مذبحة تراثية في تاريخ مصر الحديث والمعاصر.

وسبق أن تم حذف مسجد الفلكي من قوائم التنسيق الحضاري، وتم نقل التركيبة من داخل القبة الضريحية في أكتوبر الماضي، بحسب الموثق لتراث الجبانات محمد عبد الملك. ويعود تاريخ المسجد، بحسب حسن قاسم في كتابه (المزارات الإسلامية)، إلى 65 عاما، فقد “أنشأه محمود صالح الفلكي إلى جانب ضريح جده المرحوم محمود باشا حمدي الفلكي، ووضع تصميمه المهندس عبد الحميد مرسي، واشتركت في إنشائه السيدة عطية الفلكي مع ابنها المذكور، وتأخر افتتاحه كمسجد مدة عام”، وفتح المسجد في 6 يونيو 1959، ليلحق بالضريح الخاص بالفلكي الذي أزيل قبل عدة أشهر، والذي يعود عمره إلى نحو 140 عامًا.

***

الخسارة التاريخية بفقدان منشآت الفلكي قاصمة، لما لها من ثقل في مسار ترب الإمام الشافعي، إذ شكلت، على الدوام ولعقود عديدة، أحد أهم التكوينات البصرية في الشارع المؤدي إلى قبة الإمام الشافعي. فمئذنة الجامع، مع الضريح على رأس شارع الطحاوية، شكلت هوية بصرية بديعة الجمال، اعتبرت على الدوام واحدة من أهم التكوينات المعمارية في جبانة القرافة الصغرى. إلا أن هذا لم يشفع لها أمام بلدوزر الهدم الذي يمرح بلا ضابط ولا رابط في المقابر التاريخية هذه الأيام، وسط تعتيم حكومي، إذ ضُرب كردون أمني حول أماكن الهدم، وتم منع الموثقين والمهتمين من دخول المنطقة لإلقاء نظرة وداعية لتراث عاشوا معه سنوات، ولم يظنوا يومًا أنهم سيلقون عليه كلمة وداع ختامي.

المعلومات معروفة عن الفلكي، فقد ترجم له كل من جرجي زيدان في كتاب (تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر)، وعبد الرحمن الرافعي في كتابه (عصر إسماعيل)، والتي اعتمد فيها على محاضرة عن محمود باشا الفلكي، ألقاها كل من إسماعيل بك الفلكي والأميرالاي محمد مختار بك، في الجمعية الجغرافية بجلسة 8 يناير 1886. لذا جاءت المعلومات في كتاب الرافعي على درجة كبيرة من الأهمية والتوسع في ذكر محطات حياة الفلكي، باعتباره من أبرز الشخصيات العلمية التي ظهرت في مصر على مدار تاريخها الحديث. لذا وصفه الرافعي عن جدارة بـ”أنبغ من أنجبتهم مصر الحديثة في الفلك والرياضيات”، بينما قال زيدان عنه: “خلاصة القول إنه كان همامًا حازمًا لوطنه، قضى سني حياته عاملًا في خدمته، مجاهدًا في سبيل نشر المعارف بين أبنائه”.

***

ولد محمود باشا حمدي الفلكي في قرية الحصة بمديرية الغربية عام 1815م، توفي والده وهو صغير السن، فعنى أخوه بتربيته، وأدخله مدرسة الإسكندرية التي أنشئت في عهد محمد علي باشا العام 1824م، وهي المدرسة التي سبق أن تخرج منها أخو محمود الفلكي وعين ضابطًا في الأسطول. أما الفلكي، فقد أثبت جدارة علمية وانتقل إلى مدرسة المهندسخانة بمصر، التي تخرج فيها العام 1840م، ثم تولى التدريس بالمدرسة ذاتها.

تعلم الفرنسية وبدأ في تعريب بعض الكتب الرياضية عن الفرنسية، كما استهوته دراسة الفلك الحديث حتى برع فيه، فبدأ في ابتكار وضع التقاويم السنوية، فوضع تقويمًا لسنة 1264هـ (بين عامي 1847 و1848م)، وقارن فيه بين التواريخ الهجرية والميلادية والقبطية، وبين مواقع الشمس والقمر لتلك السنة، فعرف بين الناس من حينذاك بلقب (الفلكي) الذي لازمه طوال حياته وحتى بعد مماته.

وفي منتصف عام 1850م، أرسل ثلاثة على رأسهم محمود الفلكي إلى فرنسا لدراسة الفلك، فسافروا العام التالي ومكث الفلكي هناك نحو تسع سنوات يدرس الفلك والرياضيات، وبدأ في وضع عدة أبحاث ونشرها هناك، لذا عندما عاد إلى مصر العام 1859م في عهد الخديو سعيد، كلفه الأخير بوضع خريطة مفصلة للقطر المصري، فاضطلع بالمهمة ونفذها على أكمل وجه، فضلا عن كشفه عن معالم الإسكندرية القديمة وتنقيبه عن معالمها، كما ألف رسالة مهمة عن الأهرامات والهدف من بنائها وعلاقتها بكوكب الشعرى، ورسالة أخرى عن التنبؤ بارتفاع النيل قبل وقوعه.

***

فضلا عن توليه عدد من المناصب منها نظارة مدرسة المهندسخانة، ونظارة الرصدخانة، ورئاسة الجمعية الجغرافية، وحمل حقيبة وزارة الأشغال ثم وزارة المعارف، حتى توفي في 19 يوليو 1885م بحسب زيدان والرافعي ومعهما الأمير عمر طوسون، إلا أن شاهد قبره يحدد يوم الأحد 18 ديسمبر 1887م تاريخًا للوفاة، ويبدو أن هذا التاريخ هو تاريخ دفنه في ضريحه بالقرافة الصغرى، لأن الجمعية الجغرافية أبنت الفلكي في اجتماعها في 8 يناير 1886م، ما يجعل تاريخ وفاته الصحيح هو 19 يوليو 1885م، أي أنه في يوليو المقبل تمر على وفاته 140 سنة.

وعاش الفلكي في فيلاته بباب اللوق في الميدان الذي كان يعرف باسم ميدان الأزهار، وبداية من أول نوفمبر 1930م صدر المرسوم الملكي بتغيير اسم الميدان إلى ميدان الفلكي نسبة إلى محمود باشا الفلكي، وتم إطلاق اسمه على أحد أطول الشوارع الذي يتفرع من الميدان جهة الجنوب، وهو الميدان المعروف عند الناس في يومنا هذا باسم ميدان باب اللوق.

هكذا احتفظت القاهرة بذكرى أحد أكبر علماء الفلك والرياضيات في تاريخها، لكن يبدو أن البعض لم يعد يهتم بالقيمة التاريخية للأشياء. فكما تم التخلص من فيلا الفلكي بهدمها في عام 1970، بحسب فتحي حافظ الحديدي في كتابه (دراسات في التطور العمراني لمدينة القاهرة)، فقد جاء الدور على قبره ومسجده في ترب الشافعي (القرافة الصغرى). فكما هو واضح من خرائط جوجل تبدو منشآت الفلكي في قلب المسار الذي بدأت أجهزة الحكومة في نسف المقابر لكي تجعله حقيقة واقعة مفروضة على الجميع. فبلدوزر الهدم الحكومي انطلق، ويبدو أنه بلا عقل، وسيدهس التراث والتاريخ بلا رحمة.

اقرأ أيضا:

«توسيط القرافة الصغرى».. تدمير طبقات تاريخية عمرها 900 عام

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. منفضل اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.