الحفاظ على المباني التراثية في المواثيق الدولية (2-2)

ترتبط قضية الاستدامة والإدارة بقضية “التنمية المستدامة”، ولذلك يجب إعطاء اعتبار خاص للسياق الثقافي الحي (التراث غير المادي) Living heritage ودمج عناصر التراث المادي و”غير المادي” في منظومة تشمل السياق المجتمعي الذي تشكلت من خلاله خصائص التراث المادي، من مواقع ومباني وآثار ثابتة أو منقولة. كما تشمل السياق المجتمعي والثقافي الذي يعطي لهذه البقايا قيمتها وأهميتها كتراث ينبغي الحفاظ عليه والاستفادة منه، كما سبق أن ذكرنا في سياق النقاش الدائر حول “درب اللبانة”، ولهذا أهمية خاصة للمجتمعات المحلية.

***

نذكر في هذا الصدد “الإعلان العالمي بشأن التنوع الثقافي” (اليونسكو 2001) الذي يدعو الدول والمؤسسات إلى العمل معًا من أجل الحفاظ على الثقافة بجميع أشكالها، ومن أجل وضع سياسات تساعد على تبادل الأفكار بين الثقافات وإلهام أشكال جديدة من الإبداع. يفسر الإعلان “الثقافة” بالمعنى الواسع ويربط بين الحفاظ على الثقافة والقضايا المركزية لحقوق الإنسان. ويراعي أن “الثقافة” في اللغة العربية هي المكافئ في اللغات الأجنبية لمصطلح “culture” منظومة الأفكار، واللغة والآداب، والفنون، والمعتقدات، والعادات، والرموز، والمؤسسات، والأدوات، والتقنيات، والأعمال الفنية، والطقوس، والاحتفالات، لمجتمع معاصر أو في الماضي، ولا يقتصر على الآداب والفنون.

في مجال الاستفادة من التراث في التنمية الاقتصادية، جنبا إلى جنب مع التنمية الثقافية، نشير إلى الدور المحتمل للسياحة الثقافية والتراثية في الاستدامة، وفي تعميق تجربة الزائر، والمساهمة في التواصل الحضاري بين الشعوب. يجب الإشارة إلى إعلان مسقط بشأن “السياحة والثقافة: تعزيز التنمية المستدامة 2017″، الذي يدعو إلى سياسات السياحة الثقافية التي لا تعمل على تمكين المجتمعات المحلية فحسب، بل تستخدم أيضًا نماذج سياحية جديدة ومبتكرة تعمل على تعزيز التنمية المستدامة والتفاعل بين المضيف والضيف والتبادل الثقافي. كما يعزز تكامل السياحة الثقافية المستدامة وحماية التراث في أطر الأمن الوطنية والإقليمية والدولية. وفي هذا الصدد، يوصي بمراعاة أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.

***

وفقًا للتعريف الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة للسياحة في دورتها الثانية والعشرين (2017)، فإن السياحة الثقافية تعني “نوعًا من الأنشطة السياحية حيث يكون الدافع الأساسي للزائر هو التعلم واكتشاف وتجربة المعالم/المنتجات الثقافية المادية وغير المادية في وجهة سياحية. ترتبط هذه المعالم/المنتجات بمجموعة من السمات المادية والفكرية والروحية والعاطفية المميزة للمجتمع، والتي تشمل الفنون والعمارة والتراث التاريخي والثقافي وتراث الطهي والأدب والموسيقى والصناعات الإبداعية والثقافات الحية، مع أنماط حياتها وأنظمة القيم والمعتقدات والتقاليد”.

تنص اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن أخلاقيات السياحة (المادة7، الفقرة2) على “تعزيز الحوار بين السياحة والثقافة واتخاذ القرارات المستنيرة في مجال السياحة الثقافية، كما تشمل تعزيز تبادل الممارسات الجيدة التي تبرز أنظمة الإدارة الشاملة وتجارب السياحة الثقافية المبتكرة”. وقد تنطوي السياحة على إمكانية تنشيط ليس فقط المباني أو المواقع الفردية، بل أيضًا الأحياء والمدن التاريخية التي غالبًا ما تتطلب “إعادة الاستخدام التكيفي” Adaptive reuse. وهنا، تكون قضية “الأصالة” authenticity التي أثارتها وثيقة نارا Nara Document  1994 ذات أهمية خاصة. وتدعو وثيقة نارا إلى اتباع نهج نسبي للأصالة وفقًا للسياق الثقافي. وفي هذا الصدد، يوفر ميثاق تشارلستون Charleston Charter لعام 2005 إرشادات للتعامل مع المناطق التاريخية، حيث تنص على: “لا ينبغي للبناء الجديد في البيئات التاريخية، بما في ذلك التعديلات والإضافات للمباني القائمة، أن يفرض بشكل تعسفي مواد أو مقاييس أو مفردات تصميم متناقضة، بل يجب توضيح وتوسيع طابع المكان، والسعي دائمًا إلى الاستمرارية والتكامل continuity and wholeness  في البيئة المبنية”.

***

لا تعد المباني حفريات تاريخية ولا جزرًا ثقافية، فهي غالبًا ما تخضع لمراحل من الإهمال أو الهدم أو الإحياء أو الترميم أو التكرار أو إعادة الاستخدام أو التخلي عنها. مما يؤدي غالباً إلى تغير “الهوية” و”القيمة” و”الأهمية”. لذلك، من الضروري التعرف على تاريخ المباني والمواقع ذات الأهمية الثقافية وتوثيقها وابتكار الوسائل لعرض وتوصيل وتفسير ديناميكيات التغيير. وهذا مهم بشكل خاص في حشد التراث المبني للحوار بين الثقافات لتثمين الوشائج المجتمعية والروابط المتبادلة للتراث الثقافي ضمن مسار بشري مشترك.

وتمتد أهمية المباني “التاريخية” (البيئة المبنية) أيضًا إلى الطريقة التي ترتبط بها هذه المباني أو تمثلها أو تدمجها في القضايا ذات الصلة بمشاكل العالم المعاصر، على سبيل المثال، تغير المناخ، والهجرة، والتحيز، والصراع المسلح، والأحداث التحررية والإصلاحية، وما يدعيه البعض عن “صراع الحضارات”. وفي هذا الصدد، لا بد من إيلاء اهتمام خاص لاتفاقية لاهاي Hague Convention لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح لعام 1954. والتي تنص على أن “… أي ضرر يلحق بالممتلكات الثقافية، بغض النظر عن الشعب الذي تنتمي إليه، هو ضرر للتراث الثقافي للبشرية جمعاء، لأن كل شعب يساهم في ثقافة العالم”.

وقد تم استكمال وتوضيح أحكام اتفاقية عام 1954 من خلال بروتوكولين تم إبرامهما في عامي 1954 و1999. تقع على عاتق منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) المسؤولية الأساسية عن نشر ومراقبة الامتثال. بالإضافة إلى القواعد المصممة لضمان حماية واحترام الممتلكات الثقافية أثناء النزاع المسلح، تنص هذه الاتفاقيات أيضًا على تدابير أمنية يجب تنفيذها في أوقات السلم. وهو ما ينطبق على ما يجري في غزة ولبنان وما جرى في فلسطين والعراق وسوريا من قبل، والذي لا يقتصر على إلحاق الضرر بالمدنيين، الذي يصل إلى حد الإبادة الشاملة كما يجري في غزة، إلى إبادة الذاكرة التاريخية والمجتمعية والهوية الوطنية للشعوب المتضررة.

***
سهرة غناء شعبي في محل إقامة ليو ببيت الفنانين.
سهرة غناء شعبي في محل إقامة ليو ببيت الفنانين.

في مجال تغير المناخ، توفر بعض المباني رؤى حول كيفية التعامل مع تغير المناخ (كما في النهج الرائد لحسن فتحي في قرية الجرنة بالأقصر). كما تعمل اليونسكو حاليًا على تطوير سياسات تتعلق بالثقافة وتغير المناخ https://www.unesco.org/en/climate-change/culture. ونشير إلى أن المباني التقليدية تقدم حلولا لمشكلة توفير مأوي للاجئين، ولأهمية المباني الشعبية التقليدية في توفير مباني موائمة للبيئة بأسعار زهيدة وبمواد محلية، بمشاركة الأهالي تقدم لجنة الإيكوموس للمباني الطينية وعمارة الأرض، ICOMOS ISC Earthen Architecture إرشادات لصيانتها والحفاظ عليها. كما ينص ميثاق التراث المعماري الشعبي (المكسيك، 1999) Charter on the built vernacular heritage على أن التراث المعماري الشعبي لا يشمل الشكل المادي ونسيج المباني والهياكل والمساحات فحسب، بل يشمل أيضًا الطرق التي يتم بها استخدامها وفهمها، والتقاليد والارتباطات غير الملموسة المرتبطة بها. المبادئ التوجيهية في الممارسة.

كما تساهم المباني التراثية في تشكيل الذاكرة الحية للبشرية، والكشف عن براعة الابتكارات متعددة الثقافات والانتقال عبر الثقافات وقوة الامتزاج الثقافي في مواجهة الخطابات العنصرية وصراع الحضارات المزعوم. وهو ما تبرزه العمارة الإسلامية من الهند إلى الأندلس في إسبانيا، وتكية البسطامي عن العلاقة بين الصوفية في إيران ومصر، وبين فنون التصوير الأوربية والمصرية من خلال “بيت الفنانين”.

***

وفي رأيي من ناحية أخرى، أن المباني التراثية من تاريخية وأثرية وشعبية، تفتح المجال لمساحات للحوار بين تقنيات البناء الماضية والمستقبلية. أرحب باستخدام الرقمنة، واستخدام الواقع الافتراضي، والواقع المعزز، والواقع المختلط في عرض وتفسير المباني التاريخية، مع توسيع النطاق وإمكانية تضمين النصوص والصور ومقاطع الفيديو والأصوات لإثراء محتوى الرسالة التي قد تنطوي على أنشطة تعليمية وألعاب وتفاعل بين الأشخاص والمراقبة. قد يشارك أيضًا استخدام المواد والتصميمات والذكاء الاصطناعي الجديد في الحوار التجريبي للجيل Z بين التقنيات التاريخية والناشئة.

أرى أن المناطق التراثية في حاجة إلى مراكز ثقافية يتعرف الزائر من خلالها على المعالم التراثية المجتمعية والتاريخية وما اندثر منها، عن طريق النظم المعلوماتية التي ذكرتها، كما يمكن إعداد برامج للزيارة من خلال الهواتف المحمولة، بالإضافة إلى وسائل التواصل المتاحة حاليا.

***

وفي الختام، لا يمكن لأي جهود للحفاظ على المباني التراثية والبيئة المبنية وإعادة تأهيلها أن تنجح بدون تدريب مناسب وبناء موائم للقدرات في جميع المجالات ذات الصلة، مع الاهتمام الخاص بالإدارة والحوكمة والتمويل والعرض وأساليب الشرح بالتقنيات المعلوماتية، بالإضافة إلى برنامج تعليمي إعلامي لعامة الناس وخاصة في المجتمعات المحلية في المناطق التراثية، مع المحافظة على استمرارية أنظمة البناء التقليدية والمهارات الحرفية المرتبطة بالمباني التراثية كضرورة لصيانة وترميم هذه المباني. ولذلك ينبغي الاحتفاظ بهذه المهارات وتسجيلها ونقلها إلى أجيال جديدة من الحرفيين والبنائين في التعليم والتدريب. وهنا نكرر ضرورة تعدي دور المرمم كتقني إلى خبراء التراث الذين يعمل المرمم من خلال رؤيتهم من المجتمع إلى الأثر لوضع المباني التراثية في إطارها المجتمعي السابق والمعاصر.

وفي هذا الصدد نشير إلي ميثاق الإيكوموس لتفسير وعرض مواقع التراث الحضاري ICOMOS Charter for the Interpretation and Presentation of Culutrual Heritage Sites 2007، الذي ينص على “تشجيع مشاركة الجميع في تفسير مواقع التراث الثقافي، من خلال تيسير مشاركة أصحاب المصلحة والمجتمعات المرتبطة في تطوير وتنفيذ البرامج التفسيرية.كما ينص على وضع إرشادات تقنية ومهنية لتفسير التراث وتقديمه، بما في ذلك التكنولوجيات والبحث والتدريب. ويجب أن تكون هذه الإرشادات مناسبة ومستدامة في سياقها الاجتماعي”. كما يتضمن ميثاق بورا 1979 -1999 The Burra Charter للحفاظ على الأماكن ذات الأهمية الثقافية/حضارية مواد تنص على احترام الارتباطات المهمة بين الناس والمكان، والاحتفاظ بها وعدم إخفائها… وإحياء ذكراها والاحتفال بها، كما يوصي باحترام المعاني المهمة، بما في ذلك القيم الروحية، للمكان. وإتاحة فرص استمرار أو إحياء هذه المعاني وتنفيذها.

اقرأ أيضا:

الحفاظ على المباني التراثية في المواثيق الدولية (1-2)

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر