«الجبانات».. وقائع إبادة معلنة

ننظر إلى الأنقاض المتراكمة، والأطلال الباقية، ونسيج الجبانة المهترئ، بدمع، وحزن مكلل بخيبة الأمل يرتسم على الوجه. نتجول بخطوات مترنحة، وعقول ذاهلة، لا نصدق أن ما كان طوع اليد قد صار أثرًا بعد عين، وأن المباني التي حكت التاريخ باتت في ذمته، وأن تراثًا عزيزًا علينا أعدم بدماء باردة. فما جرى في جبانة القاهرة التاريخية جريمة حضارية جرت بليل، فجاء نور الصباح على الديار وقد خلت من معالمها، فأي حسرة استقرت في قلوب المهتمين بتاريخ المدينة. لا نملك ونحن بلا حول ولا قوة، إلا أن نردد مع رهين المحبسين قوله:

خفف الوطء ما أظن أديم الـ   أرض إلا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدم العهـ   د هوان الآباء والأجداد

الهجمة الحكومية الأخيرة على القرافة الصغرى (جبانة الإمام الشافعي)، شكلت محطة يتوقف عندها عند التأريخ لنهاية جبانات القاهرة التاريخية. فما جرى في شهري سبتمبر وأكتوبر يشكل ضربة هائلة لقلب جبانات المدينة، ويكشف عن نية حكومية معلنة في إزالة المقابر خطوة خطوة، والاكتفاء فقط بما تم تسجيله كأثر، وهو لا يشكل خمسة بالمئة من مساحة جبانات القاهرة التاريخية، ثم تحويل الفراغ الناتج عن الإزالة لمساحات تستخدم في عمل محاور مرورية ومناطق ترفيهية استهلاكية. هكذا ينحر التاريخ والتراث والهوية على مذبح الاستهلاكية.

الهدم الحكومي الذي استمر لنحو ثلاثة أسابيع، خلف مشاهد من مدن ما بعد قصف الحروب، نتج عنها فجوة في قلب القرافة الصغرى، وهي جبانة تاريخية يعود وقت ازدهارها إلى العصر الأيوبي (1174-1250م). إذ تم إزالة حوش فاطمة برلنته هانم، المعروف باسم حوش عائلة العظم، والذي كان يضم رفات حقي العظم أول حاكم لدولة دمشق بين عامي 1920 و1922، والمؤرخ رفيق بك العظم المتوفى سنة 1925. كما أزيل مدفن الفريق قاسم باشا محمد، أول مصري يتولى قيادة الباخرة الخديوية المحروسة، وتوفى سنة 1897م.

***

كذلك تم إزالة مدفن إبراهيم النبراوي، المتوفى 1862م، وهو أحد أوائل من شارك في بعثات عصر محمد علي باشا إلى أوروبا، ويعد من أشهر أطباء العصر إذ عمل طبيبا خاصا للباشا الكبير. ويقع الحوش الخاص به على تقاطع شارع الطحاوية مع شارع الإمام الشافعي، وتميز بكونه مبنيا على الطراز المملوكي المحدث، كما كان علامة مميزة بسبب موقعه لكل من يتردد على شارع الإمام الشافعي.

وتمت إزالة حوش عائلة ذو الفقار الحكيم، وهي عائلة سياسية وفنية شهيرة، وحوش آل ثابت، وحوش محمد أفندي خير الكاشف، وحوش الفريق إسماعيل باشا سليم، وحوش زهرة هانم إبراهيم، وحوش عائلة برهان. كما تم إزالة حوش قبة حسين بك وزوجته كلزار هانم، مع الإبقاء على قبة الضريح فقط، ولا أحد يعرف مصيرها. وكل هذه المدافن كانت تضم مجموعة من أجمل شواهد القبور التي يمكن أن تقع عليها عين إنسان.

ضربات الإزالة طالت شارع الطحاوية، إذ ظهر جليا خلال جولة في الشارع إزالة العديد من الأحواش بشكل عشوائي، بصورة لا يعرف المرء منها ما المراد بهذه الإزالات مع الإبقاء على أحواش أخرى. وهو يضم مجموعة من المدافن المهمة لصبري أبو علم، وإسماعيل صدقي باشا، وعلي فهمي، وعلي رضا يكن، وكلها مهددة بالإزالة في يوم قريب.

***

أما شارع ابن الفارض الموازي للطحاوية، فقد تم إزالة الأشجار منه خلال الأيام الماضية، ما يعني أن النية مبيتة لحملة إزالات جديدة تطال مقابر الشارع الذي يضم مجموعة من الأحواش التاريخية والتراثية، التي يأتي في مقدمتها حوش الأمير يوسف كمال وعائلته، والذي أزيلت مدرسة رابعة العدوية من حرمه، وحوش الشاعر محمود سامي البارودي، الملقب برب السيف والقلم، والذي تم تفكيك شواهد ضريحه تمهيدا لهدمه.

المشكلة أن معظم هذه المقابر كانت مسجلة ضمن قوائم المباني ذات الطراز المعماري المتميز، وهي منشآت محظور هدمها بموجب القوانين المنظمة، لكن الحكومة ممثلة في الوزير شريف الشربيني، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، قررت إخراج مجموعة من المقابر من قوائم حظر الهدم، بحسب ما كشف الزميل شهاب طارق في موضوع سابق على «باب مصر»، وهي المقابر التي تم ويتم هدمها حاليا، ما يكشف عن نية حكومية مبيتة.

ولكي تكون الأمور واضحة، لا أحد ضد مبدأ التطوير والتحديث، شريطة ألا يكون مقترنا بالهدم والإزالة لتراث مادي لا يمكن تعويضه، وأن تتم هدم المقابر ذات الطراز المميز والمكونات التراثية من شواهد وتركيبات ومعمار هندسي بهذا الشكل العشوائي، ما أدى إلى تحول إلى المنطقة إلى مسرح عمليات سطو من تجار الأنتيكات ونباشي القبور ولصوص التحف الذين يستغلون فوضى الإزالة في سرقة مكونات الأحواش بصورة تزيد من حجم الألم على هذا التراث المدمر والملقى على ناصية الشوارع، في حين يتم منع من يرغب في توثيق هذه الأحواش لتكون ذكرى للأجيال المقبلة، باعتبارها جزءا من التراث المصري المهدر.

***

الحكومة الحالية سجلت اسمها على رأس قائمة أكبر المتعدين على جبانات القاهرة في التاريخ، إذ بدأت معاول الهدم لمقابر المجاورين والغفير في الخط الملاصق لطريق صلاح سالم في 2020، وذلك لإنشاء محور الفردوس، ثم تم الإطاحة بمجموعة من المقابر في مواجهة ضريح الليث بن سعد، لإقامة كوبري متحف الحضارة.

بعدها تكشفت معالم خطة حكومية لإزالة 2760 مقبرة بهدف إنشاء مجموعة طرق وكباري. إذ شهد العام الماضي تعديات بالجملة على جبانات القاهرة، وصلت لذروتها بمحاولة هدم مقبرة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في أغسطس 2022. ولم تتراجع الحكومة إلا عندما تحول الأمر إلى أزمة رأي عام. هنا اضطرت للتراجع عن تدمير المقبرة، وإن أزالت كل المقابر المحيطة بها في منطقة التونسي، فضلا عن بناء كوبري فوقها أطلقت عليه كوبري طه حسين! كما تم هدم العديد من المقابر في المنطقة المحيطة بقبة رقية دودو.

واستمرت التعديات الحكومية على تراث الأجيال، قبل أن تتوقف في سبتمبر 2023، نتيجة حملات على مختلف المستويات من معنيين بتراث المدينة. لكن مع ضرب ستار من الكتمان الكثيف في ترب الشافعي والمنطقة القريبة منها، تزامن ذلك مع توجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي، لتشكيل لجنة برئاسة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي (تخصصه الدقيق: تخطيط مدن)، لدراسة آليات التعامل مع مقابر الشافعي والسيدة نفيسة. لكن على ما يبدو أن توصيات اللجنة لم تلق آذانا صاغية، ما دفع أربعة من أعضائها للاستقالة في يوم واحد، لتستمر أعمال الإزالة في ترب الشافعي والسيدة نفيسة.

***

ما نشاهده هذه الأيام بعين لا ترى من غزارة الدموع والقهر، عملية إبادة كاملة لجبانات القاهرة. من كان يتصور أن يمشي في جبانة سيدي جلال (نسبة للفقيه المملوكي جلال الدين السيوطي)، فسيجد أمامه موقف سيارات أجرة (ميكروباص)، أقيم سريعا فوق مساحة كبيرة كانت يوما الجزء الأكبر من جبانة سيدي جلال، تم إزالتها ومحوها من الوجود. من كان يتخيل أن يتم إزالة المقابر لتمضي عليها السيارات المسرعة في شارع مصر القديمة لتبقى قبة رقية دودو كامرأة ثكلى تنعي الأحبة التي نحرهم البلدوزر بدماء باردة. فيما أزال البلدوزر ما شاء من جبانة السيدة نفيسة.

من يذهب إلى حوش طه حسين في جبانة التونسي، يجده يقف وحيدا، فيظن من لا يعلم أنه بني في واد غير ذي زرع، لكن الحقيقة أنه قبل عامين فقط كان محاطا بمقابر من مختلف العصور، لكن الحكومة أزالتها جميعا وتركت ضريح طه حسين بعدما تركته في العماء وحجبت عنه الشمس بفعل كوبري ضخم دمر نسيج المنطقة العمراني. عندما تزور مشهد وجامع الليث بن سعد، الذي يعود تاريخه إلى ما قبل 1200 سنة، تجده مفصولا هو المقابر المحيطة به عن كتلة المقابر الملتفة حول قبة الإمام الشافعي، وهذا بفعل كوبري الحضارة، الذي أزالت الحكومة من أجله صفا من المقابر، وفصلت للأبد بين الإمامين. تحت الكوبري ستجد بعض الأهالي احتفظوا بلوحات حجرية تقول إن أحباءهم دفنوا هنا ذات يوم، قبل أن يأتي من يقلق منامهم الأبدي.

تمضي وسط خرائب الجبانة ومظاهر الهدد تحاصرك وتقبض على روحك، وكأنك في مدينة تحت القصف، لتردد بحزن مع المقريزي (توفي 1442م)، قول ابن نباتة المصري:

وإذا نظرت إلى البقاع وجدتها        تشقى كما تشقى الرجال وتسعد

ثم تلقي بوجه كسيف وعين كسيرة نظرة أخيرة على الجبانات التي تعرف يقينا أنك لن تراها مرة أخرى، وتردد مع أبي تمام قوله:

ثم انقضت تلك السنون وأهلها     فكأنها وكأنهم أحلام

اقرأ أيضا:

من جديد.. معاول الهدم تستأنف إزالة الجبانات التاريخية بعد وقف الدفن بها

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر