الأصول الأمريكية للحارة المصرية
أتمنى أن يتسع «باب مصر» لسلسلة من المقالات أكتب بها تأملات في قضايا تأسيسية في تاريخ السينما المصرية، التي بلغت من العمر مائة عام ويزيد، حسب لحظة البداية التي يطمئن إليها الباحث. اليوم، أقترح إعادة مناقشة مفهوم الواقعية في السينما المصرية، وتحديداً مساءلة ارتباط أفلام الحارة بالواقعية كمذهب فني وجمالي، وارتباط الحارة بتقديم تصور “أصيل” عن الشخصية المصرية الصميمة أو الهوية المصرية الحقة.
***
موضوع الحارة قُتِلَ بحثاً، والواقعية لم تعد هاجساً فنياً وأخلاقياً سائداً بعد ابتعادنا عن لحظة التحرر الوطني في منتصف القرن العشرين، التي سادها تصور فكري يربط بين الحاجة إلى الاستقلال والحاجة إلى تصوير الوطن المستقل بشكل واقعي، والتي انتشر فيها اعتقاد بأن مذهب الواقعية -وهو واحد من مذاهب فنية عديدة- هو المذهب الوحيد القادر على تجسيد الهوية الوطنية الأصيلة. عبر العقود، ساد في الخطابات النقدية والتصورات المجتمعية ما يشبه الإجماع على أن الحارة في الأدب، ثم في السينما، ثم في التلفزيون تجسيد في شكل عالم مصغر لعالم الوطن الأكبر، ومجاز بعض من كل يعبر عن الوطن والواقع والهوية المصرية الأصيلة. كل هذا في صورة واحدة، ألا وهي الحارة.
لكن ارتباط الواقعية بالحارة، ودلالة الحارة ورمزيتها في السينما بالذات، قضيتان تستدعيان النظرة الناقدة. والأهم من ذلك هو النظر النقدي للمسلمة التي يكاد يتفق عليها الجميع، وهي تجسيد الحارة للمصرية الخالصة، أو تمثيلها لما يصطلح على تسميته بالهوية المصرية الأصيلة.
الحارة وجذور الواقعية السينمائية
تختلف الآراء حول أول أو أهم الأفلام الواقعية المصرية، لكن هناك إجماع على أن فيلم “العزيمة” من إخراج كمال سليم (1939) من أبرز تلك الأفلام. لكمال رمزي دراسة شهيرة في غاية الأهمية نشرت في الكتاب الذي حررته ماجدة واصف بعنوان “مائة عام من السينما المصرية” عام 1996. يقترح كمال رمزي في دراسته المعنونة ببساطة: “الواقعية” ثلاثة أصول للواقعية السينمائية المصرية: “لاشين” من إخراج فريتزكرامب (1937) و”العزيمة” من إخراج كمال سليم (1939) و”السوق السوداء” من إخراج كامل التلمساني (1942 – 1946).
ويرى رمزي في كلٍ من هذه الأفلام ملمحاً قوياً من ملامح الواقعية كما يفسرها: في “العزيمة” تصوير واقعي لعالم الحارة وسكانه بمهنهم وتطلعاتهم الاجتماعية، وللتحديات التي تواجه الأفندي المتعلم الساعي إلى التقدم الاجتماعي. وفي “السوق السوداء” هموم مشابهة، مع لمحة أكثر يسارية وهم اجتماعي أكثر وضوحاً وجذرية، إذ يدين الفيلم جشع طبقات طفيلية تتاجر في مواد التموين في السوق السوداء أثناء الحرب العالمية الثانية. وفي “لاشين” هم سياسي أكثر عمومية، إذ يعرض الفيلم لثورة شعبية تطيح بالسلطان لتضع مكانه حاكماً اختاره الشعب من خارج الأرستقراطية الحاكمة لكن من داخل صفوف الجيش، وكأن الفيلم يتنبأ بحركة يوليو 1952 عندما أطيح بالملك، بفضل ضباط من الجيش.
***
اللافت للنظر في تلك النظرية حول أول فيلم واقعي مصري هو أن الأفلام الثلاثة من إنتاج ستوديو مصر، وأنها جميعاً تدور بالأساس في قلب حارة في “العزيمة” والسوق السوداء”، أو تلعب الحارة فيها دوراً محورياً مثلما في “لاشين”. إذاً، حتى قلعة الرأسمالية الناشئة في ثلاثينات القرن العشرين كانت تتبنى الفكرة القومية التي ترى في الحارة مجازاً، أو واحداً من مجازات الفكرة المصرية وتجلياتها، حتى لو لم تكن تلك سياسة واضحة وعمدية في أذهان الإدارة آنذاك. ليست الحارة فقط صورة بيانية تشير إلى فكرة مصر الوطن أو “الأصالة” أو “أولاد البلد” عند المتعاطفين مع المنظورات اليسارية للمجتمع والمحتفيين بطبقاته الكادحة، بل هي أيضاً أيقونة يرضى رأس المال المحلي عن معناها الاجتماعي والسياسي. فلكأن اليمين واليسار يتفقان على محورية الحارة كصورة جامعة في المخيلة الجمعية للمصريين.
في مجال دراسة الحارة السينمائية المصرية تبرز كلاً من رسالة مي التلمساني للدكتوراة والتي نشرت نسخة منها بالعربية في كتاب بعنوان “الحارة في السينما المصرية 1939 – 2001” ورسالة فيروز السيد كراوية للماجستير، التي نشرت نسخة منها بالعربية في كتاب بعنوان “مباني الفوضى: سينما العشوائيات بين عقل طبقة وعقل نظام”. تلقي التلمساني الضوء على ارتباط الحارة بفكرة ابن البلد منذ القرن التاسع عشر على الأقل، عند الجبرتي مثلاً، وعلى مركزية الحارة -لا سيما تلك الواقعة في القاهرة القديمة- في تصور السينما المصرية عن العلامات البصرية الدالة على الأصالة، مقابل علامات التحديث المكانية في الأحياء ذات الطابع الأوروبي الحديث، وذلك منذ ثلاثينات القرن العشرين في “العزيمة” حتى نهاية القرن.
***
أما فيروز كراوية فتستخدم مفهوم العشوائيات في مقاربتها ولا تركز على مفهوم الحارة، لكنها في الواقع تكشف عن ارتباط حارات العشوائيات في سينما العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بتصوير بطل شعبي ضد خارج من صفوف المهمشين سكان العشوائيات، يصارع الدولة أو الفساد. أي أنها لا تحلل صورة ابن البلد عموماً، ولا تتوقف عند رصد ارتباط الحارة بالمصري الأصيل، بل تقدم نقداً راديكالياً لمدلولات تلك الأيقونة البصرية، في “حين ميسرة” لخالد يوسف (2007) على سبيل المثال.
لا تعنى أي من الدراستين البحث عما إذا كانت الحارة -أو الحارات- لها أصل غير مصري. والحق أن هذا الموقف منطقي لأن الحارة كوحدة عمرانية مكون أساسي من مكونات المدينة العربية المسلمة منذ العصور الوسطى، فلا يخطر بالبال أن ظهور الحارة في السينما المصرية ناتج عن مؤثر خارجي. ما أسعى إلى تأمله هنا هو تلك المصادفة التي جعلت من الحارة الأمريكية النيويوركية علامة بصرية هامة في السينما الواقعية الأمريكية في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، سبق عرض -بل وإنتاج- فيلم “العزيمة”، الذي يتواتر اعتباره الأصل الأوحد للواقعية ولتصوير الحارة في السينما المصرية، رغم تعقد فرضية جذور الواقعية السينمائية، على النحو الذي بينه كمال رمزي، والذي أزعم أنه يؤسس أيضاً لتعقد فرضية اقتصار أصل الحارة في السينما على فيلم واحد فقط، مثل “العزيمة”. لكن ارتباط “العزيمة” بصورة الحارة لا شك فيه، بل إن عنوان الفيلم في السيناريو الأصلي كان “الحارة” قبل أن يتم تغييره إلى “العزيمة”.
***
أزعم أن مقالي هذا هو أول دراسة عن فرضية “اقتباس الحارة الأمريكية في السينما المصرية”. فهناك فيلم أمريكي غير معروف في مصر، عرض قبل “العزيمة” بعامين، ويدور بالكامل في حارة من حارات نيويورك. والمقال يناقش التشابهات بين الحارة الأمريكية والمصرية من خلال الفيلمين الواقعيين العلامتين، المنتجين في ثلاثينات القرن العشرين، عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية. ويطرح المقال تساؤلاً حول احتمال اقتباس الفكرة من السينما الأمريكية في السينما المصرية (وهو للحق احتمال ضعيف). لكن أياً كانت الحقيقة، إن كان الفيلم المصري قد استلهم الفيلم الأمريكي، أو أن المصادفة قد شاءت أن تجمع بين الفيلمين بعض التشابهات، فالمؤكد أنه من المثير فكرياً وتاريخياً ان نتأمل بعض أوجه المقارنة بين الفيلمين.
هل الحارة المصرية أمريكية؟
قبل أن يبدأ ستوديو مصر في إنتاج فيلم “العزيمة” من إخراج كمال سليم حوالي عام 1938، عرضت هوليود فيلماً علامة في تاريخ السينما الأمريكية: “الحارة السد” (1937) (Dead End) بطولة همفريبوجارت وجويل ماكري (Humphry Bogart; Joel McCrea)، وإخراج ويليام وايلر (William Wyler) وإنتاج صمويل جولدوين (Sameul Goldwyn). أي أن الفيلم الأمريكي قد عرض قبل الشروع في إنتاج “العزيمة” بعامين، وعُرِضَ قبل عرض “العزيمة”بعام كامل.وإن لم تكتب استمرارية الشهرة لفيلم “الحارة السد” الأمريكي، فإن هذا الفيلم جدير بالحصول على اهتمام المتفرج العربي بنفس القدر من الاهتمام الذي يحظى به فيلم “العزيمة”. لأن المقارنة بين الفيلم الأمريكي والفيلم المصري تفتح الباب لإعادة النظر في تصوراتنا المستقرة عن الحارة المصرية، والمرتبطة ارتباطاً قوياً بفيلم “العزيمة”.
كثيراً ما يعتبر المؤرخون السينمائيون أن أول عرض لفيلم كمال سليم “العزيمة” هو تاريخ ميلاد الواقعية في السينما المصرية، باعتبار أن الفيلم يدور في وسط شعبي لم يتم تجميله وتزويقه، وباعتبار أنه يعرض للعمارة والتشكيل العمراني والمهن الأساسية والملابس الأصيلة في مكان من أكثر الأماكن تعبيراً عن الطبقات الشعبية والطبقات الأعلى المتطورة عن أصول شعبية. والحارة -بالذات كما صورها كمال سليم في فيلمه “العزيمة”- ترسخت بعد عرض الفيلم بوصفها أيقونة بصرية وفكرية تجسد الأصالة المصرية في الرواية والمسرح والتلفزيون، بل وفي المخيلة المصرية الجمعية. وعناصرها الفضائية من مقهى ومحل بقالة ومحل حلاقة، أو شخصياتها من لابسي العمم والجلابيب من ناحية، ولابسي البدل والطرابيش من ناحية أخرى، وما بين هذين الطرفين من توفيقات، قد صارت مرادفات للتعبير البصري عن “الأصالة” المصرية، على الأقل في المدينة الحديثة.
***
لا أفترض أن الفيلم المصري “العزيمة” قد اقتبس أو تأثر بالفيلم الأمريكي “الحارة السد”، لكني أطرح التساؤل حول تلك المصادفة التاريخية المجهولة بالنسبة لمعظم المهتمين بتاريخ السينما العربية. فالتشابهات بين الفيلمين عامة: محورية الحارة في الأحداث، تصوير الفقر والطبقات الشعبية البسيطة، تقديم الحارة كمجاز يشير إلى الطبقات الكادحة أو الساعية إلى التقدم الاجتماعي، تقديم سكان الحارة كبطل جماعي، مع التركيز على بعض الشخصيات وعلى علاقاتها العاطفية، والمقابلة بين عالم الحارة الأصيل والفقير وعالم الطبقات العليا في المدينة الواحدة: القاهرة في الفيلم المصري، ونيو يورك في الفيلم الأمريكي. لكن المربك أن “العزيمة” قد عرض بعد “الحارة السد” بعامين وأن الفيلمين يدوران في مكان محوري واحد، هو الحارة، التي تعبر عن الأصالة الأمريكية في حالة والمصرية في الحالة الأخرى، من خلال تصوير حياة الفقراء والبسطاء داخل الحارة وتفاعلهم مع الأثرياء.
الفيلم الأمريكي “الحارة السد” مأخوذ عن مسرحية بالاسم نفسه نجحت نجاحاً كبيراً على مسارح برودواي وتشكل حلقة منسية من الواقعية الأمريكية في السينما. عرضت مسرحية “الحارة السد” من تأليف سيدني كينجزلي (Sidney Kingsley) على مسارح برودواي بنيويورك عام 1935، واستمر عرضها بنجاح لما يقرب من عامين، حتى تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1937. والفيلم بذلك لا ينفصل عن سياق كامل في الولايات المتحدة، تصاعدت فيه وتيرة تقديم أعمال واقعية ملتزمة اجتماعياً بتصوير أحوال الطبقات الكادحة والمهمشة، لاسيما بعد انهيار سوق الأوراق المالية في ديسمبر 1929 والذي عصف بمقدرات الملايين من البسطاء في الولايات المتحدة. ذلك الظرف التاريخي في البلاد قد أنتج العشرات من الأعمال الواقعية التي تبدو لنا اليوم غريبة على الذوق “الهروبي” لصناعة السينما التجارية في الولايات المتحدة.
الحارة السد
يبدأ فيلم “الحارة السد” بلوحة مكتوب عليها نص قصير، أول سطر فيه هو: “كل شارع في نيويورك ينتهي إلى نهر”. وتشير اللوحة إلى أن ضفاف نهر الشرق (إيست ريفر) الموحلة بنيويورك لطالما ضاقت بمساكن الفقراء المكتظة، ثم جاءت لحظة اكتشف فيها الأغنياء أن منظر النهر خلاب فبنوا مساكنهم بالقرب منه. منذ الثانية الأولى في الفيلم يصف السيناريو الفضاء حيث تتجاور فيه مساكن الفقراء البائسة مع قصر قوم أثرياء، وهو ما “تشرحه” الكاميرا بتجولها في الديكور، فيتضح البعد الطبقي للقصة بجلاء، وإن كانت خيوطها بسيطة تستلهم تقاليد التناقضات الميلودرامية الحادة. فخلفية الأحداث وعرض بورتريهات عديدة لفقراء الحي ولمجرميه (وزعيمهم هو همفريبوجارت) تتفصل عليها قصة حب بين ابن الحارة الفقير الذي لا يظل حبيس الحارة، بل يصنع لنفسه مستقبلاً خارجها (مثل شخصية حسين صديقي في “العزيمة”)، ويلعب دوره النجم جويل ماكري، وبين الفتاة التي تنتمي لعالم الأثرياء، ساكنة القصر، التي تعيش فيه لأنها عشيقة لرجل ثري، وتلعب دورها ويندي باري. تتمنى ويندي باري أن ترتبط بجويل ماكري، لكنه -وإنكان يعمل مهندساً معمارياً – لا يتمتع بوظيفة ثابتة، ولا يستطيع أن يوفر لها حياة الرفاهية التي تعيشها مع عشيقها الثري.
***
في “الحارة السد” كما في “العزيمة” واقعية تصوير المكان في شكله وطريقة كلام سكانه وحركاتهم تمثل لب الجماليات السينمائية. لكن حارة “العزيمة” تستلهم شكل الحارة في القاهرة الإسلامية -وإن كانت أوسع- فهي مكان شبه مغلق، به منفذ يفضي إلى الخارج، إلى حارات أخرى، ثم إلى القاهرة الحديثة المنشأة بروح أوروبية. وهي حارة يتجاور فيها بيت الثري مع بيت المستور مع بيت المحتاج. أما حارة “الحارة السد” فتتميز -مثل الكثير من حارات نيويورك منذ مائة عام- بكونها تفضي إلى النهر، وبذلك فهي تحمل -على المستوى الجغرافي والرمزي- أملاً وإمكانات التطلع إلى عالم أرحب، بسبب الأفق المفتوح على مساحة النهر. والفضاء في الفيلم الأمريكي مقسم بسيمترية واضحة، فإلى اليمين تقع مساكن الفقراء المكدسة بالبؤساء والأشقياء، وإلى اليسار -قبالتها- تقع مساكن الأغنياء المنعمين. وكأن الصراع الطبقي في الفيلم معبر عنه سيمائيا من خلال بنية المكان.
***
ربما يذهب الفيلم الأمريكي “الحارة السد” في واقعيته إلى مدى أبعد من فيلم “العزيمة” المصري. فالبطولة في “الحارة السد” يتقاسمها رجلان: جويل ماكري، ابن الحارة الذي يسير على درب يؤدي به إلى الطبقة الوسطى، بفضل جده وإخلاصه وبفضل التعليم، وهمفريبوجارت، ابن الحارة الذي يحترف الإجرام ولا طريق أمامه إلا ذلك المؤدي إلى السجن أو الهلاك، ويذكرنا بنموذج بلطجي الحارة في العديد من الأفلام المصرية. وربما وجدنا تشابهاً بين شخصية همفريبوجارت في الفيلم الأمريكي وشخصية عبد العزيز خليل (المعلم العتر) في الفيلم المصري، من حيث دورهالإجرامي في المسار الدرامي للفيلم وفي دلالته الاجتماعية. لكن الفيلم الأمريكي يعرض إجرام همفريبوجارت بوصفه وليد الظروف الاجتماعية القاسية، التي تجعل بعض الشباب مضطرين إلى احتراف الإجرام كوسيلة للحصول على الاحترام والدخل اللائق، ولا يكتفي بإظهار الشرير بصورة أحادية، مثلما في حالة الجزار المعلم العتر في الفيلم المصري. كما أن الفيلم الأمريكي لا يسرف في خلق التناقضات بين ابن الحارة الطيب وابنها الشرير، بينما في الفيلم المصري -جريا على تقاليد الميلودراما- فالتناقض بين الأفندي والمعلم داخل الحارة ليس فقط اجتماعيا وأخلاقيا، بل هو أيضاً عاطفي، إذ إن الرجلين غريمان يتنافسان على حب حسناء الحارة، فاطمة رشدي.
***
“الحارة السد” يعرض بورتريهات ومواقف وحالات، وبه قصة بوليسية معقدة، وفيه مواقف عاطفية عالية، وميلودرامية، لكن الفيلم بشكل عام يعرض قصصاً كثيرة مختلفة تصور الفقر والانحراف بسبب الظروف الاجتماعية.على العكس من ذلك، فحبكة “العزيمة” الميلودرامية تركز على خط درامي أساسي، وهو تقلبات علاقة الحب بين حسين صدقي وفاطمة رشدي من تناغم، ثم تنافر، ثم ألم بسبب خطبتها إلى غريم حسين صدقي، ومعارك في نهاية الفيلم بسبب الصراع بين الرجلين على البطلة الحسناء. تعقيد الحبكة في الفيلم الأمريكي يرجع إلى أنالمشاهد يحتاج إلى بذل مجهود كبير نظراً لتعدد الشخصيات من سكان الحارة، إن أراد تتبع أحوال كل شخصية. لكن لا توجد قصة حب واحدة تتجمع فيها كل الخيوط. في “الحارة السد”، المكان ورمزيته الاجتماعية هو البؤرة التي تنطلق منها كل الخيوط وتنتهي إليها. إلا إن “الحارة السد” ينتهي أيضاً بمعركة لها طابع الأفلام البوليسية.
***
يعرض الفيلم ثلاثة مسارات اجتماعية في الحارة:أولاً، مسار الأثرياء الذين يفصلهم عن سكان الحارة الفقراء سور عالٍ؛ ثانياً، مسار الناجين الملتحقين بالطبقة الوسطى مثل جويل ماكري الذي ترقى في الحارة بفضل التعليم والتوظف كمعماريٍ، وإن كانت الأزمة الاقتصادية تفرض عليه أن يتنقل من عمل صغير إلى آخر، لكنه يشكل الضمير الاجتماعي في الحارة، إذ يحاول دوماً إنقاذ شبابها من الانخراط في سلك الإجرام، بل ويتصدى لهمفريبوجارت الذي يخطف ابن الأثرياء طمعاً في الحصول على فدية؛ ثالثاً مسار الأشقياء الذين يمارسون سرقات صغيرة، إلى أن يصيروا مثل همفريبوجارت مجرمين محترفين خطرين، أو مثل حبيبة بوجارت السابقة التي امتهنت الدعارة. تنشب معركة نهائية بين ماكري وبوجارت، أي بين ممثلي الخير والشر، المواطنة الصالحة والإجرام، بسبب إصرار ماكري على إفشال مخطط بوجارتلخطف طفل ثري، وتنتهي المعركة بسقوط بوجارت من أعلى بناية سكنية. ثم يصل رجال البوليس فيتبادل بوجارت إطلاق النار معهم إلى أن يقتل في الاشتباك.
يرحل ماكري مع صديقة طفولة من بنات الحارة ويعدها بالإنفاق على الدفاع عن أخيها الذي انزلق في الجريمة. فينتهي الفيلم الأمريكي ببارقة أمل، لكن مع تخييم حزن واقعي بعد أن سالت دماء بعض الأثرياء وبعد أن قتلت الشرطة المجرم ابن الطبقات الفقيرة في الحارة. نهاية “الحارة السد” أكثر إظلام -وبالتالي أكثر واقعية، بمعنى ما- من فيلم “العزيمة”، لكنها -مثلما في “العزيمة”- مبنية على فكرة الشاب المتعلم ذي المستقبل الذي يرتبط ببنت الحارة الصالحة، فاتحاً بذلك طريقاً للترقي الاجتماعي بعمله خارج الحارة.
اقتباس أم مصادفة؟
هناك العديد من التشابهات بين الفيلمين الأمريكي والمصري، ولا جدال في أن الفيلم الأمريكي قد سبق الفيلم المصري، وسبقتهما مسرحية بالبنية نفسها والعنوان نفسه والتركيز على الحارة. لكن من الصعب أن يقطع المؤرخ والناقد بأن كمال سليم قد استلهم فيلم ويليام وايلر في غياب وثائق وشهادات تدل على ذلك. المؤكد أن المقارنة بين الفيلمين تثري التفكير في التشابهات بين سينمات مختلفة، وتسهم في إعادة النظر في تاريخ السينما المصرية وتاريخ الواقعية البصرية، وتلك السينمائية تحديداً. كما أن تلك التأملات تذكرنا بأن الظروف الاجتماعية في المدينة المصرية لم تكن تختلف جوهريا عن مثيلتها في بعض أحياء كبرى المدن الأمريكية. لكن تسارع وتيرة ومعدلات التنمية في الشمال هي التي تجعل مشاهد اليوم مندهشاً من وجود حارة أمريكية -منذ ما يقترب من قرن- في الواقع وفي السينما، تشبه حاراتنا في أحيائنا وعلى شاشاتنا.
اقرأ أيضا:
وليد الخشاب متأملا تجربة فؤاد المهندس: الكوميديا مسألة جادة!