الأرشيف الفلسطيني: من يكتب حكايته يرث أرض الكلام
«الكبار يموتون، والصغار ينسون» سياسة خطيرة اعتمدها الاحتلال الصهيوني في محاولاته المستمرة للقضاء على فلسطين دولة وشعبا، زمانا ومكانا، وكرسوا في تحقيق ذلك كل إمكاناتهم. وسعوا لطمس كل ما سطره الفلسطينيون عبر التاريخ من وقائع حضارية بشقيها المادي الملموس ويشمل العمارة السجل الخاص لواقع الشعوب وحضارتها بما أنتجته من مبان تعيش فيها وتتناسب مع طبيعتها وواقعها. والشق المعنوي المحسوس وما يشمله من وعادات وتقاليد وأمثال وحكم وأغاني وأزياء ومأكولات وغيرها من مكونات الموروث الثقافي وكون الاحتلال يلعب على عوامل الإبادة والنسيان، فيجب إبقاء هذا التراث حاضرا.
أهمية توثيق الذاكرة
تنبّه الفلسطينيون إلى ضرورة توثيق تاريخهم الشفهي لكتابة وثائق تاريخية تحفظ الذاكرة الفلسطينية أو ما تبقى منها فيما بدا أنه سباق مع الزمن لجمع أكبر قدر من الشهادات الحية لجيل النكبة الفلسطينية.
كتب بنديكت أندرسون: “الأمم تراكم ذاكرتها من خلال الكلمة المطبوعة” وبالنسبة إلى الفلسطينيين فإن جزءا كبيرا من مصادرهم المكتوبة اختفى مع الحرب التي لم تكن حربا بالمعنى التقليدي. وإنما كانت مشروعا كبيرا للتطهير العرقي. هذا المشروع لم يهدف فقط إلى تهجير السكان عن ديارهم أو تدمير قراهم. لكن أيضا إلى إخراس ذاكرة المقتلعين وطمس مشهدهم الحضاري والثقافي. وفي هذا السياق تعرضت المدن الفلسطينية بدورها لعملية تفريغ واقتلاع للسكان ومصادرة لكل أملاكهم بما في ذلك إرثهم الثقافي كجزء لا يتجزأ من عملية التهويد الشاملة”.
تدمير الإرث الثقافي المكتوب
نسبيا كتب الفلسطينيون عن القرى المدمرة أكثر مما كتبوا عن المدن. وقد غفل الفلسطينيون بصورة عامة عن حقيقة كون المدن الثقافية الحاضنة للمجتمع الفلسطيني ولهويته التي كانت في طور التشكل وعلى الأغلب فإن الأثر السلبي الذي أحدثه احتلال وتفريغ المدن الفلسطينية من إرثها كان أشد تخريبا من تدمير القرى الفلسطينية، ناهيك عن الضربة الشديدة التي أصابت المثقفين أنفسهم. فقد دُمّر وضاع ونهب الكثير من الإرث الثقافي والقانوني المكتوب للشعب الفلسطيني. سجلات الأملاك والأراضي؛ المكتبات العامة؛ الصحافة المطبوعة وأرشيفها؛ أوراق أجهزة الحكم المحلي. سجلات المستشفيات والمصارف والمدارس ومعاهد العلم والمراكز الثقافية. بيانات وأرشيف معظم الأحزاب السياسية واللجان القومية؛المكتبات الخاصة والأوراق الشخصية والمذكرات لكبار المثقفين والكتاب والسياسيين. وباختصار دُمّر كامل الإرث الثقافي المكتوب في المناطق التي أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية، والتي كانت تشمل أهم المراكز الثقافية للمجتمع الفلسطيني.
مشكلات البحث في التاريخ الشفوي الفلسطيني
أصبح التأريخ الشفاهي البديل لذاك التراث المكتوب المفقود. وقد ظل البحث في التاريخ الشفوي الفلسطيني طوال الفترة الماضية معتمدا على المبادرات الفردية. كما أن العمل المؤسسي في هذا المجال ظل هو الآخر موسميا ومتعلقا بتوفر التمويل. لقد عملت الكثير من المؤسسات والجامعات المحلية وحتى بعض وزارات السلطة في هذا المجال. ولكن فقط على مشاريع محددة، ولم ينجح أي منها في جعل التاريخ الشفوي برنامجا دائما على أجندتها، ولا تكوين أرشيف منظم وقابل للاستخدام رغم المحاولات المتكررة. بل إن بعض المؤسسات التي كانت رائدة في هذا المجال تخلت عنه ولا أحد يدري ما جرى لأرشيفات ومواد تلك المؤسسات. وهي بحكم المفقودة إما بسبب إغلاق هذه المراكز، أو تخلي المبادرين لهذه المشاريع عنها بعد تركهم لهذه المؤسسات.
التفاوت الكبير في مستوى الأرشيفات
ربما لهذه الأسباب أصبح إنشاء أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني أمرا حتميا. وباتت مواد الأرشيف متوافرة على موقع إلكتروني خاص به ومتخصص من نواح مختلفة على مستوى البحث والوصول إلى المعلومات الواردة في 1000 ساعة من شهادات الجيل الأول من الفلسطينيين في المخيمات والتجمعات الفلسطينية الأخرى في لبنان. ويركز المشروع على الروايات الشخصيّة حول النكبة، وهي اللحظة المفصلية الحاسمة في التاريخ والتجربة الجماعية للفلسطينيين.
بداية الأرشيف
تعود قصة هذا الأرشيف إلى العام 1991، حين بدأ مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية “الجنى” بتوثيق التاريخ الشفوي للاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان. ولاحقا “أرشيف النكبة”، حيث رأت كل من المبادرتين أهميّة جمع الروايات قبل ضياعها بتقادم الوقت وتقدّم عمر اللاجئين. مع الأخذ بعين الاعتبار الوقت الذي انقضى منذ النكبة ومرور الوقت الطويل على حكايتهم. باتت ذاكرة هؤلاء تشكل أهمية قصوى للحفاظ على إرث الشعب الفلسطيني الإنساني والحضاري والتاريخي. كذلك أصبحت ذاكرتهم عن قراهم ومدنهم وحياتهم قبل النكبة واستمرار تداولها شكلا من أشكال المقاومة.
قيمة الذاكرة للاجئين الفلسطينيين
شكلت لدى مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية “الجنى” وأرشيف النكبة، التزاما بإعلاء صوت الشعب لذلك تم توظيف المحاورين من المجتمعات المحليّة. إذ عملوا على تطوير الاستبيانات وتحديد من أجريت معهم المقابلات. وذلك لضمان أن يبقى المشروع وثيق الصلة مع المجتمعات التي يراد أرشفة قصصها. كذلك فإن من أجريت معهم المقابلات يعودون إلى 130 قرية ومدينة فلسطينية، وإلى خلفيات اقتصادية واجتماعية متباينة.
ولقيمة ما تم جمعه من أرشيف شفوي، اقترح الأكاديمي الفلسطيني الدكتور ساري حنفي على المؤسس والمنسق العام لمركز المعلومات العربي للفنون الشعبية “الجنى” السيد معتز الدجاني، ومؤسسا موقع “أرشيف النكبة” محمود زيدان وديانا آلان. التوجه إلى معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية لأرشفة وحفظ مجموعات التاريخ الشفوي وإتاحتها. هكذا أبصر مشروع التاريخ الشفوي الفلسطيني النور في الجامعة الأميركية في بيروت عام 2011.
يشير الموقع الرسمي للأرشيف إلى أن الهدف الرئيسي له هو تسهيل إمكانية الوصول إلى الشهادات التاريخيّة الشفويّة بكل ما فيها من غنى ودلالات متعددة مع الحفاظ على شفويتها وسياقها. وتحسين استخدام مصادر التاريخ الشفوي ونشر التجارب المتراكمة؛ وهذا من شأنه فتح زوايا وآفاق جديدة في تاريخ فلسطين الحديث. ووصول العالم إلى الأرشيف الفلسطيني الذي يتكون من ألف ساعة للأرشيف الشفوي. وأهمية ذلك لتأكيد الاحتفاظ بالتاريخ الفلسطيني بحكم بعثرة أماكن وجوده وإبقاء الذاكرة الفلسطينية على قيد الحياة.
محتوى الأرشيف
نتج عن جهود المؤسستين إنشاء أكثر من 700 شهادة بصريّة وسمعية. والتي تم دمجها في مجموعة واحدة متوفرة لدى أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني. وجرى تنظيم هذا الأرشيف ضمن أربع مجموعات فرعيّة:
الاقتلاع: يتضمّن الجزء الأكبر من المجموعة، أرشيف النكبة (558 ساعة فيديو) وجزء من مجموعة “الجنى” (136 ساعة من التسجيلات الصوتية). تم التركيز على تجربة الاقتلاع والنزوح الجماعي للاجئين. ويشمل هذا الجزء أيضا روايات عن الحياة الفلسطينية تحت الانتداب البريطاني وخلال حرب 48 بما في ذلك تجارب النفي والتهجير إلى لبنان.
القصص الشعبيّة: يتضمن هذا الجزء (172 ساعة من التسجيلات الصوتية). على شكل مرويات وقصصٍ، وأغانٍ شعبيّة، وأمثال وأشعار فلسطينيّة.
عين الحلوات: يتضمّن هذا الجزء (36 ساعة فيديو) ويشمل قصصا لسيدات مخيم عين الحلوة الفلسطيني في جنوب لبنان. يتحدثن عن مهنهن، وحياتهن العائليّة وأدوارهن في إعادة تأسيس المخيم.
سير حياة: يتضمن هذا الجزء 160 ساعة من التسجيلات الصوتية. ويشمل توثيقا لقصص حياة رجال ونساء لعبوا دورا مهما في مجتمعهم وكانوا مصدر إلهام. وعليه أصبحت الذاكرة الجماعية الفلسطينية ووجود أرشيف يحفظ ويتيح كل الشهادات الشفهية ليسوا مجرد حاجة ملحة فحسب. بل أيضا أمر وجود وبقاء في معركة بناء الهوية والصراع بشأن الشرعية.
تاريخ وتراث
هكذا كانت المأساة وكانت النكبة وكان النزوح.. رحل الناس وفي صدورهم وقلوبهم وعقولهم بقيت فلسطين بتاريخها وتراثها وجغرافيتها. أصبحت فلسطين منقوشة في ذاكرة الفلسطينيين. وبفضل الذاكرة أصبح الفلسطينيون يذكرون ويتذكرون كل أنماط ومظاهر حياتهم الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية في فلسطين. بل إنهم رسموا وسجلوا في صفحات هذه الذاكرة قصص البطولة. وحكايات النزوح والتهجير والمعاناة المستمرة منذ ذاك التاريخ البعيد وحتى الآن.
هذه هي الذاكرة الفلسطينية الحيَّة التي ما زالت تتحدى وتواجه كل المحاولات الصهيونية الهادفة إلى إرباكها والقضاء عليها من أجل تعزيز الرواية الصهيونية الكاذبة. فبدون توفر الرواية الشفوية لا يمكن الاستمرار في رسم وإعداد وتنفيذ هيكلية التاريخ الشفوي المطلوبة.
فالثقافة مكمن الاشتباك في ظل وجود احتلال يستغل الرواية لترسيخ وجوده الاستيطاني. وكما يقول الشاعر محمود درويش: «من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماما»، وكما تقول هبة أبو ندى: “إن قضينا فتلك شهادة شرف وأن بقينا فلنروى الحكاية ونضع قصتنا في عيون العالم أجمع ومابين هذا وذاك لنا طقوسنا في البكاء والصبر والحزن والتذكر والأمل واليأس”.
ومن هنا كتب وروي الكثيرون عن فلسطين من باب تأريخ الأحداث عبر الزمان بدءا من الانتداب وصولا لليوم. بالتأكيد لا تاريخ بدون وثائق، ومن لا يملك هذه الوثائق لن يتسنى له أبدا أن يسطر تاريخا دقيقا بطبيعة الحال وصحيح أن الكبار يموتون. وهذه سنة الحياة، ولكن الصغار لا ينسون بل إنهم أشد تمسكا بإرثهم وبذاكرة الوطن فلسطين.