إبراهيم نصر الله شاهدا: ذاكرة الجراح المفتوحة
في ظل ما يجري الآن على ساحة المقاومة والصمود، يبزغ تاريخ طويل وممتد من إرث ثقافي، تمثل في زخم من ثقافة مناضلة سادت عبر عقود مديدة، عبرت عن صحوة نابضة تهدد بجسارة وجدارة في تجذير واقع الكفاح والنضال. حيث تصدرت صور ومشاهد البسالة رموز مضيئة من المفكرين والكتاب، تحمل تحديات مركبة، فتطرق طرائق عديده من التعبير، وتجهر بزادها من الكلمة والسلاح؛ نحو تجدد وازدهار الحياة.
وكأن اقتسام المأساة، قدر المثقف، عاشها، وكتبها غسان كنفاني وإميل حبيبي وسحر خليفة وإلياس خوري وإبراهيم نصر الله حيث تواشجت الينابيع والروافد.
“مجرد أن قالوا لي إنني قد مُت، وإن علي أن أدفع مائة ريال مساهمة منى في نفقات دفني، أدركت أن هناك مؤامرة تحاك ضدي”، جملة رددها إبراهيم نصر الله أثناء سيره في أحد شوارع عمان في العام 1982، وكتبها في ورقة ووضعها في جيبه. بعد أن عاد من العمل في السعودية لمدة عامين كمدرس، حيث كانت سطوة التجربة ومراراتها والاصطدام المباشر بالموت التي صاحبها، كانت من حيث القوة والتأثير إلى درجة عدم القدرة على تجاوزها بالزمن أو التعبير عنها بالشعر. وقد وجد أن هذه القصائد ليست أكثر من محاولة لوصف الحالة لا العيش فيها، ومحاولة للدوران حولها لا خلقها من جديد عبر الكتابة.
ويروي أن رواية “براري الحمىَّ” قد تحدد مسارها، لأنها مضت نحو تجسيد حالة الموت في الحياة، ورسمت خط سيرها الغرائبي الذي راح يمزج الواقع بالأسطورة ويمنح الصحراء مرتبة البطولة، ويواخى بين الكائنات المطحونة فيها، بشرا كانوا أم حيوانات، ويوحد الجميع في الكابوس حيث لا مكان للحلم.
وكانت دفقه الكتابة مشحونة بأجواء التمسرح، حيث امتزجت الأساطير والخرافات الشعبية بالواقع “حيث صرت شخصا آخر”، “حرا من الحالة التي لامست فيها الموت وتأرجحت على حوافه”.
***
وفي العام 1987 ذهب إبراهيم نصر الله إلى الأرض المحتلة، وفي مدينة رام الله بحث عن قريته التي حدثه أبيه عنها، فلم يعثر عليها؛ فقد طالها المحو، حيث شيد الصهاينة مصنعا للسلاح فوق أشجار الزيتون. وقريبا من القدس طاف وطرق الطرق وعرف الجغرافيا وعاد إلى عمان، حيث كتب كتاب نثري “الأمواج البرية”، آنئذ، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية، فكانت الكتابة نبوءة أو أن الواقع الفلسطيني من الداخل، كان أحوج إلى من يراه وينقله بوعي فني.
وكتب رواية “عو” مدفوعا بقوة التعبير عن الحال العربي الموازي لزمن الانتفاضة، مستلهما قصيدته “الفتى النهر والجنرال”، حيث كان يتأمل حال الانتفاضة التي اندلعت في الفترة انفض فيها الشارع العربي عن أحلامه؛ ويرصد العلاقة بين المثقف والسلطة.
ويرى أن فلسطين محاصرة من الخارج بالقسوة نفسها التي تحاصر من الداخل؛ لذا أبرز صورة المثقف النابح وحاله، فضلا عن حال الجنرال كمصدر للرعب.
***
وتأتي روايته “طيور الحذر” سواء في الكتابة الأولى أو الثانية، لتسرد جزءا رئيسيا من تاريخ الشعب الفلسطيني في المنفى، حيث أججت الأحداث والوقائع حرب الخليج الثانية. في ذلك الوقت، راحت المأساة تكثف تاريخها من خلال ذلك الحشد الهائل من النساء المتشحات بالسواد، يصطحبن أطفالهن؛ وحيدات وليس ثمة رجل واحد؛ كن مجموعة من الفلسطينيات الخارجات بأعجوبة من بين فكي الحرب دون أزواجهن، ودون أي أمل بالسماح لهن ولأطفالهن بالدخول إلى أي من بلاد العرب الواسعة؛ لأنهن فلسطينيات وبلا هويات أو جوازات سفر معترف بها من قبل الجميع.
وهكذا كان عليهن أن يمضين عدة أيام فوق برد الرخام قبل أن يتفضل بلد ويسمح لهن بدخول أراضيه. آنذاك، أحس بأن هؤلاء ذاهبون إلى مذبحة جديدة تنتظرهم.
وانبعثت بذرة رواية “حارس المدينة الضائعة”، حينما كان يقود سيارته صباح أحد الأيام. وحين وصل إلى أعلى الطريق، حدق طويلا في الانحدار الممتد طويلا، فلم يبصر أي حركة، لم يبصر بشرا ولا عربة ولا عصفورا. كان المشهد فارغا من أي آثار تدل على وجود الحياة لدرجة الفزع وظن أن اللحظة أبدية.
وصار إبراهيم نصر الله الشاعر الذي كتب الرواية، والذي عشق المسرح الإغريقي ومسرح شكسبير، ومارس الرسم والتصوير، وأن تجربته استغرقت محبته للسينما أيضا.