أوراق بديع خيري المنسية: عندما اعتقلوا «الغندورة»
يكتب هنا الشاعر والمسرحي الشهير بديع خيري عن سنوات عمله الأولى في التأليف لمنيرة المهدية.. والمؤامرات التي حاكها منافسوه ليجلس في منزله.
بديع خيري
ففي عام 1915 أصيب الشيخ سلامة حجازي بالشلل فتقاعد ولم يستطع مواصلة التمثيل، انتهزت الفرصة منيرة المهدية وقدمت نفس مسرحيات الشيخ سلامة، وكانت بذلك تضطر إلى تمثيل شخصية الشيخ سلامة، إلا أن ارتداءها لملابس الرجال وفي هذا العصر بالذات كان السبب في أن يتدهور حال مسرحها فاكتفت بحفلات الغناء المجردة من التمثيل.. حتى هذا اللون هو الآخر تدهور فقررت إنشاء صالة أسمتها صالة ليدو- مكان داود عدس حاليا- لكي تنافس بها صالات مطربات ذلك الحين أمثال نعيمة المصرية.. وتوحيدة صاحبة صالة ألف ليلة وليلة. ولم أكن أنا في هذه الفترة أعرف منيرة المهدية معرفة مؤلف مسرحي، اختلاطي بها كان في المناسبات الفنية، حتى عام 1923 عندما استدعتني منيرة ووقتها كانت قد سمعت أني حصلت على جائزة التأليف عن مسرحية “فتح السودان” والطريف أنني وقتها حصلت على قيمة الجائزة من وزارة الأشغال والتي كانت في هذا الوقت تشرف على التمثيل في مصر بحكم أن الأوبرا كانت تتبع مباني الوزارة… وبالتالي ما يدور بداخلها يتبع الوزارة أيضا، وطلبت مني تكوين فرقة مسرحية محدودة الأفراد وضاعف هذه الفكرة عندها الحاج مصطفى حفني صاحب مسرح برنتيانا بعماد الدين- مكان سينما بيجال الآن- بأن أعطاها المسرح مجانا وسبب ذلك أنه كان معجبا بطرب منيرة المهدية!! وفي أقل من سبع ساعات تم تكوين الفرقة من بشارة واكيم وفؤاد فهيم وماري كافوري وتوفيق المردنلي وإحسان كامل – والذي سمى إحسان عبدالقدوس بإسمها اعترافا من السيدة فاطمة اليوسف بجميل ومساعدة إحسان كامل لها لحظة ولادتها لنجلها إحسان- وتم أيضا تأليفي لأوبريت “الغندورة” من تلحين داود حسني وكانت «الغندورة» لونا جديدا في المسرح، فالمعروف أن الوضع الفني للأوبريت لا يمكن فيه الاستغناء عن الكورس ولكن ضيق ذات اليد جعل منيرة توافق على الاستغناء عن 50 فردا يشكلون الكورس مستعيضة عنهم بصوتها وشهرتها، واستمرت البروفات على الغندورة أسبوعا كاملا حتى ليلة ما قبل الافتتاح وفيها دعت منيرة المهدية مجموعة من أصدقائها ومعارفها لتستطلع رأيهم وكأنهم لجنة من القومسيون الطبي جاءت خصيصا لبحث حالة الأوبريت.. المهم انتهت البروفة واستدعتني منيرة في حجرتها الخاصة بالمسرح، ثم أغلقت الباب وهمست في أذني بأن الأوبريت ليس في صحة جيدة، بل أنه ضعيف ومصاب بالأنيميا الفنية وتقديمه للجمهور يعتبر صفقة خاسرة، وسألتني إذا كان عندي أوبريت أخرى لتقديمها بدلا منها حيث إن الإعلانات نشرت في الصحف ولصقت على الحوائط، واعتذرت لها وأنا أهرب في طريقي للمنزل شبه دائخ وكأني مصاب بضربة شمس، وفي المنزل أغلقت على نفسي حجرتي كمحاولة للهروب من كل الناس، من المعارف والأصدقاء، حتى من زوجتي فقد عز عليّ أن أرى الغندورة تعتقل داخل متحف وتبقى لي مجرد ذكرى والسبب مجموعة أصدقاء ومعارف منيرة الذين خيل لهم أنهم في ساحة قضاء وقضية في المحكمة وحاجب يقف على باب المحكمة وهو ينادي بأعلى صوت: المدعي عليها الغندورة.. ثم أصدروا دون حيثيات أمرا باعتقالها تاركين لي إساءة الظن بنفسي كمؤلف ودون التطلع إلى ما سوف يحدث لي إزاء تأثير هذه الصدمة.
الغندورة
وفجأة… بعد أيام وأنا أتصفح جريدة الأهرام قرأت مقالا منشورا بها بعنوان “الغندورة” بقلم فكري أباظة، كلمة مديح وثناء على الأوبريت الذي شاهده أمس في صالة منيرة. ومن ضمن سطوره أنه كتب يقول “لقد أدميت أكفنا بالتصفيق يا بديع!” ووقتها خرجت من المنزل جريا إلى شارع عماد الدين ووقفت قرب المسرح أتفرج على الجمهور طوابير من الناس تدخل بانتظام ويخيل إلى أنهم جاءوا من كل مكان من الريف والنجوع والكفور والجبل وكأن الغندورة مكان سياحي ومنيرة بنفسها تطلق البخور وترش عتبة المسرح بماء الرجلة لتحل البركة أكثر… وتجار السوق السوداء في هذه الليلة طرحوا التذاكر التي معهم للبيع في مزاد واتجهت إدارة المسرح إلى وضع كراس مستقلة في الممرات والطرقات لمواجهة الازدحام وشعور لطيف جارف وأنا على البعد يملؤني ويفتح أمامي أبوابا ضخمة للأمل، ويجعلني في كامل سعادتي وكأن الليلة ليلة دخلتي والجمهور لا يزال يتدفق إلى الشباك وبالتالي يتضاعف عندي الفخر والتباهي، وتحية أخرى ادتها إلىّ منيرة المهدية لحظة رؤيتها لي وهي تعتذر بعيونها قبل أن تنطق وتقول “ماتزعلش يا مشمش.. فالمسألة لا أكثر ولا أقل من هزار في هزار” والله يجازي اللي كان السبب، والسبب كان المرحوم محمود مراد المدرس بمدرسة الخديوية الثانوية وكان مؤلف مسرحيات من ضمنها “الباروكة” التي لحنها الشيخ سيد درويش وكان أيضا أول رئيس لجمعية أنصار التمثيل الموجودة الآن، وكان كذلك يضع نفسه في مكان المسؤول الكبير عن كل صغيرة وكبيرة في شؤون منيرة المهدية، الأمر الذي جعله ينصحها مؤثرا على لجنة الأصدقاء والمعارف التي جاءت لمشاهدة البروفة بتأييده في أن الغندورة أوبريت فاشل كمؤلفه ولا مانع من استبدالها بأوبريت آخر من تأليف محمود مراد الذي كان متوهما أنني أزاحمه في ميدان التأليف فأعلن بعد ذلك على أنه مستعد لتوصيل أوبريتاته إلى المنازل وبأسعار متهاودة ومعقولة وأحيانا على أول الشهر.
بديع خيري (6 مايو 1965)
اقرأ أيضا
أوراق زكريا الحجاوي المنسية: كان ذلك عام 1949
2 تعليقات