«أسيوط».. أهل التجارة والموالد
هنا في أسيوط يفتخر الناس لكون مدينتهم تشبه القاهرة إلى حد كبير، فيقولون عنها القاهرة الصغرى. فلا يحتاج الساكن فيها إلى أن يذهب إلى العاصمة المصرية لتوفر كل شيء فيها، من مظاهر حياتية حداثية. فضلا عن المطاعم على الكورنيش ومنطقة الجامعة وغيرها من مواقع التنزه والفسحة. وبالفعل فإنها مدينة حداثية بامتياز، اتخذت من القاهرة نموذجا لها ونجحت في تقليده.
فلا تكاد تلمح فيها شيئا صعيديا بمفهومه التقليدي، فاللهجة الصعيدية تكاد تنعدم فيها إلا في بعض الكلمات. وكذلك فلا يمكنك أن تلمح أحدا يلبس جلابية أو عمامة سوى في مواقف سيارات النقل المتجهة إلى القرى والمراكز أو المصالح الحكومية التي يأتي إليها الناس من شتى اتجاهات المحافظة. ولكن بجولة أكثر عمقا نحو القرى والمراكز الأخرى تستطيع أن تتعرف على أسيوط الصعيدية. فبعض القرى مازالت تحتفظ ببيوت تجاوز عمرها مائتي عام. واللباس التقليدي لأهل الصعيد متأصل في القرى بشكل لا نزاع فيه، كذلك فلبس النساء أصيل.
أهل التجارة
منذ عصور قديمة عرف أهل أسيوط بالتجارة، لذا تظهر على حياتهم الجدية التي تميل إلى حب العمل والإنجاز الشديد فيه. فضلا عن كراهية إضاعة الوقت دون جدوى، وهو ما يفسر السمعة التي اتخذها الناس عن أهل أسيوط بالجفاء وشدة المعاملة. وهي سمعة غير صحيحة، فهم أهل كرم، تجد فيهم حب الضيف وإكرامه. لكن بعيدا عن أوقات العمل التي لا يحب أحد فيها أن يضيع وقته دون إنتاج. تبدو ملامح تلك التجارة متجسدة هنا في المدينة، فلا تهدأ شوارعها بين الذهاب والإياب. أما قيسارية المدينة فلا تكاد تلمح فيها ساكنا على حاله.
لكن أسيوط الثرية بالتجارة تدين بهذا إلى الفترة العثمانية والتي جعلتها أهم مركز تجاري في الصعيد عبر درب الأربعين الشهير. الدرب الذي ينتقل من خلاله التجار والمتصوفة من مصر إلى السودان، ولا يوجد أكثر من قيسارية المدينة التي تبرز هذه السمة في أسيوط. ولفظ القيسارية مفهوم عمراني يعني موقع السوق المغطى بسقف، الذي يتفاعل الناس فيه بين الشراء والبيع. وهذا المفهوم منتشر في الصعيد أكثر من المدن الأخرى في مصر. فمعظم مدن الصعيد الرئيسية تحمل بين شوارعها قيسارية ما زالت تحتفظ بوظيفتها حتى الآن.
***
تستقبلك قيسارية أسيوط من بوابتها عن طريق مسجد المجذوب، التي سميت على اسمه القنطرة القريبة من الموقع. وهي قنطرة جميلة، يعود تاريخها إلى محمد علي باشا. لكنها أقدم من هذا التاريخ بكثير، رسم عليها حيوان خرافي يعتقد فيه الناس أنه يحرسها، تدخل نحو الوكالات والدكاكين الصغيرة. حيث تختلط فيها المهن بشكل معقد، فما زالت تحافظ حتى يومنا هذا على مهن اندثرت في ربوع مصر كلها، بطرق تقليدية قديمة. فضلا عن التنوع المبهر والعميق فيها.
وعلى حسب موقع كل مهنة فيها يمكنك أن تحدد أهميتها، فالمهن رفيعة المستوى كتجارة الأقمشة الحريرية دائما تكون داخل الوكالات نفسها. فتدخل إليها عبر باب منخفض لتجد ساحة واسعة في المنتصف فتح سقفها إلى السماء، فيما تشتمل الجوانب الأربعة من المبنى على دكاكين صغيرة وغرف متعددة. وغالبا ما تكون الوكالة طابقين، وفي بعض الأحيان ثلاثة طوابق، ولم تكن مخصصة فقط لعرض البضائع، بل يتخذها التجار المغتربين مأوى وسكن لهم. وكالة لطفي أحد أشهر الوكالات ما زالت تحتفظ بهيكلها المعماري داخل القيسارية. تلك الوكالة التي أنشأها لطفي عبدالجواد السيوطي أحد أعيان التجارة في مصر، وخصصها وقف لمسجده الواقع بجانب الوكالة.
أهل الموالد
يتداول الناس فيما بينهم أن هناك 365 مولدا في أسيوط بعدد أيام السنة، وهي ظاهرة تبرز تعلق أهالي أسيوط بالموالد بشكل منفرد. وربما بدأت تلك العلاقة من علاقتهم بجلال الدين السيوطي، العلم الأشهر في مصر والمنتسب إلى المحافظة. فهم هنا يفتخرون به إلى حد كبير.
وبالرغم من وفاته ودفنه بالقاهرة وتحديدا في القرافة التي سميت باسمه -قرافة جلال الدين السيوطي- بمنطقة السيدة عائشة. إلا أنهم أقاموا عليه مسجدا ومشهدا هنا وتحديدا في قيسارية المدينة، فبات الناس يزورنه، ويتعلقون به تعلقا زائدا، لدرجة أن بعضهم لا يبدأ عمله في القيسارية إلا بعد أن يضع شمعة على شباك ضريحه، ويحلفون باسمه في معاملاتهم التجارية. فهو الضمان لهم من أي عملية غش أو خداع في البيع والشراء.
لكن السيوطي لا يقف وحيدا هنا في المحافظة فأولياء كثر، مثل سلطان الصعيد الشيخ أحمد الفرغل الذي أقيم ضريحه في مدينة أبوتيج. وهو أحد أهم الشخصيات هنا، يقام عليه مولدا كبيرا في كل سنة شارك فيه شتى طرق الصوفية. ومولد أبوحسيبة الملقب بنصير الغلابة. ومولد الشيخ التهامي في منفلوط. والشيخ الطوابي في أبنوب. بل يصل الأمر إلى الموالد المسيحية مثل مولد السيدة العدرا في الدير المحرق.
***
لا تتوقف الموالد على طول السنة، يمكن أن يتجول المرء في المحافظة كلها طيلة أيام السنة، حاضرا مولدا بعد مولد، واحتفالا بعد احتفال. وتشترك تلك الموالد في طقوس ويتميز بعضها الآخر في طقوس منفردة خاصة بها، فمولد الشيخ الفرغل ينفرد بطقس الزفة. وهو عبارة عن مجموعة من الجِمال تسير في موكب بشكل مستقيم يشبه موكب كسوة الكعبة القديم في القاهرة، يتزين كل جمل من تلك المجموعة بالأقمشة الملونة والمزركشة.
فيما يحمل الجمل الأول والأكبر فيهم رمز الشيخ الفرغل، وتسير باقي المجموعة من خلفه، لتمثل الطرق الصوفية المختلفة ولكنها مجتمعة خلف سلطان الصعيد. المدهش في الأمر هذا الطقس تحديدا يتشابه مع زفة الأيقونة التي تقام في احتفالات مولد العدرا في دير درنكة. حيث يتصدر المشهد أسقف أسيوط وهو يمسك في يده صليب ومن خلفه الشمامسة يحملون أيقونة مريم. يدور هذا الموكب حول الدير ثم يعود مرة أخرى إلى الكنيسة. ربما استمدت تلك الزفة من فكرة موكب آمون الذي رسم بدقة على معبد الأقصر، وهو ما سوف نراه في مولد أبوالحجاج الأقصري.
خاتمة
على قدر نمطية مدينة أسيوط، كانت المدن الأخرى متنوعة ومتباينة في تراثها. وهو ما سأتحدث عنه تحديدا في المقالات التالية عن أسيوط، فالمحافظة تضم أقدم المناطق التاريخية في مصر كلها، وفيها تتابع حضاري لم ينقطع طيلة تلك السنين. فضلا عن عادات مختلفة ومتفرقة بين القرى والنجوع المختلفة، إلا أنها مع ذلك محافظة فقيرة مادية وهو ما يؤثر كذلك على بعض السلوكيات فيها. أما أهلها فهم شديدي المحبة للضيوف يستقبلونهم بترحاب بالغ.
اقرأ أيضا:
«المنيا».. زاوية الأموات وأنس الأحياء