أسرار «مصطفى هاشم» خُط سوهاج عام 1960

في عام 1947، خاض محمد حسنين هيكل تجربته الصحفية الشهيرة لكتابة تحقيقه عن«خُط الصعيد» محمد محمود منصور، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وقتها، وكان عمر هيكل 24 عاما. وبعد سنوات، ظهر سفاح آخر في سوهاج ويدعى «مصطفى هاشم»، وهنا خاض الصحفي الشاب رؤوف توفيق تجربته الصحفية المثيرة في ديسمبر 1960 ليكتب تحقيقا عنه وعن سفاح آخر يدعى «محمد سند».
بدايات متشابهة
وقتئذ، كان رؤوف توفيق لم يتجاوز عمره الواحد والعشرين سنة. كانت البدايات متشابهة بين «خُط أسيوط» محمد محمود منصور وسفاح سوهاج مصطفى هاشم، حيث كان كلاهما بداية حياته إنسانا طبيعيا، لكن ظرفا ما تسبب في تحول حياة كل منهما تماما.
كان محمد منصور في مستهل حياته يرعى الغنم، وحدث أنه ذهب بأغنامه إلى أرض يملكها شيخ الخفر في درنكة، واسمه “حميدة”، ورآه صاحب الأرض فهجم عليه وظل يصفعه على وجهه. وعاد محمد منصور في اليوم التالي إلى نفس المكان وهو يحمل بندقية، فأفرغها في قلب وجسد ابن شيخ الخفر. وبعد الحادثة بيوم واحد بدأ الثأر بقتل أكبر أفراد عائلة منصور. قتلوا عمه، فجن جنونه لأنه كان يحب عمه، فحمل بندقيته مرة ثانية وذهب مع أفراد عائلته ليقتلوا في ثلاثة أيام تسعة أشخاص من عائلة شيخ الخفر. وبعد عملية القتل الجماعي، خرج محمود منصور مع إخوته وبدأوا في ارتكاب الجرائم التي ذاع بسببها صيت الخط حتى قتل عام 1947.
سفاح سوهاج
أما قصة مصطفى هاشم، سفاح سوهاج، فبدأت عندما هاجر إلى القاهرة والإسكندرية طلبا للرزق كغيره من أهالي بلدته. استقر مصطفى في القاهرة وجمع من المال ما يقرب من مائتي جنيه، وعاد إلى أرضه يحمل في جيبه النقود. فاشترى قطعة أرض في بلدته ” نجع عبد الرسول” أحد نجوع مركز جهينة. وسمع أقارب مصطفى بما فعله، فثاروا! كيف يشتري هذا الشاب الصغير قطعة أرض والرجال الكبار لا يستطيعون الشراء؟ فذهب إليه عمه وقال له: “يجب أن تكتب الأرض باسمي”. وحاول مصطفى أن يعترض، لكن العم هدده بالطرد من البلدة، فوافق مصطفى على مضض.
مرت الأيام وعاد ليطالب عمه بالأرض، فاغتاظ العم من وقاحة هذا الشاب الصغير، وجمع بعض أقاربه وجيرانه، وأمسك مصطفى وضربه بالحذاء أمامهم جميعا، وكان هذا اليوم هو نقطة التحول الأولى في حياة مصطفى هاشم. صمم أن ينتقم لنفسه، فسافر إلى القاهرة مرة أخرى وعمل حتى جمع مبلغا من المال. وهذه المرة لم يشترٍ به أرضا، ولكنه اشترى سلاحا ليقتل به عمه، وعاد إلى بلدته، وبالاشتراك مع شقيقه محمد هاشم، دخل عند عمه وكان عمه يجلس مع أربعة آخرين في نفس الحجرة، وأطلقا سيلا من الرصاص على الجميع. تحولت الغرفة إلى بركة من الدم. كان ذلك في عام 1956. حكم على مصطفى هاشم وشقيقه محمد بالإعدام، وتمكنت قوات الشرطة من القبض على محمد هاشم، ونفذ فيه الإعدام، بينما هرب مصطفى إلى الجبل ليؤسس عصابة ويبدأ في ارتكاب حوادثه، ليصبح مصطفى هاشم “السفاح” أو “الخُط الجديد”.
رحلة إلى الجبل
سافر رؤوف توفيق إلى الجبل الذي يعيش فيه المجرمون والمطاريد، والمطاريد هم الهاربون من العدالة. كلهم قتلة، وقد صدرت ضدهم أحكام، أقلها الأشغال الشاقة المؤبدة. ولكنهم هربوا من تنفيذ الأحكام ولم يجدوا مكانا يختبئون فيه من الناس والبوليس إلا بطن الجبل.
يقول رؤوف توفيق في تحقيقه عن خط سوهاج: “سافرت إلى جهينة، القرية التي تنام في حضن الجبل، القرية التي أنجبت مصطفى هاشم، رجلا إنسانا، ثم شاهدته ينقلب إلى وحش سفاح. هناك سمعت قصة السفاح كاملة، وسمعت الخرافات التي أطلقت عليه، وعرفت كيف ينقلب الإنسان إلى سفاح، وكيف عاش السفاح أربع سنوات كاملة يزرع رصاص مدفعه في قلوب الأهالي”.
على أحد جدران منزل في قرية “جهينة”، وجد توفيق هذه العبارة التي شدت انتباهه: “هنا جهينة العربية.. الله ينصر القوات على مصطفى هاشم”. وكان الكلام محفورا على الجدران المطلية باللون الأحمر، وبجانب هذا الكلام ألصقت عشرات النشرات التي تعلن عن مكافأة 1000 جنيه لمن يقدم معلومات أو مساعدات تؤدي إلى ضبط الشقي الهارب مصطفى هاشم.
أهالي القرية
حاول الصحفي الشاب أن يعرف إجابة للسؤال: “كيف يتحول الإنسان إلى سفاح؟” وذهب إلى أهالي القرية، وجرت تلك المحادثات:
هل تعرف قصة السفاح؟
لا… لا.. ما أعرفش
وأنت يا فلان ماذا تعرف عن السفاح؟
سفاح مين يا بوي؟ إحنا مالنا ومال السفاح كل واحد في حاله لا ما عرفش!!
هناك في القرية، كلهم يعرفون السفاح ويعرفون قصته كاملة، لكنهم لا يريدون التحدث عنه، ربما لأن سيرته مزعجة، وقصته تجدد آلام الكثيرين من الذين فقدوا ضحايا على يده، وربما لأن بعضهم خائف أن يكون للسفاح أعوان يسمعون ويترصدون لكل شخص يتكلم عنه.
مدير أمن سوهاج
ذهب رؤوف توفيق إلى اللواء محمود رياض، مدير أمن سوهاج، ليسأله عن قصة السفاح وكيف تم القضاء عليه بعد سنوات من ترويع أهالي المنطقة. فأجابه مدير الأمن:
“وضعنا في القرية قوات من الجنود المسلحين، كانت مهمتهم هي بث الطمأنينة في قلوب الأهالي، ولكن الأهالي كان رعبهم أقوى. كان منظر الرجل الذي يعيش في الجبل ويملك مدفعا رشاشا وألوف الطلقات من الرصاص يخرس الألسنة، ولم يرشد الأهالي عن السفاح. وظل السفاح يصول ويجول داخل القرية أربع سنوات كاملة، يسلب وينهب ويقتل حوالي 40 شخصا، ولا أحد من الأهالي يتكلم عنه، لا شاهد ولا مرشد، وكان لابد من المرشد لأن الشرطة لا تضرب الودع ولا تكشف المجهول. وعندما وجدنا المرشد، دبرت الخطة للقضاء عليه، وفعلا قتل في ظرف أيام”.
كانت الحلقة الأخيرة في حياة سفاح الصعيد هي تليفون إلى الرائد “إسماعيل نجيب” رئيس المباحث الجنائية بمحافظة أسيوط، أكد المتحدث وجود مصطفى هاشم قرب أبوتيج، وتحقق رئيس المباحث من البلاغ، واتفق مع بعض المرشدين على قتله. وفي نفس الوقت، ترابط هناك قوات من رجال الشرطة بالمنطقة، وفي الحال قامت قوات كبيرة من رجال الشرطة والمباحث، وأقيم أكثر من كمين بالجبل. كان الكمين الأول بقيادة اللواء عاطف بركات حكمدار الشرطة، والكمين الثاني برئاسة الرائد إسماعيل نجيب، والكمين الثالث برئاسة النقيب حسني العشري. وكان يشرف على جميع الكمائن اللواء رأفت النحاس، مدير الأمن بأسيوط. وبلغ عدد القوات التي اشتركت في الحملة التي تحركت للقبض على المجرم الهارب خمسمائة جندي من رجال الشرطة، وتحركت معهم عشر سيارات نجدة. ونجحت الحملة التي انتهت بمصرع السفاح، والقبض على كل أفراد عصابته.
أساطير حول السفاح
يواصل رؤوف توفيق رحلة البحث عن جذور قصة سفاح سوهاج، ويسأل أهالي قرية جهينة عنه فيسمع أساطير عجيبة وغريبة. وأغرب تلك الأساطير هي أسطورة الحجاب الذي قيل أنه كان يمنع عنه رصاص البنادق من أن يصيبه. وكان هذا الحجاب هو دبلة يلبسها في يده. ويسألهم توفيق مستغربا: “إذن لماذا قتل السفاح بالرصاص ودخل جسده أربعون رصاصة؟ لماذا توقفت الدبلة عن العمل؟” ولكن الذين يؤمنون بالأسطورة يتشبثون بها حتى النهاية. وخصوصا في الريف إذ يجدون متعة متابعة الأساطير والتغني بها. فأجابوا على سؤاله: “عندما سمع مصطفى هاشم بأنهم يريدون إلقاء القبض عليه حيا. خاف على نفسه من التشفي به. فخلع الدبلة وألقى بها حتى ينفذ الرصاص إلى جسده”.
ويذهب رؤوف توفيق إلى شيخ القرية واسمه “سالم حسن”، ويستغرب من أن الشيخ كان أكثر الأهالي غموضا. حيث تحدث بشجاعة مصطنعة قائلا: “أنا قابلت السفاح كثيرا وكنت أوعظه ولم أخاف منه أبدا”.
ويستمر توفيق في السير في شوارع جهينة المملوءة بالرمال، ويتوجه إلى المدارس. وكان بها 6 مدارس، والتقى بعبدالرحمن محمد عبدالرحمن، أحد مدرسي مدرسة أبو خير الابتدائية. وقال له المدرس: “إنه كل صباح يهدئ من روع تلاميذه الصغار حتى يستطيع أن يبدأ عمله، لقد كانوا في رعب من السفاح، كانوا يأتون المدرسة ويخافون أن يعودوا إلى منازلهم فيجدوا أباهم أو أمهم قد قتلهما السفاح”.
زوجة السفاح أين ذهبت؟
ذهب رؤوف توفيق يبحث عن “بثينة محمد حسن”، زوجة السفاح ولم يجدها. ولم يستطع أن يجري معها لقاء. لكنه عرف أن لديها ابنا من السفاح واسمه “إبراهيم” عمره أربع سنوات. وقد أرادت أن تهاجر إلى نجع عبدالرسول، لكن اضطهدوها وطردوها هي وابنها. وهي تعيش بلا مأوى، ليس لها بيت، وتتنقل من مكان إلى مكان. وهذا هو قدر أبناء المجرمين دائما. وهذا ما حدث بالضبط مع ابن خط الصعيد الأول محمد منصور بعد مقتله من اضطهاد ابنه هاشم. حتى أنه ظل سنوات بلا عمل ولا يستطيع أن يتعامل مع الناس.
وفي نهاية التحقيق يفجر رؤوف توفيق قضية السفاح القادم “محمد سند”، الذي يقول عنه الناس إنه كان شريكا لمصطفى هاشم في بعض جولاته لنهب أهالي القرية. ويقولون أيضا إن سند ربما فعل أكثر مما فعل هاشم ليرعب الناس. وقد ترك توفيق سوهاج وهو يقول: “الجبل الذي أنجب خط أسيوط، وأنجب سفاح سوهاج، وعشرات المجرمين غيرهم، هذا الجبل الآن في حالة مخاض. بين لحظة وأخرى قد يلد مجرما جديدا اسمه محمد سند. فالسفاح ما زال حيا”.
زوجة السفاح تتحدث: لقد قتل أبي وأمي
لم يعثر رؤوف توفيق على “بثينة” زوجة السفاح، ولكنها أدلت بحديث بعد ذلك إلى مجلة “آخر ساعة”. قالت فيه: “إن زوجي كان لا يأتمن أحدا، قتل والدي ووالدتي لمجرد شعوره أنهما يريدان قتله. كان يطلب مني أن أتذوق الطعام قبل أن يأكل منه خشية أن يكون مسموما”.
ومضت لحظات توقفت فيها بثينة عن الحديث وقالت: “كنت معه لحظة وقوع الحادث الأخير الذي قتل فيه الشرطي والمخبر وأصاب ثلاثة بجروح. كنت أعيش بعيدا عن زوجي في الأيام الأخيرة. ولكنه أرسل لي شخصا مجهولا لا أعرفه وطلب مني أن أتوجه إلى مكنة الري التي يمتلكها أحمد همام. وعندما ذهبت إلى هناك، التقيت بزوجي وأمضيت معه الليلة. وفي حوالي الساعة الرابعة صباحا، أيقظته حينما سمعت أصوات أقدام رجال الشرطة وهى تحاصر مكنة الري. أسرع زوجي حاملا مدفعه وبدأ في إطلاق الأعيرة النارية في كل اتجاه، وتمكن من قتل اثنين وإصابة ثلاثة بجروح. وبعدها، تمكن رجال الشرطة من الإمساك بي. ولم أعلم عن زوجي ألا عندما سمعت نبأ مقتله. ولم أحزن عليه، لقد كان يستعد للزواج من توحيدة، الفتاة الجميلة التي تبلغ من العمر عشرين عاما، في نفس الأسبوع الذي لقي فيه مصرعه”.