أربعة أيام من تاريخ الفيوم.. وقائع الرحلة الملكية
ليس حنينًا للماضي أو تمجيدًا لرموزه، حينما نتناول رحلة الملك فؤاد إلي مديرية الفيوم، التي استغرقت أربعة أيام، زار خلالها بعض القرى ومراكز مديرية الفيوم عام 1927، فقد كانت الرحلة عادية بالنسبة للملك فؤاد، تأتي ضمن رحلاته الكثيرة التي قام بها داخل القطر المصري أو خارجه، لكنها لم تكن رحلة عادية بالنسبة لأهالي الفيوم، فقد سبقتها تجهيزات واستعدادات ضخمة، وجمعت من أجلها الأموال لتبدو رحلة مميزة، واجتمع من أجلها رموز الحياة الاجتماعية وقيادات تنفيذية وأعيان، لوضع برنامج لائق للرحلة، وجاء يوم الزيارة فاحتشد الأهالي لاستقبال الملك، “باب مصر” يطل على بعض من وقائع تلك الرحلة.
المنصوري وكتاب الرحلة
لم يستطع المفكر الاجتماعي ومدير تعليم الفيوم عام 1927، وأول من كتب عن المذهب الاشتراكي، المفكر مصطفى حسنين المنصوري، أن تمر زيارة الملك فؤاد ملك مصر والسودان إلى مديرية الفيوم دون أن يكتب عنها ويوثقها في كتاب حمل اسم “تاريخ الفيوم” وتحته كتب عنوان فرعي “وصف الزيارة الملكية للإقليم سنة 1927″، ويعد هذا الكتاب الوحيد الذي تناول تلك الرحلة، لم يكن الكتاب كبير الحجم فقد جاء في إحدى وسبعين صفحة من القطع الصغير، وقام مؤلفه المنصوري بطباعته على نفقته الخاصة بمطبعة مدرسة الصنايع بالفيوم، وكان ثمن النسخة 10 قروش، ووصف المنصوري وقائع الأيام الأربعة للرحلة وصفا دقيقا.
دعوة الملك فؤاد
تولى الملك فؤاد الأول الحكم في عام 1917، وبعد أربع سنوات كان أهالي الفيوم وللدقة أعيانها ممن يمتلكون الثروة، يتطلعون إلى زيارة الملك، وقرروا في عام 1921 أن تشكل لجنة برئاسة محمود باشا عبدالرازق، مدير الفيوم آنذاك للاكتتاب وجمع النقود اللازمة للإنفاق على رحلة واستقبال الملك، ونجحوا في جمع 6 آلاف جنيه، لكن لم يحصلوا على موافقة الملك بالزيارة، فوضعوا المبلغ بأحد البنوك.
وجاءت الفرصة التي رأوا أن الملك لن يرفض فيها الدعوة للزيارة، ففي عام 1927 شيد في الفيوم مشروعًا مهما لتوليد الكهرباء من الهدارات المائية بقرية العزب بغرض إنارة بندر الفيوم، وكان هذا المشروع هو الأول من نوعه في القطر المصري، لذا كانت الفرصة والمناسبة مواتية لدعوة الملك لافتتاح المشروع، وقد قبل الملك الدعوة.
تجهيزات قبل الزيارة
استلزمت دعوة الملك العديد من التجهيزات، فشرعت اللجنة المنظمة للرحلة في تمهيد طريق خاص يربط ما بين الفيوم والهرم الأكبر بالجيزة، وساعد في تمهيد الطريق خمسمائة من المساجين، واستغرق ثلاثة أشهر، كما تم شراء بيتا خشبيا ليكون مقر لإقامة الملك، حيث اشترته اللجنة المسؤولة عن “الزينات” من تاجر أجنبي كان قد أتى به من النمسا، واشترته اللجنة بألف جنيه، ووضع المنزل في حديقة ديوان المديرية، وتم فرشه بأفخم المفروشات.
ازدواجية
افتتح الملك فؤاد الأول محطة توليد الكهرباء في منطقة العزب، وزار العديد من المؤسسات التعليمية والصحية، وقد يكون هذا ضمن بروتوكول وبرنامج الزيارة، لكن قد يكون هذا مؤيدًا لما ذكره الراحل الدكتور يونان لبيب رزق في كتابه “فؤاد الأول: المعلوم والمجهول”، حيث تناول في القسم الثالث من الكتاب الدور المؤسسي للملك فؤاد، سواء في الشأن الاقتصادي حيث تم بناء مدينة بور فؤاد، وتأسيس بنك مصر، ومصر للطيران، وبنك التسليف الزراعي، وفي الشأن الثقافي، تم إنشاء الجامعة الأميرية، ومجمع اللغة العربية والإذاعة الحكومية، وازداد عدد المدارس العليا، كما شجع الفنون والتمثيل والموسيقى وغيرها.
وعن هذه الازدواجية التي جمعت بين الاستبداد السياسي والنزعة الإصلاحية، يرى الدكتور رزق، أن هذه الازدواجية لم تكن حكراً على فؤاد الأول، بل شكلت حالة لازمت الحكام من أسرة محمد علي، فقد أكسبهم تعليمهم الأوروبي رغبة في أن تكون مصر شبيهة بالمجتمعات الأوروبية، لكنهم حافظوا على سياساتهم الاستبدادية على الرغم من نزعاتهم الإصلاحية.
اليوم الأول
تحرك موكب الرحلة الملكية من سراي عابدين يوم الأحد 8 مايو عام 1927 متجها إلى الفيوم، واصطفت الأهالي على طول الطريق لاستقبال الملك، وعند حدود مديرية الفيوم كان في استقباله عرب الفيوم وهم يمتطون خيولهم، وصل الملك في تمام الساعة العاشرة صباحا إلى منزله الخشبي وبعد أن ارتاح من عناء السفر، نزل إلى سرادق خصص للتشريفات، فوجد الموظفون وممثلو الطوائف، والأعيان، وتناول الملك الغذاء معهم ثم ذهب توجه إلى منطقة العزب لافتتاح محطة توليد الكهرباء، وسط طريق تحفه بالزينات، وبعد الافتتاح استمع إلى شرح عن عمل المحطة وبعض كلمات الترحيب، وفي المساء أضاءت الفيوم آلاف المصابيح.
اليوم الثاني
زار الملك في اليوم الثاني معاهد تعليمية ومنشآت صحية، حيث زار كل من مستشفى الرمد والذي تم بناؤه في عام 1917، وأمر بصرف مبلغ خمسة عشر جنيها لشراء الهدايا للمرضى، كما زار المستشفى الأميري وتفقد غرف العمليات.
ثم ذهب وزار مدرسة المعلمين الأولية، وأمر بصرف 115 جنيها لتوزيعها على طلبة المدرسة التي كان يبلغ عددهم 200 طالب، ثم زار بعدها المدرسة الابتدائية الأميرية، ثم تفقد الفصول الدراسية وتناول الطعام في قسم التدبير المنزلي من أيدي الطالبات، وقبل هدية من إحدى الطالبات كانت عبارة عن إطار يحتوي على رسم مشغول بالحرير لهدير العزب وبها بعض أبيات من الشعر تمدح خصال الملك، وأثني الملك على الآنسة نعمت الله محمد زكي، ناظرة المدرسة، ثم توجه إلى جمعية الإسعاف لافتتاحها، كما تبرع للجمعية بمبلغ مائتي جنيها، ثم توجه لزيارة مدرسة الراهبات للبنات، ثم المدرسة الإيطالية للبنين، ثم مدرسة الأمريكان للبنات، ثم مدرسة الصنايع وتفقد ورشها، وأهداه قسم صناعة الجلود حقيبة جلدية كبيرة نقش عليها اسم جلالته بحروف من الذهب الخالص، ثم زار مدرسة التوفيق القبطية.
وبعد الظهر توجه الملك لزيارة هرم اللاهون وقد استقبله هناك المسيو لاكو، مدير المتحف المصري، ثم توجه الملك إلى قنطرة اللاهون وفي المساء استمتع بحفل أقيمت على أضواء المشاعل اشترك فيها طالبات مدرسة البنات، وغنين نشيد الربيع، ثم بعدهم غنى الفلاحين وهم يحملون سنابل القمح نشيد الحصاد، وكان ختام الحفل عرض للخيول العربية من عرب الفيوم.
اليوم الثالث
في اليوم الثالث توجه الملك إلى منطقة السليين الشهيرة، بحدائقها وعيونها الطبيعية، ومنها توجه إلى قرية فيدمين، حيث أقام الأعيان بها سرادقًا فخمًا وسط الحدائق لاستقباله، ثم توجه بعدها لزيارة بحيرة قارون، ومنها توجه الملك لقرية كحك.
اليوم الرابع
في أخر يوم للزيارة ذهب الملك فؤاد الأول إلى مدينة سنورس لافتتاح مدرسة سنورس الابتدائية الجديدة، وسط فرحة الأهالي ووجود الأعيان، وقد أمسك بيده مسطرينا ووضعت المونة في قصعة من الفضة، ثم استمع لبعض كلمات الترحيب من الطلاب والمدرسين، وبعدها انطلق في طريق العودة وخلفه العديد من السيارات الخاصة بالوزراء والأعيان لتوديعه.
إعادة اكتشاف
يرجع الفضل لاكتشاف وقائع تلك الرحلة الملكية وإعادة نشرها كما ذكرها المنصوري في كتابه، إلى الدكتور أيمن عبدالعظيم رحيم، الذي أعاد نشر كتاب المنصوري ضمن كتابه الذي حمل اسم الرحلة الملكية، مع شرح مفصل للوقائع.
وعن كيفية العثور على كتاب المنصوري، يقول الدكتور أيمن عبدالعظيم، الباحث في التراث: لم أنس هذا اليوم الذي دخل على والدي الغرفة وهو ممسك بكتاب صغير بعنوان “تاريخ الفيوم”، وبالطبع كان هذا نابعا من معرفة أبي لشغفي الدائم في البحث عن تاريخ الفيوم، وبعدها علمت أن أبي قد عثر على هذا الكتاب لدى صديق له.
يكمل عبدالعظيم، من المفروض أن لهذا الكتاب جزء أول، فقد كان العنوان الرئيسي تاريخ الفيوم، لكن هذا الكتاب هو الجزء الثاني الذي حمل عنوانًا صغيرًا “الرحلة الملكية”، لكني فشلت في العثور على الجزء الأول، بعد بحث عن مؤلفه استمر طوال عام كامل، وقمت بتقسيم كتابي إلى جزئين الأول تناولت فيه معلومات عن المؤلف، والجزء الثاني خصصته للرحلة الملكية كما ذكرها المنصوري.
تعليق واحد