كيف تسافر إلى «نيومكسيكو» وأنت في بيتك؟

هذا كتاب يستحق الاحتفاء للكاتبة والمترجمة هايدي عبد اللطيف. هايدي لها كتب سابقة هامة مثل “شبكات الغضب والأمل: الحركات الاجتماعية في عصر الإنترنت”، وهو كتاب مترجم من تأليف مانويل كاستلز، أستاذ علم الاجتماع الإسباني، وجزءان من “موسوعة المشاهير”، التي تضم سيرا ملهمة لعدد من الشخصيات العالمية في مجالات مختلفة، وكتاب سابق في أدب الرحلات بعنوان: “على خطى هيمنجواي في كوبا”. وتعمل بالصحافة المصرية والعربية منذ حوالي ثلاثين عاما.
هذا الكتاب صدر في العام الماضي 2024 عن دار “ذات السلاسل” الكويتية، في ثلاثمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير. عنوانه: “أيام في المكسيك.. بصحبة دييجو ريفيرا”. ينتمي الكتاب إلى أدب الرحلات، لكنه رحلة ساحرة حافلة بالمشاعر الشخصية، وبالمعلومات الاجتماعية والتاريخية والأنثروبولوجية، الحافلة بالحديث عن الثقافات والأديان القديمة، وأشياء كثيرة تدهشك في الكتاب. منها معرفة الكاتبة السابقة بالكثيرين ممن سيأتي ذكرهم، ومنها لغة الكاتبة التي تجسد ما تقرأه فتراه معها، ومنها المزج الإنساني الرائع بين قيامها وحدها بالرحلة، ومخاوفها التي تقفز أحيانا، وبين ما حولها.
الكتاب يتكون من قسمين: الأول يحمل عنوان “أيام في المكسيك”، والثاني يحمل عنوان “المطاردة”، وفي كل قسم فصول متعددة. افتتحت الكتاب بمقولة تتوسط الصفحة الأولى، تقول فيها: “كل ماحدث هناك قيل هنا”، وكأنها تحفزك على القراءة من ناحية، وحين تقرأ، تدرك كم الروعة في تجسيد كل ماحدث هناك، ليس في الرحلة، فقط لكن في التاريخ.
رافقها في الرحلة صدفة من قابلتهم هناك، أو هاتفها النقَّال دليلها في المعرفة والحركة. الرحلة بلا شك كانت مغامرة في مكان بعيد، فهي مصرية تعيش وتعمل بالكويت، لكن البلاد قريبة من قلبها وعقلها، فهي تجيد اللغة الإسبانية، لغة أهل المكسيك التي بها الكثير من الكلمات العربية. كما أن الجدود الإسبان الذين رحلوا لاستكشاف هذه القارة، جاء معظمهم من الأندلس، التي ربما يعود إليها أجدادها، فجدها الأكبر جاء من فاس في المغرب بعد سقوط غرناطة وانهيار الخلافة الإسلامية في الأندلس. ما حفزها للسفر هو الرغبة في الاقتراب من الفنانة فريدا كالو ومشاهدة لوحاتها، كذلك جداريات دييجو ريفيرا زوج فريدا، الذي أعاد فن الجداريات إلى الصدارة في مطلع القرن العشرين، وربما للمرة الأولي بعد عصر النهضة في إيطاليا.
***
من أجل ذلك كانت رحلتها إلى “مكسيكو سيتي”، عاصمة المكسيك، والتي ذكرتها دائما بالقاهرة في زحامها وغيره مما سيأتي في الكتاب. تبدأ رحلتها بعد الوصول إلى مكسيكو سيتي، بطريقها إلى الشقة التي استأجرتها بالحجز من قبل في الحي الصيني، وهي تجر حقيبتين وتحضن ثالثة. كيف لازمها الخوف من بعض ما عرفته عن البلاد من انتشار العنف والمخدرات، هي التي قررت أن تكون الرحلة إلى المكسيك ثم كوبا. كانت تعرف حضارة المكسيك رغم ما شاهدته من أفلام، أو قرأته عن العنف والمخدرات هناك، فالمكسيك هي بلد الأهرامات أيضا، مثل مصر، وموطن الفنون والألوان التي جاءت منها فريدا كالو ودييجو ريفيرا.
والبلد ذات المطبخ العامر بالمذاقات الشهية والأطباق الملونة، وموطن بطل الفقراء إيميليانو زاباتا، الذي حضر في السينما العالمية، والفيلم المصري اللطيف لفؤاد المهندس، الذي حرف فيه جملة “فيفا زاباتا” إلى “فيفا زالاطا”. لم تكن حكايات العصابات أول همومها لكنها أخافتها، والخوف عادة يلازمها في رحلاتها وحيدة، حتى أنها تصورت إمكانية خطفها. لكن تم استقبالها بشكل طيب، ودخلت البيت الذي استأجرت به شقتها.
هنا تجد وصفا رائعا للمكان والشقة الصغيرة بكل تفاصيلها، من أثاث وغيره من لوحات تذكرها بما قرأته عن رموز لقبائل المايا. تعود إلى تفاصيل رحلتها في الطائرة من الكويت إلى دبي، ثم إلى برشلونة، ومنها إلى عاصمة المكسيك، وكيف كان يمر الوقت بالطائرة، أو الانتظار فيها ساعات الترانزيت بين المطارات. انشغالها بالحركة لطول الوقت أو مراقبة الآخرين، مثل عاملات النظافة، ومحاولتها القراءة، وكيف كانت حركة الناس حولها لا تعطيها الفرصة على التركيز، وأحاديثها مع البعض عن المكسيك حتي خروجها من المطار.
***
نعود إلى الشقة الصغيرة المكونة من غرفة للنوم وصالة، والتي جسدتها بالوصف أمامك، وخروجها منها، بعد حديث عن أصل البيت الذي سكنته. ما هو مكتوب على جدار بوابته، وسعادتها أنه بيت أثري يعود إلى عام 1894. الشوارع التي راحت تمشي فيها، وكيف رأت رجلا خارجا من محل للوشم، مفتول العضلات يذكرها بما قرأته عن العصابات. أسماء الشوارع وما فيها من محلات، مثل شارع دولوريس المخصص للمشاة، أو طريق الاستقلال “أفنيدا اندبتسا” المتوازي مع أفنيدا خواريس، وهكذا.
دائما الاسم بالإسبانية والعربية. راحت تمشي بلا هدف لاستكشاف شوارع المدينة، وترى بسمات على الوجوه تطمئنها، حتى دخل المساء وهي تمشي إلى ساحة سوكالو، أو الساحة الكبرى لوسط المدينة التاريخي “سنترو هيستوريكو”. كانت الساحة تستعد للاحتفال بيوم الجيش. كيف كان الزحام، وكيف طلبت من أحد الحاضرين أن يلتقط لها الصور. المطعم الذي دخلته واسمه “إيديال” أو المثالي. تفاصيل رائعة للجولة حتي عودتها إلى غرفتها، وشعورها بأنها كانت تحتاج لمعرفة أكثر بالمكان والمدينة.
حديث مفصل عن العاصمة وتاريخها وأحيائها، وشوقها لترى جداريات ريفيرا، الذي بسببها أُطلق عليه “فنان الشعب”، لأنها وثائق تاريخية بالحياة في المكسيك في كل عصورها، وقرابتها من مدن مصرية مثل الأقصر، أشهر مدننا التراثية. نيو مكسيكو، العاصمة، سكانها بما حولها من أحياء يصلون إلى 22 مليونا، تم بناؤها أول مرة عام 1325 على يد الأزتك، إحدى قبائل الهنود الحمر، وتعرضت للتدمير مع وصول الإسبان، ثم أعادوا بنائها عام 1524، وكان اسمها “مكسيكو تينوتشتيتلان”، ولصعوبة الاسم صار اسمها رسميا “سيوداد دي ميخيكو” أو مدينة المكسيك عام 1585.
تحدثك عن كيف ظلت المدينة مركزا سياسيا وإداريا وماليا، لجزء كبير من الإمبراطورية الإسبانية، وتطوراتها بعد الاستقلال، وكيف اعتمدت اليونيسكو بها أربعة وثلاثين أثرا، منها سبعة وعشرون موقعا تراثيا، وستة مواقع طبيعية.
تبدأ رحلتها مع اليوم الثاني في الحي الصيني ومطعم “إيديال” أيضا، وما اختارته من طعام، تصف قائمته بالتفصيل لإفطارها. شعورها أمام المخبوزات المحلاة، بأنها علي بابا في مغارة اللصوص حيث الكنوز، أو الطفل تشارلي في الفيلم المأخوذ عن رواية “تشارلي ومصنع الشوكولاتة” للكاتب البريطاني رولد دال. ذهابها من جديد إلى ساحة “سوكالو” والاحتفال بيوم الجيش، وتعرفها على سيدة اسمها تيريزا، مرشدة سياحية، وشاب اسمه رامون من السلفادور. صارت تيريزا تشرح لها الجولة التي يقومون بها وما يرونه مثل القصر الوطني، الذي يضم بين جدران صحنه الرئيسي مجموعة من جداريات دييجو ريفيرا.
شرحت تيريزا كل شيء، ومنه شعار المكسيك الشهير الذي يتوسط علمها، والذي هو نسر يقف على نبتة صبّار مفترسا أفعى بمنقاره ومخلبه، والأسطورة التي تروي كيف أن زعيم قبائل الأزتك رأى في منامه إله الحرب، يخبره أن الأرض التي ستكون موضع استقرارهم، هي المنطقة التي سيجدون فيها نسرا يقف على نبتة صبار يلتهم أفعى. وغير ذلك كثير تقوله تيريزا المعمارية الشابة عن حضارة الأزتك وتاريخ العاصمة وما يرونه.
***
مما رأوه مكتبة الرجل العجوز لبيع الكتب النادرة، ومبنى البريد. شرح للمبنى الذي تأسس عام 1907 ونظامه المعماري اللافت، ثم دخولهم إلى قصر الفنون والوقوف في بهوه دون الصعود اليوم إلى أعلى لمشاهدة اللوحات الجدارية، ومن بينها جدارية دييجو ريفيرا “الإنسان في مفترق الطرق”. يأتي يوم اليوم التالي في منتزه ألاميدا. لقد أجلت لقائها بجداريات ريفيرا لليوم، ورأت جداريته “حلم يوم أحد في منتزه ألاميدا”، وكانت مع رامون لانشغال المرشدة تيريزا. جلوسهما في مطعم في الطابق الثاني والأربعين، ببرج أمريكا اللاتينية الذي يبلغ ارتفاعه أربعة وأربعين طابقا، يطلان من أعلى على المدينة. كان رامون شابا في الخامسة والعشرين، أي نصف عمرها، ثم استئناف رحلتهما نحو متحف ريفيرا. المتحف ومحتوياته وتاريخ المتحف وشرح لوحاته مثل لوحة “حِلم” المصنفة كسيريالية، بينما رأتها هي ليست كلوحات سلفادور دالي الرمزية، بل بها شخصيات واضحة المعالم، دلالة على أهل المكسيك.
ذكر لأحاديث بعض النقاد عن ريفيرا، مثل الناقد الفني مارك كوزلوف، وكيف صارت لوحات ريفيرا عامل جذب للسياح، ومن تأثر بهم رفيرا. تستمر الرحلة مع رامون وأحاديث عن طرق المواصلات بالتفصيل وخاصة المترو، وزيارة للقلعة أو “لاسيوداديلا”. الطريق والباعة وما اشترته من ملابس عليها رسوم أسطورية. الأغاني التي كانت تغنيها الفرق الموسيقية – فرقة المارياتشي- في المطاعم أو الساحات مثل ساحة غاريبالدي، الذي هو ليس غاريبالدي السياسي الشهير في حرب الاستقلال من أجل توحيد بلاده في منتصف القرن التاسع عشر، بل هو حفيده العميد جنرال جوزيبي غاريبالدي الثاني، المعروف باسم بيبينو، وكان جنديا ثوريا في جيش فرانسيسكو ماديرو أيام الثورة المكسيكية التي انطلقت عام 1910. أغاني المارياتشي المقابلة للفلامنكو. كيف في الفلامنكو هجر وألم، وفي المارياتشي حب وشوق وغرام.

أترك ذلك رغم الجمال الفائق في وصفه لأقف مع فريدا كالو. كيف تعرفت هايدي عبد اللطيف على فريدا من خلال صور يوسف نبيل، المصور المصري العالمي الذي من حسن حظي أني قابلته في باريس في التسعينيات، وجاءني في مصر، والتقط لي بعض الصور في بيتي. كانت زيارة بيت فريدا الذي صار متحفا، وفيه لجأت وهي زوجة لريفيرا، ليون ترتسكي، لمدة عامين (1937-1939). يقع البيت في حي “كويوواكان” أحد ضواحي العاصمة.
وُلدت فريدا عام 1907 ورحلت عام 1954، وكان والدها المصور الألماني الأصل فيلهيلم كالو، قد اشترى البيت عام 1904. أقامت فيه فريدا بعد زواجها من ريفيرا، وأجرت عليه مع زوجها بعد وفاة الوالد في 1941 تعديلات على التصميم. كيف مرضت فريدا وهي طفلة، وكيف شجعها أبوها على الرسم، وكيف تعطلت قدرتها على الحركة بسبب خلل في ساقيها، ثم كيف تم قطع أحد ساقيها فيما بعد. تفاصيل حياتها بين الألم والقدرة على التجاوز، وكيف كانت ثيابها مصدرا لبيوت الأزياء العالمية، ومنها ما فعلته مصممة الأزياء إلزا سكاباريللي بتصميم ثوب مستوحى من أزياء فريدة، سمي بإسمها “لا روب دي مدام فريدا” وغيرها من المصممين.
معارض فريدا الفنية منذ أول معرض في باريس عام 1938، وكيف اقتنى متحف اللوفر إحدى لوحاتها المسماة “الإطار”، فكانت الأولى من أمريكا اللاتينية في ذلك. محتويات البيت من أشيائها الشخصية ولوحاتها. مقتنياتها التي ظلت مخفية نحو خمسين عاما، وعُرضت على الجمهور في عام 2004. كيف حاولت الكاتبة التقاط أنفاسها ووقفت تحت جملة “في هذا البيت عاش دييجو ريفيرا وفريدا كالو من 1929-1954”. ثم تستمر في جولتها بين الغرف وما فيها.
***
الغرفة الأولى التي كانت في الأصل غرفة المعيشة الرسمية، وكيف هي مزينة بمدفأة من أحجار البراكين على شكل هرم مدرج، كأهرامات الأزتك والمايا، صممها دييجو ريفيرا، وصارت الغرفة الآن تضم مجموعة مختارة من لوحات فريدا الأقل شهرة، وليست البورتريهات الذاتية التي اعتادت أن ترسمها لنفسها معبرة عن حالتها النفسية وآلامها. لوحات جذبتها في جولتها مثل لوحة “أبي” التي رسمت فيها والدها، ومن خلفه الكاميرا التي كان يستخدمها كمصور، وكتبت تحتها بخط يدها عن أصله المجري الألماني، وشجاعته وسخاءه، ومهنته كفنان مصور، وكيف عانى ستين عاما من مرض الصرع، لكنه لم يترك العمل وقاتل ضد هتلر.
رحلة مع لوحات كثيرة مثل لوحة لها مع أسرتها، بعد أن تعرضت للإجهاض وأُجرِيت لها عملية جراحية، واسم اللوحة “الجراحة القيصرية”. كيف كانت لوحة للبطيخ أجمل ما جذب هايدي عبد اللطيف، ماكتبته فريدا على حواف مثلث البطيخ “تحيا الحياة”، وهي من أواخر أعمالها، رسمتها عام 1954 قبل رحيلها مباشرة، كأن ما كتبته صرخة وداع”تحيا الحياة”.
لن أقف كثيرا عند بقية الجولة واللوحات وبقية الغرف وما فيها، وبقية رحلتها بعد ترك بيت فريدا كالو، فهي تحتاج أن تقرأ الكتاب. سأقف قليلا أمام رحلتها إلى مدينة اسمها “تيوتيوكان”. تاريخها بين الانحدار والظهور، وكالعادة وصف مشوق للطريق إليها ووصولها لهرمها المدرج، كيف ساعدها أحد المرشدين الذي حدثها حديثا رائعا عن تاريخ المدينة. كيف وصلت إلى هرم الشمس وهرم القمر، وأهرامات صغيرة على جانبي الطريق. كيف كان الهرم مكان تَعبُّد للديانات القديمة، وشرح ذلك كله. كذلك معابد في الطريق للآلهة القديمة بينها معبد الأفعى، وكيف أن كل ذلك موجود من قبل الميلاد.
أتوقف رغم روعة المعرفة والبحث لأنتقل إلى القسم الثاني الذي عنوانه “المطاردة”، وتعني به مطاردة جداريات ولوحات دييجو ريفيرا.

-2-
في البداية، تذكر لقائها بالإعلامية الشهيرة سوسن بشير في نيويورك، وهما تجلسان في كافتيريا بمتحف المتروبوليتان، وحديثهما عما شاهدته في مطاردتها ورحلتها كلها، التي شملت هافانا عاصمة كوبا، لتتبع آثار أرنست هيمنجواي الذي كتبت عنه كتابها السابق “على خطى هيمنجواي في كوبا”.
بعد زيارتها لمدينة الآلهة وأهراماتها، أخذت طريقها إلى القصر الوطني. ما شاهدته في الطريق من احتجاجات، ومنع الدخول للسياح، لكنها بعد محاولات دخلت برضاء الموظفات. هنا رحلة مع جداريات ولوحات دييجو ريفيرا باتساع أكثر، فهي لم تر إلا قليلا في زيارتها السابقة. بعيدا عن تفاصيل المكان وعمارته الرائعة وتاريخه، نقف مع الجداريات. منها جدارية تمتد على مساحة مائة متر مربع أسفل قوس كبير، هي جدارية “الخلق” أولى جداريات ريفيرا، وكيف تختلف عن جدارية “حلم عصر يوم أحد في منتزه ألاميدا” بتشابهها كثيرا مع الرسوم الكلاسيكة الإيطالية، لكن بلمسة مكسيكية.
تظهر الشخصيات فيها بملامح محلية، وأحجام ضخمة تمتد بارتفاع الجدار، وحول رؤوسها هالات كالشخصيات الدينية في لوحات فناني عصر النهضة. ما ترمز إليه كل مفرداتها. أهمية الجدارية ليست في أنها الأولى لريفيرا، بل لأنها فتحت المجال لعودة فن الجداريات ليتصدر العالم – بالمناسبة، في آخر الكتاب ملحق صور بأهم اللوحات والجداريات – ورأي النقاد الرائع في إنجازه، وكيف جاء نقاد وفنانون من العالم كافة لدراسة ورسم جداريات في المكسيك، رغم عدم قناعة ريفيرا أنها أفضل أعماله، واعتباره لها درجة في سلم صعوده.
تذهب بعد ذلك إلى وزارة التعليم العام التي بها جداريات ولوحات لريفيرا. حديث عن تاريخ المكان وعمارته. شعورها بأنها تحقق انتصاراتها في رحلتها. جولة بين أكثر من مائتي لوحة تزين الجوانب الأربعة للطوابق الثلاثة للمبنى. في الطابق الأرضي، أو رواق العمل كما سماه ريفيرا، تجد على كل جدار لوحات متتالية للعمال والفلاحين من نساجين وصباغين، ونساء يحملن الفاكهة والزهور وسائر المحاصيل. تمشي مع الكاتبة مع لوحات كل جدار حتى تصعد بك إلى الطابق الثاني، لتجد جداريات ثنائية الألوان أحادية الشخوص في معظمها.
***
في الفناء الثاني الأكبر والأوسع الذي أطلق عليه ريفيرا “رواق الاحتفالات” تجد رسومات ببهجة احتفالية. احتفالات متنوعة، بعضها يعبر عن روح الثورة، وجداريات ضخمة بعرض الحائط. كان معها رامون الذي لفت انتباهها إلى وجود إميليانو زاباتا في أحد اللوحات. جدارية أخرى بها احتفالات بيوم الموتى. كيف أحبت كثيرا جدارية “قناة سانتا أنيتا” التي تمثل إحدى القنوات المائية في مكسيكو سيتي، وقوارب تعج بالبشر، وتحمل محاصيل من كل شيء، وعلى جانبي القناة جموع غفيرة، وفي أسفلها باعة السوق من ظهورهم، وأمامهم الزبائن من كافة الأطياف، تميزهم ملابسهم، وعلى أطراف الجدارية الأشجار الباسقة يهيمن عليها اللون الأخضر، ويتقاطع بدرجات مع الأزرق والذهبي والأصفر بهدوء. ثم تصعد بك الطوابق كلها في رحلة رائعة مع الجداريات. تقارن بين لوحات وروايات قرأتها لكتاب عالميين ومصريين، وتستمر الرحلة مع جدارية “أعلى مسرح الحياة” فيها العيون المقنَّعة والأيدي الأنثوية، وعشرات الشخصيات الأخرى مع وجوه مناضلي المكسيك: زاباتا وخواريس.
تقف لتصور ذلك كله كما تفعل دائما. حتى في الأماكن التي يكون فيها التصوير ممنوعا، تجد من يسهل لها ذلك سرا من الموظفات حين يعرفن أنها من مصر. تستمر الرحلة مع سوق روما لتعود بعد ذلك إلى الجداريات. قبلها، حديث سريع عن ذاكرتها وما تنتقيه أو تنساه، وعودة إلى حديثها مع سوسن بشير في نيويورك، وتذكرها كيف اتفقا أن تكتب عن ريفيرا ورحلة المكسيك. وهكذا، بعد صدور كتابها عن هيمنجواي، جلست تدون تفاصيل رحلتها في المكسيك التي طفنا معها فيها ولا نزال.
الطريق إلى سوق روما أو “ميركادو روما”، ومعها الشاب رامون، وخمسة شبان بينهم ريكاردو صديق رامون وفتاتان. قام ريكاردو بشرح كل شيء عن السوق وتاريخه ومافيه، وطريقة الأكل في مطاعمه، وطوابق السوق وما فيها، وتكتبها لنا فيتجسد سحر الألوان والأشياء، وتأخذنا إليها طابقا بعد آخر. غرائب الطعام مثل “تاكوس دي تويتانو” أو شطيرة تاكو بنخاع العظم. يذكِّرها كيف نأكل النخاع في بلادنا، فنحن نسلق العظم مع اللحم، لكن لا نقسمه ونخرج منه النخاع ونقدمه مستقلا كما تم تقديم النخاع لها مع شريحة الشطيرة. التعرف على بقية الأفراد، ومعرفتهم بمصر وأهراماتها، وأمل بعضهم في زيارتها يوما. حديث عن وضع النساء هناك. التحرش البشع هناك حيث كانت الاحتجاجات التي رأتها في زيارة واجهة مسرح “إنسورختس” هي ضد التحرش. تعرف من أحاديثهم أن جرائم قتل النساء وصلت هناك عام 2019 إلى حوالي أربعة آلاف امرأة، فهناك عشر نساء يتم قتلهن كل يوم تقريبا.

نعود إلى ريفيرا من جديد، لكن بعد أن تمر في طريق عودتها ومعها رامون ببيوت مزينة بجرافيتي. يستوقفها منه رسم لفرس كبير الحجم تزين ساحة سرجه نقوش بديعة، وقوائمه الأربعة في لحظة انطلاق، وخلفه نسر يحمل بين مخلبيه أفعى، وهو شعار المكسيك الذي يزين علمها كما أوضحت من قبل. فيقول لها ريكاردو إن هذا الرسم يسمى “البريخي”، وهي مخلوقات رمزية أو طواطم من حضارة الأزتك. كانت الشعوب القديمة تعتبرها مرشدا روحيا، وحاليا صارت تُصنع من الورق المقوى، ويقام لها سنويا استعراض لتكريم الفنون الشعبية الباقية من عهد الأجداد.
***
تستمر الرحلة إلى القصر الوطني مقر السلطة التنفيذية، الذي نعود فيه إلى جداريات ريفيرا التي تلخص تاريخ الأمة. شرح وافي لها بعد شرح تاريخ القصر كالعادة. الحديث كثير عن الجداريات في أكثر من مكان، لكن نقف عند الجدارية التي جاءت نتيجة خلاف بينه وبين عائلة روكفلر في نيويورك، الذين طلبوا منه رسم جدارية على أحد المباني التي تملكها عائلة روكفلر، وهو مبنى راديو سيتي، أو صرح هيئة الإذاعة في نيويورك. كيف، وهو الشيوعي المبدأ، رسم جدارية بها وجه لينين، زعيم الثورة البلشفية، يمسك بأيدي فلاح أمريكي أسود، وجندي روسي أبيض، وعامل، كحلفاء في المستقبل. حدثت الضجة في الصحف معه وضده، وأوقف العمل، وغطى روكفلر الجدارية بالقماش بعد أن أعطاه أجره كاملا، ثم تعرضت للتدمير بعد ذلك.
أعادها ريفيرا في قصر الفنون الجميلة في عاصمة بلاده، وكانت سيدة من مساعداته قد تسللت وهي تخفي الكاميرا، والتقطت صورها في نيويورك، ليتمكن ريفيرا من إعادة رسمها فيما بعد. ريفيرا الذي كان شيوعي الهوى كان أيضا مولعا بالشهرة، فكان يختلق منذ طفولته الأحداث أو الأقوال التي تثير الانتباه، ومن ذلك قراره أن يرسم وجه لينين في لوحة أمريكية مثلا. هكذا تراه الكاتبة وتدلل على ما تقول ببعض أفعاله منذ الطفولة. رغم شيوعيته تم فصله من الحزب الشيوعي المكسيكي لأنه تعاون مع روكفلر.
تنتهي من الكتاب بعد رحلة رائعة مع الفن والفكر والمعلومات، والقدرة الروائية على الحكي والوصف، تجعلك في حكايات ساحرة مجسدة، ولولا أنها حقيقية لأعتبرتها ملحمة خيالية، وهذا من أجمل أسباب حب قراءة الكتاب.