«عبد الرحمن الخميسي» في أوراق قديمة منسية: سائر على قدمي

في عام 1964 استحدث فتحي غانم بابا في مجلة «صباح الخير» بعنوان «أوراق قديمة منسية» استكتب فيه العديد من نجوم المجتمع في شتى المجالات الأدبية والصحفية والفنية والرياضية والسياسية، ليكتبوا بعضا من ذكرياتهم القديمة المنسية أو ورقة من سيرتهم الذاتية لا يعلم عنها أحد شيئا، فكان الباب نموذجا للسيرة الذاتية للعديد من المشاهير. هنا نزيل الغبار عن هذه الأوراق القديمة لنخرجها من بؤرة النسيان التي طالتها داخل أوراق الدوريات  لتصبح أوراقا غير منسية. هنا أوراق «عبد الرحمن الخميسي».

عام 1938، أنا في القاهرة بلا أهل ولا دار، ولا أملك شيئا غير إرادة الحياة… ليس في جيبي مليم، ولكن قلبي غني بالأحلام. لم تكن لي أسرة ذات جاه، بل لم يكن لي قريب يستطيع أن يعاونني. وقد أنفقت ليلتي نائما على أريكة في حديقة عامة، وحين أيقظني الصباح توجهت إلى دار الكتب كعادتي كل يوم، وتناولت إفطاري وأنا سائر على قدمي، وكان ذلك الإفطار بعض حبات من الحمص بقيت في جيبي من الأمس. وكانت بعض المجلات الأدبية، كالرسالة والثقافة، تنشر لي قصائد مطولة من الشعر أرسلها إليها من بعيد. كان أصحاب تلك المجلات والمشرفون عليها لم يشاهدوا وجهي حتى ذلك الحين، ولعل ذلك كان دافعا لنشر قصائدي، فلو أنهم كانوا قد رأوني لشهدوا شابا نحيلا شاحبا ينتعل صندلا ويرتدي بنطلونا أصفر قصيرا وقميصا حال لونه. وكما وصفت نفسي في ذلك الوقت:

“طل منتفض يمشي وقد

قصمت أضلاعه فأس القضاء

خرب الإنحاء يستوطنه

من معدات المنايا ألف داء

شاحب الجلد.. كأني ميت

طرد اللحد رفاتي في الخلاء

لو تراه العين لا تنكره

إنما تمطره سيل بكاء”

***

وصلت إلى دار الكتب بميدان باب الخلق، وكان الأستاذ أحمد رامي يعمل في الدار رئيسا لقسم الفهارس الإفرنجية، كما كان يعمل بها المرحوم الشاعر أحمد زين والأستاذ محمد يوسف. وقد تصادف أن تعرفت بهؤلاء الثلاثة في بوفيه الدار. ولم يكن لي عمل رسمي ولا أهل أستطيع بواسطتهم أن استخرج من الدار ترخيصا لاستعارة الكتب، فكنت أتردد عليها كل يوم للمطالعة حتى توثقت العلاقة بيني وبين الأستاذين أحمد رامي ومحمود يوسف، فساعدني الأول على استعارة الكتب الأجنبية، وعاونني الثاني على استعارة الكتب العربية.

وصلت إلى دار الكتب وعلمت أن الأستاذ رامي يجلس في البوفيه ليحتسي قدحا من القهوة، فتوجهت إليه وهناك تعرفت على رجل يدعى عبداللطيف. قام الرجل حين عرف اسمي وصافحني بحرارة صادقة وسألني إذا كنت أنا عبدالرحمن الخميسي الذي تنشر له مجلتا “الرسالة” و”الثقافة” الأشعار؟ أم أنا فقط أحمل اسما مشابها؟ تأثرت لترحيب الرجل بي بمثل هذا الصدق والتقدير، فكم كنت عطشانا إلى كلمة تقدير طيبة تشجعني على مواصلة الطريق.

وقد عرفت فيما بعد أن عبداللطيف هذا يعمل في البحث عن المخطوطات النادرة ويقوم ببيعها للهواة القادرين والمهتمين بشؤون الثقافة والمخطوطات ممن يستطيعون دفع أثمان تلك المخطوطات. وقد كان عبداللطيف رجلا يقارب الستين عاما، عريض الهيكل طويل القامة، ولكنه كان أشبه بقصر متهدم يترنح قوامه داخل بدلة متآكلة، ويضع على رأسه طربوشا حال لونه، وينتعل حذاء قام الإسكافي بترقيعه، فظهرت رقعة كبيرة في مقدمة الحذاء وعلى جانبيه دلالات صارخة على فراغ اليد وعسر الحال.

***

وكان عبداللطيف يحب الشعر ويردد منه الكثير مما يستظهر، وكان هو يلقي الشعر كأنه يغني، فيهتز اهتزازا. وقد سألني عبداللطيف حين شاهد من مظهري رقة حالي عن العمل الذي أقوم به إلى جانب المطالعة ونظم الشعر. فصارحته بأنني عاطل، وامتلأت نظرات عبداللطيف بإشفاق أبوي وهو ينظر إلىّ، ثم جذبني من يدي وانطلقنا معا في الشارع. وقد سألته عن وجهته فقال لي إن عنده محل صغير للكتب اتخذه دكانا وبيتا، ولا يقيم فيه أحد سواه، فليس لي ولد ولا بنت، وأنت من اليوم ولدي، أنت ابني يا عبدالرحمن، فلا تخذل رجائي وعش معي يا بني حتى نجد لك عملا لائقا بموهبتك.

قلت: ولكنني لا أحب أن أكون عالة عليك.

قال: أنت ستعمل في المحل.

قلت: وماذا أعمل؟

قال: تجلس داخل الدكان في الفترات التي أتغيب فيها بحثا عن مخطوط أو كتاب.

ذهبت مع عبداللطيف إلى محله وكان دكانا نحيلا ضيقا ممتلئا بالكتب القديمة. وحين أتى الظهر، طلب مني عبداللطيف أن أحضر لكل منا سندويتشا بالفول من الدكان المجاور.

قلت: ليس معي فلوس.

قال: ولماذا الفلوس؟ قل لصاحب المحل أن يقيد الثمن على حسابي.

ونفذت أمر عبداللطيف، ولكن صاحب محل الفول قال لي: لا.. إحنا ماعدناش بنشكك، يدفع اللي عليه الأول. وأدركت المحنة التي يعيش فيها عبداللطيف، وامتلأ قلبي بالتقدير لموقفه مني.

***

وحين هبط الليل ودعت عبداللطيف شاكرا، ومضيت أخبط في شوارع القاهرة لا أملك غير إرادة الحياة، وليس في جيبي مليم، ولكني غني القلب بالأحلام. مضيت أخبط في الظلمة وأنا أحلم بالفجر الجديد.

ورقة أخرى من الذكريات

والتقيت بمجموعة من الشباب في مقهى من مقاهي باب الخلق، وتوطدت الصداقة بيني وبين أحمد مخيمر وعبدالعليم عيسى وغيرهما، وقد اتفقت مع أحمد مخيمر أن نكتب قصائد وأغاني للأفلام، وكنا ننظم الأغاني حسب الطلب ولكن بشرط ألا تظهر بأسمائنا. كان بعض الذين يكتبون للسينما يستأجروننا من الباطن ويدفعون لنا قروشا وهم يتقاضون جنيهات. وقد شهد مقهى طلعت بباب الخلق ومقهى الفيشاوي بحي الحسين عددا من أولئك المتأنقين الكذابين يفدون إلينا ويكلفوننا بنظم الأغاني لتظهر حاملة أسماءهم. لقد احترفنا الكتابة للغير عدة سنين حتى نستطيع أن نحصل على القوت الضروري ليتوفر بعد ذلك أن نطالع وأن نثقف عقولنا ونثري قلوبنا.

3 سبتمر 1964

اقرأ أيضا:

«تحية كاريوكا» في أوراق قديمة منسية: سر حربي

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. منفضل اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.