سلسلة رجعوا التلامذة| عبدالجليل «المعلم المثالي».. أقدم «مدرس» في دشنا
أدمعت عيناه عندما بدأ بالحديث عن تلاميذه الذين تخطوا الستين ومازالوا يجلونه ويحترمونه كلما قابلوه وينادونه بـ”أستاذي”، يستوقفه البعض ليصافحه ويعانقه ويسترجع معه ذكريات تعود لأكثر من نصف قرن، حين كان معروف عبدالجليل، 83 عامًا، معلم مادة المواد الاجتماعية بمدرسة دشنا الإعدادية.
عرف عن عبدالجليل عشقه الشديد للتدريس بصفة عامة ولمادتي التاريخ والجغرافيا بصفة خاصة، وتميز بأسلوب شرحه المبتكر في طريقة نطقه لأسماء البلدان والمدن، وعرضه للأحداث التاريخية على أنها حكاية مسلية لا تخلو من التشويق والإثارة.
نصف قرن هو عمر مسيرة عبدالجليل المهنية، متنقلا بين المدارس، احتفظ بلقب “المعلم المثالي” والذي حازه لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي وصافح عبدالناصر وتسلم منه الوشاح والميدالية، وظل اللقب ملازما له إلى ما بعد الثمانينيات حين رقى إلى وظيفة ناظر مدرسة، عشرات من شهادات التكريم والمئات من الصور التي تسجل مشاهد عمله في مصر والصومال.
تاريخ
“أنا من مواليد 1937 بعزازية دشنا وقد عاصرت الاحتلال في طفولتي ولاحظت حرص الاستعمار جعل أغلب المصريين أميين وجهلاء”، هكذا عبر المعلم المثالي، مسترجعا أيام طفولته، مؤكدا أنه بالرغم من عمره لم يتجاوز الخامسة عشر حين قامت ثورة يوليو فقد أدرك بفطرته أن الثورة جاءت لتخلص البلاد من الاستعمار وتقضي على الجهل والأمية.
ويلفت معروف أن عدد المتعلمين بدشنا في فترة الأربعينيات وبداية الخمسينيات كان لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة وينحصر فقط في الذكور، متابعًا: “أنهيت التعليم الابتدائي بمدرسة دشنا الابتدائية ومنها إلى المدرسة الإعدادية الوحيدة في البلدة في ذلك الوقت والتي كانت تعرف بـ”الإعدادية القديمة” قبل أن يتحول اسمها حديثا إلى مدرسة الشهيد منتصر عباس، ولم يوجد بمحافظة قنا كلها سوى مدرسة ثانوية واحدة وهي مدرسة قنا الثانوية والتي تحولت حاليا إلى كلية تربية نوعية، وبعد حصولي على الثانوية التحقت بمعهد المعلمين الخاص بأسوان وكان واحدا من 4 معاهد فقط على مستوى الجمهورية، وكان يمنح دبلومة المعلمين الخاصة والتي تعادل الشهادة الجامعية وتخرج مدرسين على مستوى عال من الكفاءة، حيث أن الدراسة به لم تقتصر فقط على الجانب النظري بل كان هناك تدريب عملي في المدارس الابتدائية والإعدادية، وأشرف على تدريسنا اللغات الأجنبية مدرسون أوروبيون من انجلترا وفرنسا”.
نداء الواجب
ويمضي عبدالجليل مسترجعا نهاية الخمسينيات حين تخرج في معهد المعلمين الخاص بأسوان؛ وكان ضمن أول دفعة مدرسين مؤهلين بالصعيد، يذكر أنه من ضمن الشروط بالمعهد وقتها أن يوقع الطالب على إقرار بقبول العمل بالتدريس في أي مكان بجمهورية مصر العربية، وإلا فعليه أن يسدد ما يعادل قيمة الدراسة بالمعهد، لافتا إلى أنه بعد التخرج كلف للعمل في مدرسة الشعانية الابتدائية بنجع حمادي، مدرسا للمواد الاجتماعية ومنها إلى مدرسة دشنا الإعدادية ومنها إلى الوقف الإعدادية.
يتابع عبدالجليل: وفي منتصف الثمانينيات رقيت للعمل في توجيه المواد الاجتماعية بمديرية قنا للتعليم وعدت في التسعينيات مديرا لمدرسة نجع طلحة الإعدادية بدشنا إلى أن خرجت إلى المعاش عام 96، مشيرا إلى أن حال التعليم كان أفضل كثيرا من الآن بسبب عدم كثافة الفصول كما هي الآن وعدم انتشار فكر الدروس الخصوصية، ويتعجب عبدالجليل من أن الدروس الخصوصية كانت تعتبر في ذلك الوقت عار على الطالب والمدرس؛ فكان ينظر إلى الطالب بأنه غير قابل للتعلم وأحيانا يوصف بالبليد أما المدرس فكان ينظر إليه على أنه يتربح من أداء الواجب.
صافحت عبدالناصر
تلمع عينا عبدالجليل حينما التقط أول شهادة تكريم له كمعلم مثالي على مستوى الجمهورية عام 1959، حين كرمه عبدالناصر شخصيا وصافحه وسلمه الوشاح المزين بعلم الجمهورية العربية المتحدة وسلمه أيضًا ميدالية التميز المصنوعة من البرونز.
يلفت عبدالجليل أن روعة التكريم تمثلت في أنه قابل الرئيس وصافحه، متذكرًا أن عبدالناصر هنأه وتمنى له التوفيق، لافتا إلى أنه حافظ على مدار سنوات لقب المعلم المثالي خلال حكم السادات وحتى بداية عهد مبارك حتى أصبح مشهورا بين زملائه وطلابه بالمعلم المثالي، موضحا أن السبب يرجع في ذلك إلى حبه الشديد لمهنته كمعلم وتفانيه في تبسيط المعلومة للطلاب كما كان يحاول أن يطلعهم على آخر المستجدات من خلال عرض ما تنشره الصحف يوميا.
في الصومال
يتوقف عبدالجليل عند إحدى الصور التي التقطت في دولة الصومال حين انتدب للعمل مدرسا بالمدرسة المصرية التابعة لسفارة مصر بالصومال وكان ذلك في منتصف السبعينيات، لافتا إلى أن المدرس المصري كان يشار إليه بالبنان إذا ما مر بالطريق، موضحا أن الصوماليون في تلك الفترة كانوا يقدرون دور مصر قيادة وشعبا في تطوير وتنمية بلدهم، ملمحا إلى أنه ربطته صلات صداقة مع الكثيرين هناك وتعلم بعد المفردات الصومالية مثل “عصبو” التي تعني الملح، و”عانو” التي تعني الحليب، كما يعتز كثيرا بقطعة خشبية يدوية لفيل أهداها له أحد تلاميذه.
الضمير
ويلخص عبدالجليل أزمة التعليم حاليا في غياب الضمير، وعدم وجود الإرادة الحقيقية لتعليم الطلاب والاعتماد الكامل على الدروس الخصوصية، موضحا أن كثافة الفصول أحد أهم الأسباب في تراجع العملية التعليمية بمصر، والتي تؤدي إلى صعوبة توصيل المادة العلمية للطلاب في فصل يزدحم فيه أكثر من 70 طالبا بينما الكثافة المعقولة لا تزيد عن 30 طالبًا، لتتحول العملية التعليمية داخل المدارس إلى مجرد روتين يومي لا يغني ولا يسمن من جوع.
مقالات متعلقة
سلسلة رجعوا التلامذة| جميل ذكي يروي ذكرياته مع مهنة التدريس