الصوفيون.. مارد في قُمقُم السُلطان
في أحد شوارع قرية كوم العرب بمحافظة سوهاج، يقف عبدالله الرفاعي، سائق التوك توك، الذي يبلغ من العمر 45 عامًا، في انتظار ابنه محمود الذي حمل جلابيته للمكوجي منذ ساعتين، يتجهّز عبدالله للحدث الأكثر قدسية في كل عام بالنسبة له، مولد السيد الفرغل، أحد أولياء الله الصالحين أو الصوفيون الأكثر شهرة في محافظة أسيوط، والصعيد بوجه عام.
بينما ينتظر عبدالله ابنه محمود، كان سعيد شقيقه الذي يصغره بخمسة أعوام فقط، يجلس على عتبة منزله يحاول باستخدام الجاز الأبيض (السولار) وقطعة من سلك الألمونيوم أن ينظّف سيفين قديمين ورثهما عن جدّه عابدين خادم الطريقة السعديّة، الذي كان يقصده الناس لعلاج لسعات العقارب أو لدغات التعابين ببركة الأولياء الصالحين.
فيما عكفت نساء البيت في الداخل على خياطة علمين قديمين خضراوين كبيرين كُتب عليهما الطريقة السعدية التي تُنسب لصاحبها سعد الدين الجباوي الذي ينتهي نسبه بالحسن بن علي بن أبي طالب.
حب آل البيت كان يعني الاضطهاد قديما
لا يعرف عبدالله وأخوه أنّه قبل أكثر من 1300 عام مضت، كان الجهر بحب آل البيت أو الانتساب لهم يعني الاضطهاد، أو حتّى القتل، بالتحديد سنة 61 بعد الهجرة 680 بعد الميلاد، عندما قُتِل الحسين بن علي بن أبي طالب، و71 من آل بيت النبوّة، كانوا معه في معركة كربلاء (مدينة كربلاء في العراق الآن)، على يد الجيش الأموي التابع ليزيد بن معاوية ثاني حكّام دولة الأمويين التي سيطرت على مقاليد الخلافة الإسلاميّة قرابة 90 عامًا (41 – 132 هـ / 662 – 750 م)، بعد رفض الحسين وأتباعه مبايعة يزيد خليفة على المسلمين.
الشقيقان عبدالله وسعيد وأبناء عمومتهما سيستخدمون السيوف والأعلام والطبول وصاجات نحاسيّة لتدشين مواكب الاحتفالات بموالد الأولياء في سوهاج وأسيوط وقنا، وغيرها من المحافظات القريبة منهم.
وتُستخدم السيوف والأعلام والطبول الكبيرة في الطواف بمواكب الاحتفال، وعادة ما يتبارى اثنان من خُدّام الطريقة (خادم الطريقة هو لقب يُطلق على المنتسب لها) باستخدام السيوف في حلقات تكوّنها جموع المتفرّجين، وفي هذا الفيديو الذي يعود للعام 1997 مشاهد لموكب الاحتفال وطريقة التباري بالسيوف.
بينما نشاهد في هذا الفيديو الذي يعود للعام 2015 توزيع الفول النابت بالمجّان على المريدين (المريد هو من قدم للاحتفال بمولد الولي أو الدعاء في جواره)، في الخدمات (الخدمة هي سرادق صغير يُقدّم من خلاله الطعام مجانًا، ويموّله الأثرياء عادة كنوع من التقرّب إلى الله)
السيوف للرقص أم الجهاد؟
ويبدو أن هذه السيوف التي تُستخدم الآن في عروض تبدو ترفيهية أو استعراضيّة هي إرث قديم يدفع به الصوفي عن نفسه سُبّة التخاذل أو الهروب من مواجهة الأعداء، مثلما يرى عبدالرحمن الوكيل في كتابه “هذه هي الصوفيّة”، ويتساءل مستنكرًا: “أروني صوفيًا واحدًا قاتل في سبيل الله”. [1]
بينما يرد عليه عامر الطويل في كتابه الطرق الصوفية في مصر، أن الغزالي كتب لابن تاشفين ملك المغرب يستنهضه ليحارب ويزود عن الأندلس، “إمّا أن تحمل سيفك في سبيل الله، وإمّا أن تعتزل إمارة المسلمين حتى ينهض بحقهم سواك”، ويستشهد برسالة ابن عربي للملك الكامل حين تهاون في قتال الصليبيين “إنك دنئ الهمّة، والإسلام لن يعترف بأمثالك، فانهض للقتال أو نقاتلك كما نقاتلهم”، ويذكر تمردًا مصريًا ضد أمراء المماليك قاده الشيخ أحمد الدردير 1786 ميلاديًا، أجبر به المماليك على احترام حقوق الإنسان، قبل الثورة الفرنسية بثلاث سنوات. [2]
البحث عن وقود للثورات
لكن ياسر بطيخ، الباحث في الدراسات الإسلامية بجامعة المنيا، يرى أن الصوفيين ليسوا ثوارًا، وأنّ هناك خلطًا بين الصوفيين وآل البيت الذين تزعّموا بحقّ أكثر من تمرد لاستعادة الملك الذي انتزعه الأمويون أو العباسيون فيما بعد، وأنّ حركات التمرّد التي ارتدت ثوبًا صوفيًا إنما استقوت بحشودهم وبثّت الطمأنينة في قلوب الثائرين بإيهامهم بمعجزاتهم أو تأييدهم من الله مثلما حدث في الثورة المهديّة في السودان.
الولي ظل الإله المحلّي القديم
“الصوفية وجدت هوىً في مصر لم تجده في غيرها من الأمصار، فالمصريون القدماء الذين وجدوا هنا قبل آلاف السنين كانوا يؤمنون بالإله المحلّي المميّز لكل إقليم، والولي هو هذا المقابل للإله المحلّي القديم، يحرس الإقليم ويغمر أهله ببركاته ومعجزاته، مثل الفرغل في أسيوط، والبدوي في طنطا، والعارف بالله في سوهاج، وعبدالرحيم القنائي في قنا، وأبوالعباّس في الإسكندريّة”، يقول خالد إسماعيل، الصحفي والروائي.
الصوفيون كانوا علماءً في الأصل
“في كل الأديان وكل الثقافات محاولة للبحث عن المُخلّص أو القوى الغيبية، والتصوف في الإسلام طريق للوصول إلى الله، والأولياء أو المتصوفة وسائط تقرّب إلى الله، وهم يستشهدون بالآية القرآنية رقم 35 من سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ولقد كثر أصحاب المناقب من آل البيت، أو من ينتهي نسبه بهم، ومعظم الأولياء المشهورين في مصر وغيرها من الدول الإسلامية كانوا في الأصل من العلماء أو الفقهاء لهم مؤلفاتهم وكتبهم، لكن بمرور الوقت تغافل الناس عن مكانتهم العلمية وجعلوا كل اهتمامهم منصبًا على الجزء الروحاني أو ما يُعرف بالكرامات”، يقول الدكتور مصطفى رجب، أستاذ التربية الإسلامية ورئيس قسم أصول التربية بجامعة سوهاج.
ويضيف رجب: “الأولياء المشهورون في مصر مثل أبو الحسن الشاذلي أو المرسي أبو العباس ينتمون لآل البيت، كما يقولون، وهو ما يفسّر لنا قدومهم من المغرب إلي مصر، لأن آل البيت ومحبيهم هاجروا المدينة المنوّرة لأكثر من مكان هربًا من الاضطهاد الذي نالهم بعد قتل الحسين في كربلاء، منهم من استقرّ في مصر خاصة في الصعيد عن طريق البحر الأحمر مستغلًا التشابه المناخي والبيئ بين الصعيد والحجاز، أو تونس والمغرب البعيدتين عن نفوذ الدولة الأموية وعاصمتها في دمشق أو الدولة العباسية فيما بعد وعاصمتها بغداد، كانوا ينكرون أنسابهم ويهاجرون سرًا”.
“أوّل من غرز بذرة التصوّف في مصر هو ذو النون المصري المتوفي سنة 245 هجريًا – 859 ميلاديًا… لكنه لم ينشأ بشكل فعلي قبل 569 هجريًا – 1173 ميلاديًا، وهو التاريخ الذي أنشأ فيه صلاح الدين الأيوبي أولى الخانقوات في مصر”[3]
الصوفيّة تزدهر مع العثمانيين
نظرة خاطفة على تاريخ الطرق الصوفية سنجد أنّها خلال قرنين من الزمان (1100 – 1300) ميلاديًا، ظهرت 8 طرق رئيسية انتشرت في 28 دولة، وتزامن هذا مع الحملات الصليبية على الشرق التي بدأت في 1096 واستمرّت حتى 1291 ميلاديًا، إضافة إلى غزو التتار وسقوط بغداد عاصمة الدولة العباسية في 1258 ميلاديًا، وخلال الستة قرون التالية (1300 – 1900) سنجد أن هناك 19 طريقة رئيسية وُجدت وانتشرت في 27 دولة، وهي فترة سيطرة الدولة العثمانية التي دامت أكثر من 600 عام، بدأت في 1299، وانتهت في 1923 ميلاديًا على يد مصطفى كمال أتاتورك.
ولعل هذا الاقتباس من كتاب التصوّف في مصر إبّان العصر العثماني يوضّح لنا هذه الفرضيّة. فبحسب الكاتب “كان الفقراء أروح بالاً وأكثر طمأنينة من الفلاحين في حقولهم. والتجار في متاجرهم. والصناع في مصانعهم. فقد كانوا في أمنٍ من تطبيق القوانين. وكانوا في أغلب فترات الظلم الفادح في نجاة من هذه الشرور كلها؛ لأن الجنود كانوا يخافون بأسهم، ويخشون سلطانهم الروحي. ويؤمنون باتصالهم بالله، فيتزلفون إليهم ويطلبون الرضا منهم. قأقبل بعض الناس على دخول الطريق مدفوعًا بما سيصيبه في رحاب الزوايا من اطمئنان البال واستقرار الحال… الفقراء يعيشون في الزوايا، طاعمين كاسين، على نفقة المحسنين والأثرياء بدعوى التفرغ للذكر والانقطاع للتهجد والتجرد لعبادة الله. ومن أطرف مفارقة هذا العصر أن يكون هؤلاء الزهاد الذين يدَّعُون التقشف والقناعة بالتافه من شئون العيش، أرغد عيشًا وأترف حياة من الفلاحين والتجار وأرباب الحرف”. [4]
مسارات التصوف تاريخيا
يرى الكاتب الأردني والخبير في الحركات الإسلاميّة، حسن أبو هنيّة أنّ “مسارات التصوف تاريخيًا تكشف عن تحولات عميقة في بنيتها وتكوينها وعلاقتها بالسلطة، فقد تحوّلت من تجربة شخصية ذات طبيعة نخبوية إلى ظاهرة اجتماعية منذ القرن الحادي عشر الميلادي، واستقرت تصوفًا طرقيًا شعبيًا منذ القرن السابع عشر، إبان الدولة العثمانية التي استدخلته في أجهزتها الأيديولوجية، ولم يكن للصوفية أن تستمر وتزدهر دون مساندة السلطة ورعايتها ولم تكن السلطة لتحافظ على استقرارها دون تأييد الصوفية، فقد حكمت معادلة “الولاء/الرعاية” العلاقة بين الطرفين، وعلى الرغم من أن هذه المعادلة لم تكن آلية مطردة تاريخيًا، إلا أنها في سياق الدولة الوطنية المعاصرة باتت أكثر موالاة، واقتصرت وظيفتها على الولاء المطلق للسلطة، فالسلوك السياسي للطرق الصوفية تاريخيا كان متأرجحا بين المعارضة والموالاة”.[5]
القانون رقم 118 لسنة 1976 الذي أصدره مجلس الشعب في حقبة السادات، نظّم طريقة عمل الطرق الصوفيّة تحت إطار المجلس الأعلى للطرق الصوفيّة الذي يتشكّل بحسب المادة الخامسة من الفصل الثاني، من: 1 – شيخ مشايخ الطرق الصوفية (رئيسًا). 2 – عشرة أعضاء من مشايخ الطرق الصوفية المنتخبين لعضوية المجلس (أعضاء). 3 – ممثل للأزهر يختاره شيخ الأزهر (عضوًا). 4 – ممثل لوزارة الأوقاف يختاره الوزير (عضوًا). 5 – ممثل لوزارة الداخلية يختاره الوزير (عضوًا). 6 – ممثل لوزارة الثقافة يختاره الوزير (عضوًا). 7 – ممثل للأمانة العامة للحكم المحلي والتنظيمات الشعبية يختاره الوزير المختص (عضوًا).
بينما حددت المادة 50 من القانون في الباب الثالث الخاص بميزانية المنظمات الصوفية ونظامها المالي، إيرادات الموازنة الخاصة بالمجلس الأعلى للطرق الصوفيّة، والتي تتكوّن من:
(أ) المبالغ التي ترصدها الدولة في ميزانيتها للطرق الصوفية سنوياً.
(ب) الهبات والتبرعات والإعانات المقدمة من الأفراد والأشخاص الإعتبارية المختلفة في الدخل والخارج.
(ج) الاشتراكات الشهرية أو السنوية التى تحصل من أعضاء الطرق الصوفية طبقاً للقواعد التى تحددها اللائحة التنفيذية.
(د) 10% من حصيلة صناديق النذور في المساجد والأضرحة التابعة لوزارة الأوقاف.
عدد الصوفيون في مصر
يقول الدكتور عبدالهادي القصبي، رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفيّة، وعضو مجلس النوّاب عن ائتلاف “دعم مصر”، إن عدد الطرق المسجّلة في مشيخة الطرق الصوفيّة هو 76 طريقة. وعدد الصوفيين يتجاوز 15 مليون مصري تقريبًا.
ويرفض أي اتهامات للصوفيين بأنّهم الباب الخلفي لنشر المذهب الشيعي في مصر. يقول “الصوفيون المصريون من أهل السنّة، والفكر الشيعي لن يجد له طريقًا في مصر. والتصوّف الذي ننشده هو التمسّك بسنّة الرسول وكتاب الله. والهدف الرئيس من الاحتفال بموالد الصالحين والأولياء، إحياء ذكراهم ليقتدي الناس بهم”.
ويرى القصبي أنّ القول بموالاة الصوفيّة للحُكّام مغالطة مرفوضة لأنهم مع الحق أينما كان ولا يخشون فيه لومة لائم. مضيفا “تاريخهم في الزود عن حقوق الناس طويل ومسطور في مجلّدات”.
كلمات تعريفية:
الولي: رجل متديّن يعتقد البعض في قدراته الروحانية واتصاله بعالم الغيب
آل البيت: من ينتهي نسبهم بأحد أبناء السيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول محمد
الطرُق الصوفيّة: طرق للعبادة ترتكز على الزهد في مبهجات الدنيا
الشيعة: ثاني أكبر طائفة مسلمة بعد السُنّة
المولد: احتفال شعبي له طابع ديني
الخانقوات: لفظة فارسية تعني بيت العبادة وفي المغرب العربي يطلقون عليها الزوايا أو التكايا
المصادر:
[1] عبدالرحمن الوكيل – هذه هي الصوفيّة- ص 170
[2] د. عامر النجار: الطرق الصوفية في مصر – نشأتها ونظمها وروادها ص14
[3] د. عامر النجار: الطرق الصوفية في مصر – نشأتها ونظمها وروادها ص14