حين انتصرت فيروز للقاهرة في «الحرب الباردة» مع أمريكا
جرت العادة أن تكون الحروب بين الشرق والغرب في معارك سياسية، ولكن لأول مرة تتحول المعركة إلى أخرى فنية في الضواحي الخضراء التي تعيش فيها الفنانة اللبنانية فيروز، حين شغلت العالم بصوتها الهادئ، في ستينيات القرن الماضي، فاللون الفريد الذي جعل من صوتها ترنيمة مقدسة تصافح كل أذن تسمعها، جعلها سببا لحرب باردة نشبت بين مصر والولايات المتحدة. قاعدة «زوروني كل سنة مرة» التي اتبعتها فيروز في أن تطل على جمهورها بأغنية مرة واحدة كل عام أو عدة أعوام، ليست جديدة عليها، حيث اتبعتها في السنوات الأولى التي شهدت نجاحها الفني القوي، فكانت تختار عملا فنيا رائعا تنفذه مرة واحدة في العام وتترك الجمهور يقتات منه حتى يسمع الأغنية الجديدة.
القاهرة أولا
الحكاية بدأت في عام 1966، عندما أعلنت القاهرة إطلاق أغاني فيروز عبر أجهزة الإعلام من إذاعة وتليفزيون، بعد انقطاع دام لعدة سنوات نظرا لعدم التعاون أو تبادل الزيارات إلى مصر، وطل الصوت الذهبي على ملايين المصريين، استجابة لدعوة وجهها وزير الإرشاد القومي الدكتور أمين هويدي، للسيدة فيروز لزيارة القاهرة، وبالفعل استجابت فيروز وأعلنت عن شوقها لزيارة مصر والاشتراك في تقديم أعمال فنية.
ووفقا لما نشر في مجلة «الموعد» اللبنانية عام 1966، كان من الممكن أن تظل هذه الدعوة سرا ولكن المخاوف من احتمالية تسريب الخبر، جعلت الإعلام المصري ينقل خبر انتقالها إلى مصر بشكل علني ورسمي، واجتاز هذا الخبر الحدود المصرية ووصل إلى أقصى الغرب في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا بدأت حرب جديدة «حرب باردة» بين البلدين، كأنه صراع حربي بين معسكرين.
رغم مدة الزيارة التي لم تتجاوز أيام، إلا أنها في ذلك الوقت لم تتفرغ لزيارات خارج لبنان بسبب عروض الفرقة التي أسستها مع الأخوين رحباني وقدمت عروضا تعد الأنجح في بيروت، وبالفعل تم الإعلان عن زيارتها للقاهرة بطريقة غير مباشرة حين قدمت المذيعة سلوى حجازي أحدث أغنياتها في برنامج «المجلة الفنية»، المذاع عبر التليفزيون العربي، وبدأت الأغنية التي تقول:
شو قال لك حبيبك..
شو وصاكي حبيبك..
ع بيادر الصيف
لما بيجي الصيف
ع الحقل اسبقيني
وانتهت إذاعة الأغنية، ثم قدمت حجازي لقاءا مسجلا مع الأخوين رجباني عن الأغنية العربية، وأثمر عن هذا اللقاء دعوة للتعاون الفني بين لبنان والقاهرة.
دعوة أمريكية
“عاصمة الفن أولى بها” كان هذا هو اتجاه نيويورك خلال كل المحاولات لجذبها إلى نيويورك بدلا من قبول الدعوة إلى القاهرة، خاصة بعد معرفتهم بأن الصوت الواعد له جمهور كبير ممن لا يتحدثون العربية أيضا، وفي اليوم التالي من إذاعة الحلقة، كانت أوركسترا نيويورك «فيلارمونيك أوركسترا» تقدم عروضا في البلاد العربية.
وبعد إذاعة الحلقة تواصلت الفرقة الأمريكي مع ممثلها في أثينا تطلب منه الانتقال بسرعة إلى لبنان لتوجيه دعوة للمطربة اللبنانية الكبيرة فيروز للانتقال إلى أمريكا، وفي الوقت نفسه طلبت منه الاتفاق معها على الاشتراك في برنامج غنائي موسيقي تحييه الأوركسترا معها في مختلف بلاد العالم.
الحلقة الفيروزية
سافر ممثل الفرقة إلى لبنان ووجد أن الشباب اللبناني يطالب بتأسيس نادي أطلقوا عليه اسم «الحلقة الفيروزية»، للمحافظة على تراثهم الفني والدفاع عنه، باعتبار أن فيروز أصبحت من الرموز اللبنانية، وتقدموا حينها بطلب من وزارة الداخلية اللبنانية للترخيص لهم بإنشاء الحلقة التي تهدف إلى بعث التراث الفني اللبناني وإحياء الفنون الشعبية ونشرها محليا وعالميا.
وكان من المفترض، بعد تأسيس الحلقة أن يتم إنشاء مكتبة موسيقية تضم جميع تسجيلات فيروز، لإتاحتها لـ”الفيروزين”، وحدث كل هذا خلال شهر واحد، في الوقت الذي كانت تستعد فيه للغناء في قلعة بعلبك، وكانت تقضي ساعات طويلة في إجراء البروفات وحفظ الألحان لأغانيها التي ستقدمها في المهرجانات الشعبية اللبنانية الفلكلورية.
وربما كان انشغالها هو السبب في عدم زيارة «الحلقة الفيروزية» أو قبول الدعوة التي وجهت إليها من الأوركسترا الأمريكية العالمية، فكان هدفها الوحيد حينها هو انتهاء مهرجانات بعلبك بنجاح، وبعدها التفرغ للسفر إلى أي دولة أخرى.
ألحان عبدالوهاب
الخطوة التالية بعد المهرجانات كانت تنفيذ قرارها بالمجئ إلى القاهرة، لتسجيل عدد من أغانيها الجديدة، ولكن أرادت أن يكون التعاون هذه المرة مع الموسيقار محمد عبدالوهاب وليس مع الأخوين رحباني، بعد النجاح الذي حققته أغنية (أسهار) من ألحانه عام 1961، وعند سؤالها عما إذا كانت تريد الانتقال إلى نيويورك بدلا من القاهرة لم تجب، فقد كانت تعرف أن دعوة القاهرة هي السبب في تهافت الفرقة الأمريكية على حضورها.
خاصة وأنها لاحظت أن مندوب الفرقة الأمريكية لم يتكبد عناء السفر والمجئ خصيصا لها في لبنان، وكذلك لم يلح في عرضه، وكانت تعرف أيضا أن هذه الدعوة كانت بهدف استباق القاهرة، وتعطيل رحلتها إليها ولم ترد أن تكون عاملا في الحرب الباردة التي دارت بين القاهرة ونيويورك، ولا تزج بنفسها فيها.
ووفقا لكتاب «سندباد العصر.. أنيس منصور» بقلمه، عندما غنت فيروز لعبدالوهاب (يا جارة القمر)، و(خايف أقول اللي في قلبي)، و(أسهار بعد أسهار)، جاءت هذه الاغنيات على اسطوانة دارت بين أنيس وعبدالوهاب لشهور إعجابا بالأغنيات، وكان التغيير الوحيد التي أجرته هو كلام أغنية (خايف أقول اللي في قلبي)، فغنتها فيروز (زارني طيفك بمنامي) بدلا من (في منامي). وحين سأل عبدالوهاب عن رأي أنيس منصور أجابه: “بصوتك يا أستاذ رائعة، وبصوت فيروز جميلة، أنت السمو وهي الجمال” وكان تعليق عبدالوهاب: “الله.. حلوة.. كلام حلو آه”، ووصفها عبدالوهاب قائلا: “لم يعرف الغناء صوتا أرق وأجمل من فيروز، إنها خيوط الحرير، إنها أشعة من الفضة”، وتوالى التعاون معه حتى بعد انتهاء زيارتها القصيرة الفارقة إلى مصر، وكان عبدالوهاب يسافر لمقابلتها في لبنان من أجل التعاون لأعمال فنية وغنت من ألحانه قصيدة جبران خليل جبران (سكن الليل)، وقصيدة سعيد عقل (مُر بي).
اقرأ أيضا
بيت صغير بالقاهرة.. متحف عاشق لفيروز
17 تعليقات