ياسين التهامي في رسالة دكتوراه: أنا مثل المريض الذي يبحث عن دوائه بالكلمات
كيف يؤثر إنشاء القصيدة في إنشادها؟، وكيف يؤثر الإنشاد في الجمهور؟، سؤالان انشغل بهما الباحث محمد حسن جمعة. قبل أن يقرر أن تكون إجابته أكاديمية عبر أطروحته الجامعية لنيل الدكتوراه. فاختار «الشعر الصوفي بين الإنشاء والإنشاد: دراسة صوتية دلالية» عنوانا للرسالة التي حصل بها مؤخرا على درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية جامعة الإسكندرية. وقد اختار الباحث نموذجا لبحثه المنشد الشيخ ياسين التهامي ليرصد من خلاله إنشاد الشعر الصوفي، راصدا الملامح الأسلوبية التي جعلت الشيخ ياسين على رأس المنشدين الصوفيين في الوقت الحالي.
فكرة البحث
يقول الباحث محمد حسن لـ«باب مصر»: بدأت فكرة البحث على نحو بدا طريفًا؛ إذ سألني أبي ذات يوم عن سر تفاعل جمهور أم كلثوم مع القصائد التي تغنيها بالفصحى، على ما في هذه القصائد من عمق في المعاني ودقة في التخييل، فأجبته وقتها لعل جمهور الأمس مختلف عن جمهور اليوم، من حيث الثقافة العامة وتذوق الشعر. ثم دارت الأيام، وساقتني الأقدار إلى حضور حفل لأحد المنشدين الذين عُرفوا بإنشادهم للقصائد الصوفية، فلاحظت تفاعلًا كبيرًا من الحضور مع المنشد، على ما في هذه القصائد التي ينشدها من عمق فكري عُرفت به.
يضيف: أدركت حينها أن الأمر ليس كما ظننت أول مرة؛ بأن جمهور الأمس مختلف عن جمهور اليوم، وأن الأمر لا يتعلق بمدى فهم الجمهور وإدراكه للمعاني الدقيقة للقصيدة حتى يتجاوبوا معها فقط، بل قد يتعلق بعوامل أخرى تُضفي جوًّا من الإثارة والمتعة، ليتشكل بذلك أول معلم من معالم إشكاليتي البحثية، التي نتج عنها سؤالان، هما: كيف يؤثر إنشاء القصيدة في إنشادها؟، وكيف يؤثر الإنشاد في الجمهور؟
وعن سبب اهتمام الباحث بدراسة لغة الشعر الصوفي، يقول: ما دفعني لتناول الشعر الصوفي بالدراسة والتحليل قلة اعتناء الدارسين بالأدب الصوفي بشكل عام، على الرغم من الثراء الذي يتمتع به هذا الأدب، ثم أن الدراسات التي وَجَّهتْ وجهها إليه، اهتمت – في الأغلب الأعم – بالنواحي الأيديولوجية منه، مع تهميش البحث في البناء اللغوي لهذا الأدب، على ما فيه من تفرد وتميز. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ثمة ندرة واضحة للأبحاث الأكاديمية والمؤلفات التي اتخذت من الجانب المسموع للشعر على أهميته منطلقًا لتحليل الشعر، والاكتفاء بتحليله على مستوى الإنشاء، رغم أن الشعر العربي عامة، والشعر القديم منه خاصة، قد كُتب ليُنشد ويُلقى.
المنشئ والمنشد
اختار محمد حسن في سبيل تطبيق الفكرة مُنشِئًا ومُنشِدًا، فكان المنشئ ابن الفارض؛ ذلك أن من يمعن النظر في أشعار ابن الفارض فسيدرك بما لا يدع مجالًا للشك أنها تصلح جميعًا للدراسة والتحليل، خاصة على مستوى الإنشاء، إذ يتوفر في جميع قصائده العديد من النواحي الأسلوبية الجمالية على جميع مستويات البناء اللغوي، ولكن الباحث قد اختار قصيدته الكافية التي تبدأ بـ«تِه دلالًا» بوصفها نموذجًا يستطيع من خلاله دراسته وتحليله على مستويي البناء اللغوي والفكر الصوفي، قبل دراسة القصيدة نفسها حين انتقلت إلى حيز الإنشاد، وذلك حين أنشدها وتغنى بها الشيخ ياسين التهامي. وقد اختار الباحث الشيخ ياسين التهامي لأمرين؛ أولهما: ارتباط هذا المنشد بالذات بشعر ابن الفارض، وثانيهما: لما يتميز به هذا المنشد من أسلوب في الإنشاد، جعله على رأس المنشدين الصوفيين في الوقت الحالي؛ حيث يُضفي على القصيدة المنشدَة أبعادًا جمالية من خلال أدائه المتميز.
لقاء مع ياسين
قبل أن ينتهي الباحث من أطروحته، أتيح له أن يلتقي الشيخ ياسين في الاحتفال بمولد سيدي علي زين العابدين بالقاهرة. وهو اللقاء الذي يصفه بأنه كان في غاية الثراء، ويوضح: طرحت عليه عدة أسئلة شغلتني طوال رحلة البحث، وعلى رأسها نظرته في تأثر جمهوره بالمعاني الصعبة التي يحملها الشعر الصوفي، على الرغم من عدم إدراكه لهذه المعاني، فأجاب الشيخ: «إن ثمة ثقافة حسية تجمعني بالجمهور، فأنا أتأثر بالمعنى أولًا وأحس به، فينتقل هذا الإحساس إلى الجمهور مباشرة، فيترنح ويبكي ويهيم ويتأثر على الرغم من عدم إدراكه لطبيعة المعاني التي تقال، فما يجمعنا هو الكلمة التي نتفاعل بها جميعًا، فيتحقق الانسجام الذي تراه».
وسألته كذلك عن اختياره للأبيات التي ينشدها في حفلاته، هل هو اختيار ذوقي أو اختيار يقوم على معايير وأسس معينة؟، فأجاب: «أنا مثل المريض الذي يبحث عن دوائه في مثل هذه الكلمات، والكلمة التي تشدني وأشعر أن فيها دوائي اختارها، فأتجاوز بذلك عن بعض الكلمات الأخرى التي قد أظلمها لعدم استيعابي الكامل لها، فأنا في نهاية الأمر اختار ما أشعر به وأحسه».
ويستكمل الباحث كلامه، فقال: لاحظت أن الشيخ ياسين يترنم بأسماء الله الجمالية بطريقة تختلف عن إنشاده لأسماء الله الجلالية؛ إذ يترنم في الأولى ويمد حروفها ويطيل في وقوفه عليها، وهو ما لا يفعله مع الأسماء الجلالية، وبسؤال الشيخ عن هذا الأمر أجاب: «لله أسماء جمالية وجلالية، ولا أستطيع أن أتحول بسرعة ومباشرة من إنشاد هذه إلى تلك، بل يجب أن أمهِّد للأمر».
ولاحظت كذلك أن الشيخ يزاوج في جميع حفلاته بين السرعة والبطء في مواضع معينة تكاد تكون ثابتة في كل حفل من حفلاته، فسألته عن سر فعله هذا، فأكد لي أنه لا يخطط لهذا التزاوج بين السرعة والبطء، فالكلمة في نهاية الأمر هي التي تفرض عليه الحالة المثلى لإنشادها. ولذلك، فقد يحتفظ – كما أكد – بنمط واحد من السرعة أو البطء طوال الحفل، مخالفًا بذلك طريقته الأثيرة لديه بالمراوحة بينهما؛ وما يدفعه إلى ذلك حينها تأثره بهذه الكلمة أو تلك، فيحلِّق بإنشاده في عالم روحاني آخر، ويغادر عالم الأرض ولو إلى حين، حسب وصفه.
تعليق واحد