حكايات من دفاتر “آل الكيّال”.. أصلهم سوريّ وأُطلق عليهم “بيت العلم”
آل الكيال أو “الكيالين” هم أسرة معروفة بدشنا، وارتبط لقبهم “الكيال” بمهنة جدهم الأكبر عبدالرحيم، الذي كان أمينًا لشونة دشنا القديمة في القرن الماضي فأطلق عليه “الكيّال”.
“بيت العلم” هو اللقب الذي أطلق على “الكيّالين”، إذ خرج منهم عدة معلمين ومتخصصين في علوم القرآن والشريعة والفن التشكيلي واللغة، وآخرون سلكوا طريق التصوف.
لكن هل حقًا أصل “الكيّالين” من الشام؟
أنس عبد القادر، الباحث في التراث، يذكر في كتابه “شخصيات عاشت في دشنا” يفرد جزءًا من حديثه عن الشيخ أمين الكيال، وهو حفيد عبدالرحيم الكيال، يقول: ولد الشيخ أمين في بني مزار بالمنيا، لأصول ترجع إلى إدلب بسوريا، وهو ما يؤكد صدق ما ذهب إليه أكثر الناس.
كان أمين يعمل في شونة غلال في بني مزار ثم انتقل إلى دشنا في نفس وظيفته، وظل بها حتى وفاته، تقول أم وجيه، من مواليد 1937، وهي حفيدة أمين الكيال، إن جدها أخبرها أن هجرة آل الكيال من سوريا جاءت في أواخر القرن الثامن عشر، وأول من استقر بدشنا من الكيالين كان جدهم عبدالرحيم الكيال، الذي شارك رجال دشنا في صد الحملة الفرنسية ومنعها من اجتياح البلدة، مستخدمين الفؤوس والنبابيت.
وتتابع أم وجيه أن جدها محمد عبدالرحيم الكيّال ورث مهنة أبيه في شونة دشنا القديمة، إلى جانب تحفيظ القرآن في كتاب العزازية.
في الفترة ما بين 1890 و1900 أنجب محمد عبدالرحيم 7 ذكور وبنتا هم محمد الأمين وأحمد الطاهر ومحمد المأمون، وأبوالوفا وغزالي وعبدالرحيم وياسين وأخيرا فاطمة، عمل خمسة منهم في تحفيظ القرآن والتدريس، وهم أمين وطاهر وغزالي وياسين وعبدالرحيم واستقروا بدشنا، بينما سافر مأمون وأبو الوفا إلى القاهرة.
العارف بالله محمد أمين الكيال
ولد الشيخ محمد الأمين محمد عبد الرحيم الكيّال عام 1900 ببني مزار والتحق بالأزهر الشريف ونال منه شهادة “العالمية”، لكنه رفض أن يلتحق بأي وظيفة حكومية وفضل أن يشتغل في تحفيظ القرآن وإلقاء الخطب بالمسجد العمري، قبل أن ينهار بفعل الفيضان في عام 1943.
واصل الأمين عمله في الخطابة وتحفيظ القرآن، لكنه انتقل إلى مسجد آل فرحان بالعزازية حتى وفاته في السبعينيات، وتحكي حفيدته أم وجيه أن جدها كان من مريدي سيدي أبوالحسن الشاذلي، وفي سن السادسة والعشرين أدى فريضة الحج سالكا نفس طريق شيخة وسط الصحاري، باستخدام الجمال والمراكب.
وتتابع حفيدة الكيال أن محبته للشاذلي أهلته أن يكون أول نائب للطريقة الشاذلية بدشنا، بعد أن أخذ العهد على يدي الشيخ بغدادي سعد بالحبيل في الأقصر، هذا “العهد” الذي يمنح لتربية المريدين، بحسب قولها.
“كان الشيخ صاحب كرامات، وكان ليّن المعاملة” هكذا تقول، مضيفة أن سائلًا طرق باب بيته في أحد الأيام ليطلب صدقة، فطلب من ابنته أن تحضر الجنيه الوحيد الموجود في البيت، وبعد قليل حضر بعض أثرياء البلدة ومعهم طفل يصرخ من الألم، وما إن جلس الطفل أمام الشيخ حتى وضع مسبحته حول عنقه وبدأ يتلو آيات من القرآن، وأثناء التلاوة شُفي الطفل كأن ما به شيء، ليمنح والده الشيخ عشرة جنيهات.
كتب الشيخ
صنف الشيخ أمين مؤلفات كثيرة ضاع أكثرها، ولم يبق منها إلا كتابين الأول” الصلوات الزكية- تتضمن مولد خير البرية مرتبة على الحروف الهجائية” والذي يقع 69 صفحة مرتبة على الحروف الهجائية، وتبدأ بجملة اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وتنتهي بقافية الحرف.
أما الكتاب الثاني “النفحات الربانية”، الذي يشمل قصيدة المقصد الأسنى في التوسل بأسماء الله الحسنى ومطلعها “الله يا الله يا الله / يا رب يا غوثاه يا مولاه”، وقصيدة النصائح الدينية الأدبية المرتبة على الحروف الهجائية، ومطلعها: أطع الإله وحاذر عصيانه / واذكره تسعد دائما برضاه”، وقصيدة فضل لا إله إلا الله.
وقد جمع الشيخ محمد عبد القادر، نائب الطريقة الخلوتية بدشنا، والشيخ فكري العبد، نائب الطريقة الشاذلية العفيفية بجنوب الصعيد، ما تبقى من تراث الشيخ أمين الكيال.
وحان وداع الأحباب
قبل وفات الشيخ بأشهر كتب الشيخ أمين قصيدة يودع فيها أحبابه، يقول فيها:
تهيأ للرحيل فعن / قريب أنت تلقاني
وخير الخلق سيدنا / حبيبي ونور وجداني
أراه معي يلاطفني / ويؤنسني ويرعاني
يقول أمين في كنفي / ومن أهديه إحساني
وحينئذ أودعكم / بروحي ثم جسماني
وتقول أم وجيه حفيدته: كنت معه يوم وفاته وكان مريضا وحزينا لأن ابنه الوحيد كان مصابًا بـ”جلطة” وبين الحياة والموت، وقتها أعددت له وجبة الغذاء وأطعمته بيدي، ثم تحمّى وغيّر ثيابه، وأعددت له كوب عصير ليمون، بعدها أسلم روحه لله ولفظ أنفاسه الأخيره وهو متكئًا على كتفي.
معروف عبدالجليل، مدرس بالمعاش، أحد مريدي الشيخ، يقول إن جنازة الشيخ كانت أكبر جنازة شهدتها دشنا، لقد احتشد الناس فيها بالآلاف، جاءوا من ربوع مركز دشنا.
يتابع: كانت الجنازة أشبه بعرس فقد جاء أبناء الرفاعية ببروجهم ودفوفهم، واصطف عساكر المركز في تشريفة للجنازة، ولا استطيع أن أنسى مشهد ارتفاع النعش فوق أكتافنا، ونحن نهتف “الله أكبر.. الله اكبر”، بينما ترتفع زغاريد النساء، هكذا يروي.
طاهر الكيال المعلم الأول
معلم جديد من “بيت الكيّال” هو أحمد الطاهر محمد عبد الرحيم الكيال، وشهرته طاهر، ويصغر الشيخ أمين بعام واحد، وقد أخذ معه العهد من الشيخ البغدادي كمربي للمريدين على منهج الطريقة الشاذلية العفيفية.
درس بالأزهر وحفظ القرآن، وكان من أوائل من عملوا بمهنة التدريس بدشنا، منذ افتتاح المدرسة الأولية بدشنا في العشرينيات، وكان مقرها مدرسة صلاح الدين بصفارة دشنا.
استمر الطاهر في وظيفته تلك ليصبح ناظر المدرسة حتى وفاته، ويروي أبوالسعود مغربي، من مواليد 1928، أنه تعلم القراءة والكتابة بالمدرسة الأولية على يد الحاج طاهر الكيال، في وقت كانت فيه تلك المدرسة هي الوحيدة بجانب الكتاب بالمسجد العمري الذي كان يدرس فيه الأخوة أمين وطاهر الكيال.
يتابع مغربي: في ذلك الوقت كنا نأخذ العلم من “الكيّالين” وقد أنجب طاهر الكيال 3 أبناء عمل اثنان منهم في التدريس بدشنا هم محمد بغدادي وعباس، وتوفي طاهر بعد وفاة أخيه أمين بعامين.
ورث محمد البغدادي وعباس مهنة والدهم في التدريس، فالأول كان مدرسا للتربية الفنية واشتهر بالأشغال اليدوية مثل النحت والرسم على الزجاج، أما الثاني فكان مدرسا للغة العربية وكلاهما عمل في مدرسة دشنا الأميرية، التي أنشئت في الثلاثينايت، وتغير اسمها بعد ذلك إلى مدرسة دشنا الإعدادية.
الشيخ غزالي الكيال الخطيب المفوه
وفي الوقت الذي كان فيه طاهر معلما بمدرسة صلاح الدين الأولية، عمل أخوه غزالي بمدرسة آل بريري بعزازية دشنا، مدرسا للغة العربية، وعرف عنه أنه كان خطيبا مفوها ملك الفصاحة ونظم الشعر.
ويحفظ بعض أهالي دشنا واقعة حدثت في الأربعينيات حين حضر النحاس باشا لزيارة دشنا واجتمع الأعيان والأغنياء وجلسوا في الصفوف الأول، وجلس الغزالي في الصفوف الخلفية لأنه لم يكن من ذوي الأطيان والأملاك، وحين دعي للكلمة لأنه كان فصيحا وبدا الحديث أعجب به النحاس باشا وقال له “مكانك ليس في الصفوف الخلفية، مكانك هنا بجواري”، وهو الأمر الذي أثار حفيظة أحد أعيان دشنا، فقال مستهزءًا “ازاي واحد معندوش طين يقعد مع الباشا وإحنا أصحاب الأطيان لا” فسمعه الغزالي ليباغته بهذين البيتين:
بالعلم رفعت نفسي
وبالجهل خفضت نفسك
وليس طينا على اسمي
ولكنّ طينا على اسمك
محمد البغدادي “الفنان الصارم”
هو الابن الأكبر للشيخ طاهر الكيال، ولد في عام 1936 وتخرج في مدرسة المعلمين شعبة تربية فنية، وعمل مدرسا للتربية الفنية بمدرسة دشنا الإعدادية أيام كانت تسمى المدرسة الأميرية.
تدرج في المناصب حتى أصبح مديرها، وبجانب عمله في تدريس التربية الفنية كان موهوبا في الأشغال الفنية بجميع أنواعها، وتميز أسلوبه في استخدام الخامات البيئية البسيطة في أعماله الفنية مثل نوى البلح والبوص وغيرها من الأشياء، التي كانت عديمة الفائدة عند أكثر الناس.
ويحكى محمد خليفة، موظف بالمعاش، أنه كان صارما جدا في تدريس مادة التربية الفنية، وكان يصر أن يتعلم الطلاب أسس الرسم والمقاييس وطرق التلوين.
ويقول معروف عبد الجليل، مدرس بالمعاش، وزامل البغدادي لفترة في دشنا الإعدادية، إنه لا ينسى يوم خروجه إلى المعاش، حين أصر أن يكمل اليوم ورفض أن يستريح قائلا” لازم أدي حق الدولة لآخر دقيقة”.
ارتبط آل الكيال بمصاهرات مع جميع عائلات دشنا وقراها، ولهم أحفاد كثيرون سلك معظمهم طريق التصوف والعلم، ومنهم من برع في الثقافة والفنون كدأب أجدادهم الأوائل.
مراجع وأسانيد:
– كتاب شخصيات عاشت في دشنا – أنس عبد القادر ص 54 -56
– كتاب الصلوات الزكية يتضمن مولد خير البرية للشيخ محمد الأمين الكيال- جمع وتحقيق فكري العبد ومحمد عبد القادر- طبع بواسطة جمعية الزهراء الخيرية
– كتاب النفحات الربانية للشيخ محمد الأمين الكيال – جمعه محمد عبد القادر – جمعية الزهراء.
مصادر الصور من أرشيف نبيل محمد البغدادي الكيال و فؤاد حسين محمد خليفة
تعليق واحد