منازل مكونة من طابقين.. جولة في مدينة كرانيس الأثرية بالفيوم
في منظر جمالي مهيب، تتراص البيوت بجانب بعضها البعض، لتعكس مدى ترابط قاطنيها في حدائق صغيرة وأفنية مشتركة.
هنا في مدينة كرانيس الأثرية، التي تبعد نحو 33 كيلوا مترا شمال مدينة الفيوم، وبنيت قبل 3850 عام، تجد المنازل نظيفة من الداخل، ديكورات بسيطة دلالة على الجمال، مطابخ يفوح منها رائحة الطعام.. “باب مصر” يفتح على هذه المدينة الأثرية.
مدينة أثرية
تقع المدينة بالقرب من مدينة كوم أوشيم، لم يتبق منها سوى الأطلال، فهي أشهر المدن الإغريقية والرومانية، وأهم مستوطنة زراعية آنذاك.
شُيدت المدينة في عهد بطليموس الثاني، ضمن مشروع لدمج المرتزقة اليونانيين مع سكان مصر الأصليين، واستغلالًا للأراضي الخصبة، ويعود تاريخ المدينة إلى القرن الثالث ق.م، واستمرت المدينة على حالها حتى العصر القبطي وبداية العصر الإسلامي.
يقول الدكتور ناجح عمر، بكلية الآثار جامعة الفيوم، إن الحفائر بمدينة كرانيس الأثرية بدأت عام 1895على يد علماء الأثري جرنفل وهانت، ثم جاءت بعثة جامعة ميتشجن من عام 1924 حتى عام 1935 م، ثم بعثة جامعة القاهرة عام 1970م.
وتابع: كشفت البعثات عن أحياء المدينة السكنية، فعرفنا أن منازل المدينة كانت مكونة من طابقين، وكان بالمدينة سوق عام، وحمامات، ومعبدين رئيسيين المعبد الشمالي والمعبد الجنوبي للمعبود سوبك المعبود الرئيسي لإقليم الفيوم، وبجانب ما تم كشفه من شواهد أثرية مثل، ورق البردي والعملات والمسارج والفخار وغيرها من المقتنيات الأثرية التي ترجع للعصر البطلمي.
شوارع وبيوت
يوضح ناجح، أن الحفائر كشفت عن تخطيط المدينة، وتمثل في شارع طولي يمتد من الشمال إلى الجنوب، بالإضافة إلى شارع آخر عرضي يمتد من الشرق إلى الغرب، كما يمكن السير داخل المدينة عبر بعض الشوارع المتعرجة الصغيرة الضيقة، التي كانت تؤدي إلى المعابد، وتعد المدينة مثالًا لتصميم البيوت الذي استمر في الفيوم لفترات طويلة وحتى الآن في بعض البيوت بالقرى.
ويضيف أنه بيوت كرانيس مبنية من الطوب اللبن الرملي، ووضع بشكل أفقي من الداخل وعلى هيئة قباب من الخارج، كما تم تغطية الطوب والحوائط من الداخل بطبقة من الملاط “المحارة”.
ونوه بأنه بالرغم من بساطة المنازل، إلا إنها كانت تمتاز بالجمال الداخلي، واحتوت الحوائط على تجاويف لوضع المصابيح الزيتية “المسارج”، أو استخدامها كخزائن، والنوافذ العالية، التي وضعت عليها الحصر مثل الستائر للحماية من ضوء الشمس.
كما كانت البيوت متلاصقة لا يفصل بينها شيئ، ولظروف الرياح والرمال تتكون من طابقين، وكان يستخدم الدور الأرضي في بعض البيوت للتخزين.
يشير ناجح إلى أنه ما زال الأثريين إلى الآن يعثرون على بقايا من المنسوجات في الرمال، كانت توضع على الحوائط لتجميل المنزل من الداخل، وتمتاز المفروشات والمنسوجات التي عثر على بقايا منها في الرمال، بجمال الألوان وجودة الأصباغ التي غلبت عليها الألوان الحمراء والبنية والصفراء.
ومن خلال ما تبقى من آثار لزخرفة الحوائط، يتضح أنه كان يتم زخرفتها بطبقة غامقة من المحارة، ثم يتم عمل خطوط بيضاء أفقية، كما عثر الأثريون أثناء الحفائر على بقايا كراسي ووسائد وحصر كانت جميعها تستخدم كأثاث داخل المنازل.
الحصول على السباخ
تعرضت مدينة كرانيس في بداية القرن العشرين لإزالة وحفر منطقة كبيرة منها على يد السباخين، حتى وصل بهم الأمر إلى إزالة قلب المدينة بالكامل حسب بعثة ميتشجن الأمريكية.
وفي عام 1926م، تم إصدار قانون بوقف أعمال السباخين، وبدأت البعثة الأمريكية في عمل الحفائر واستخراج العديد من القطع الأثرية من المدينة التي توجد الآن بمتحف كيلسي بمدينة آن أربور ميتشجن بالولايات المتحدة الأمريكية، وهناك بعض القطع بالمتحف الزراعي بالقاهرة.
اكتشاف الحمام الروماني
بعد أن انتهت جامعة ميتشجن من حفائرها بالمدينة، وفي الفترة ما بين عام 1966 إلى عام 1975م، حفر أثريون مصريين وأثريون من المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالمدينة، وكشفوا عن أثر هام في المنطقة الشمالية بالمدينة.
حيث تم العثور على حمام روماني، بطنت حوائطه بطبقة من الملاط رسمت عليه رسومات لأوراق العنب، التي لا تزال واضحة إلى الآن بالرغم من حالة الحمام السيئة بفعل العوامل الجوية، بني الحمام من الطوب، واستخدمت فيه المياه الباردة والساخنة معا.
مدينة كرانيس الزراعية
يقول الأثري أحمد عبدالعال، مدير آثار الفيوم الأسبق، من خلال تحليل بقايا النباتات بمدينة كرانيس الأثرية واكتشاف مخازن غلال بالمدينة وتحليل الطوب اللبن الذي بنيت منه بيوتها، يتبين أنها كانت مدينة زراعية بالأساس، كانت تلك العينات غنية بالبقايا النباتية، والتبن، والقش، وهو ما يجعلنا نتصور شكل حقول المدينة، الغنية بالزراعات المتعددة مثل، الشعير والقمح والزيتون والفاكهة، والجميز والنخيل الذي استخدمت أخشابه في سقوف المنازل، فضلا عن أن الفيوم كانت من أخصب الأراضي المصرية.
ولفت عبدالعال إلى أنه لم يكن سكان كرانيس يعملون بالزراعة فقط، بل كانوا يعملون بعدة حرف أخرى اشتهرت بها المدينة مثل: صناعة الفخار، وصناعة الزجاج، وتصنيع وعصر النبيذ، حيث توجد إلى الآن بقايا لتلك المعاصر بالمدينة، كما توجد أيضًا طواحين للغلال.
معابد كرانيس
يعاود ناجح الحديث قائلا، تم بناء معابد كرانيس من الحجر الجيري والرملي المحلي من الفيوم، عدا بعض القطع من الجرانيت الوردي، والذي استخدم في أرضية المعابد كان من أسوان.
وتعد كرانيس أهم مراكز عبادة المعبود سوبك التمساح معبود الفيوم، وضمت المدينة معبدان، واحد شمالي والآخر جنوبي.
يتكون المعبد الشمالي من ثلاث صالات تنتهي بقدس الأقداس، وقد خصص لعبادة سوبك وسرابيس وزيوس وآمون، وله مدخل يبدأ بدرجات سلالم محدد بدرابزين، أما المعبد الجنوبي، فله مدخل يتعامد على قدس الأقداس، ويبعد حوالي 180م عن المعبد الشمالي وكرس لعبادة سوبك ومعبودات أخرى منها “ببتيسوخوس”.
وبني هذا المعبد الإمبراطور فيروس، ورممه كومودس، ويتكون من صرح يؤدي إلى ثلاث صالات تنتهي بقدس الأقداس، وإلي الغرب من المنطقة توجد جبانة المدينة التي ترجع إلى العصرين اليوناني والروماني، وعثر في موسم حفائر 1990/1991 على مقابر ترجع لفترة الحضارة القبطية.
برديات كرانيس
كانت مدينة كرانيس مصدرا هاما في الحصول على البرديات اليونانية، التي عثر عليها من خلال العلماء في حالة جيدة بسبب خصائص التربة بالمنطقة، وقد مدت برديات كرانيس الأثريين بمعلومات هامة عن الحياة اليومية لمصر القديمة، هذا بجانب العثور على العديد من العملات المعدنية اليونانية والرومانية.