الطراوة| “ملاقف الهواء والمقعد والحديقة” عمارة أوروبية تغلبت على حر الصيف بالفيوم

يضرب السكن في مصر بجذوره في عمق الثقافة الشعبية بما يحمله من سمات وخصائص معمارية تختلف باختلاف العصر، ويمتاز بأنه قادر على خلق تواصل بين الأجيال، لكن قد تنتهي هذه السمات والخصائص وتندثر ليحل محلها عناصر وسمات بديلة تفرضها متغيرات العصر التي تجبر ساكني البيوت على التصالح الذي يشبه الرضوخ والإذعان لهذا التغير.

وشهدت محافظة الفيوم طرز عمارة عديدة منها البيوت والقصور التي تم بنائها خلال القرنين التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقد لعب البناء دورا وظيفيا هاما، حيث كان للفراغات وطرق البناء وخاماته دورا حيويا في ما يسمى بـ”علم الهواء” في المباني الحديثة وفكر السقف العالي وفلسفة الشيش، وهو ما يمتع ساكني هذه البيوت والقصور بتلك الأدوار الوظيفية لنمط البناء وفلسفته.

ويتناول هذا الموضوع الدور الوظيفي للبناء والعمارة في قصور وبيوت الفيوم خلال القرنين الماضيين، والتي أعطت لشارعي الورشة وبطول امتداد بحر يوسف وشارع العمود شكلا معماريا خاصا، لم يبق منه إلا بضع بيوت وعدد قليل جدا من القصور.

 

عمارة أوربية

تصف الدكتورة غدير دردير، مدرس مساعد بقسم الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة الفيوم، وصاحبة رسالة دكتوراه حول “القصور بمحافظة الفيوم خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين”، قصور الفيوم بأنها تنتمي تاريخيا إلى الطراز المعماري الذي ساد خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهناك أيضًا قصور تنتمي للقرن الثامن عشر مثل قصر “أنيسة ويصا” الذي شيد عام 1899، أما باقي القصور التي ترجع للقرن العشرين فقد أسست منذ عام 1924 مثل قصور عائلة الباسل كنوع من العمارة.

وعن علم الهواء في المباني الحديثة وفكر السقف العالي وفلسفة الشيش، تقول دردير، في الفترة التي سبقت العمارة الأوربية كان البيت يحتوي على أكثر من طريقة للتهوية منها:

ملاقف الهواء: وتلعب دورا وظيفيًا هامًا في تهوية المنازل، للتخفيف والتقليل من شدة درجات الحرارة خلال الصيف داخل المنزل، والملقف عبارة عن برج متصل بالمبني، به منافذ هوائية يمكنها سحب الهواء البارد ليدخل الحجرات الداخلية، اعتمادا على ما يحدثه فرق ضغط الهواء الناشئ من حركة الهواء ‏الخارجية التي تمر في قمة البرج، ما يؤدي إلى سحب الهواء الحار من داخل الحجرات ودفع الهواء البارد، وتؤدي الملاقف هذا الدور بشكل جيد إذا تلازم معها وجود ‎مشربيات‎ تكون مفتوحة على الفناء الداخلي للمنزل‎.‎

الدكتورة غدير دردير - الصورة منها
الدكتورة غدير دردير – الصورة منها

وحول كشف الأدوار الوظيفية للبناء، تقول دردير، كما كان الفناء الأوسط المكشوف داخل المنزل يحتوي على الزرع والورود، ما يساعد على القيام بوظيفة تجديد الهواء داخل المنزل ويعطي الطراوة اللازمة لاسيما عندما كانت توجد نافورة مياه في أوسطه.

إضافة إلى المقعد: وهو عبارة عن مكان مرتفع مفتوح يطل على الفناء من خلال بائكة أي مجموعة أعمدة متتابعة على خط مستقيم موصولة بأقواس من أعلى كي تحمل السقف، وكان هذا المكان مخصص للضيوف في فصل الصيف فقط، كونه باردًا في الشتاء.

قصر حمد الباسل بالفيوم - تصوير: غدير دردير
قصر حمد الباسل بالفيوم – تصوير: غدير دردير

وتسرد دردير، أن طريقة البناء اختلفت في القرن التاسع عشر في جميع أنحاء مصر ومنها الفيوم بالطبع، حيث تأثرت كثيرًا بقصور القاهرة كونها قريبة منها، وظهرت التأثيرات الأوربية بوضوح على طريقة البناء وتغير الشكل الإسلامي القديم تمامًا، حيث كانت البيوت الإسلامية قديمًا تفتح جميعها على الداخل، أصبحت المنازل والقصور تفتح على الخارج، وبالتالي اختلفت وسائل التهوية عن ذي قبل حيث ظهرت طرق حديثة لدخول الهواء ومنها:

الشبابيك: كانت توجد في الجهة الشمالية كي يكون الهواء أفضل، والتراس أحد سمات الطراز المعماري الحديث في القرن التاسع عشر، كما كان يوجد في بعض القصور أو البيوت مجرى مائي لتلطيف الجو والتخفيف من وطأة الحرارة ومنح المنزل أو القصر الطراوة اللازمة.

كما أن البرجولة، وهي مكان للجلوس في الطابق الثالث “السطح” إذ كانت غالبية القصور والبيوت والفيلات تتكون من ثلاثة طوابق، كانت البرجولة كمكان مخصص للجلوس في الهواء مساءً لتناول الشاي.

الحديقة بأحد القصور بالفيوم - تصوير: منال محمود
الحديقة بأحد القصور بالفيوم – تصوير: منال محمود

ولعبت الحديقة دورا أساسيا في تلطيف درجة الحرارة، وكانت جميع القصور والفيلات وحتى بعض البيوت تطل على حديقة لكي تكون فاصل ما بين الشارع والمنزل، ولإضفاء مزيد من الخصوصية، وبالطبع كانت تختلف مساحتها حسب مساحة البيت، وكانت هامة لجلب الطراوة للمنزل في فصل الصيف، وعادة ما كانت تفتح عليها الفرندا أو البلكونة.

واللافت أن الأبراج كانت سمة من سمات الطراز المعماري في أغلب قصور الفيوم، حيث يوجد برج أو برجين أعلى القصر، وكان في قصر أنيسة ويصا برجين، أما باقي القصور مثل قصري عبدالقادر الباسل وحمد الباسل وغيرهم كان يوجد في أعلى كل منهما برج واحد، وكان البرج ينتهي من أعلى بحجرة للجلوس، فقد كان صاحب القصر يصعد لحجرة البرج صيفًا للتمتع بالهواء ولمراقبة من يعملون في أرضه التي تحيط بالقصر من فلاحين.

وأيضا ساهمت النوافذ والشبابيك في إضفاء شكل مميز للبيوت والقصور، وقد اتسمت النوافذ جميعها بأطوالها المرتفعة والتي كانت تغطى أحيانا مساحة الجدار بأكمله وتتكون من الشيش والزجاج، مع وجود أكثر من شباك في الحجرة الواحدة، وتفتح من جهة الشمال.

قصر أنيسه ويصا بالفيوم - تصوير: غدير دردير
قصر أنيسه ويصا بالفيوم – تصوير: غدير دردير

وتكمل دردير، أن جميع ما سبق هو نتاج التأثير الأوربي على العمارة المصرية منذ بداية عصر محمد على باشا، ويلاحظ أنه تم استيراد العديد من الخامات التي تم إدخالها على العمارة من الخارج، مثل القرميد الفخاري مثل التي توجد في قصر أنيسه ويصا بالفيوم والتي دون عليها اسم الصانع “مارتن” وجهة المنشأ مارسليا، وقد حدث مزج ما بين الخامات المحلية وما تم استيراده من الخارج.

واستنادا إلى ما قالته الدكتورة غدير، يتضح لنا أن فلسفة البناء في البيوت والقصور التي تم بنائها في القرنين التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تختلف في أدوارها الوظيفية عن بيوت الفلاحين في الريف، وخاصة حسب التقسيم الداخلي والفراغات، وهو ما فرضته طبيعة النشاط الاقتصادي في الريف القائم في أغلبه على النشاط الزراعي، وذلك إضافة للبعد الاجتماعي والمستوى الاقتصادي والوضع الطبقي لصاحب المنزل، وقد حرص سكان المنزل الريفي الأغنياء على تقسيم البيت فيما يشبه منازل الحضر، حيث لم تعد الحجرات أو الفراغات تؤدي أدوارا وظيفية متعددة لكن فقط أصبح لها وظيفة واحدة، وبات هناك تخصيص لغرف النوم والحمام والمطبخ.

وعلى الرغم من ذلك، استخدم هذا النمط من البناء وسائل أخرى للاستفادة من علم الهواء في المباني وفكر السقف العالي وفلسفة الشيش، ولكن بطرق مختلفة.

الشعور بالراحة 

تعتبر عائلة “حنظل” وعلى رأسهم الدكتور نبيل حنظل الخبير السياحي ورائد الصحافة المحلية بالفيوم، من الأسر التي رفضت فكرة هدم هذا الطراز المعماري، ولم تلجأ لبناء العلب الأسمنية التي تتسم بها الأبراج السكنية، أو عمارة الستينات كما يطلق عليها حنظل، حيث احتفظت الأسرة ببضع فيلات تملكها كما هي وتتخذها سكنا كنوع من عمارة أوروبية، وتقع فيلا الدكتور نبيل حنظل بشارع مصطفى كامل الشارع الأشهر بمدينة الفيوم، والذي كان في السابق هو الطريق الرئيسي الذي كان يصل ما بين الفيوم والقاهرة.

فيلا الدكتور نبيل حنظل بالفيوم - تصوير: منال محمود
فيلا الدكتور نبيل حنظل بالفيوم – تصوير: منال محمود

تتكون فيلا حنظل من ثلاثة طوابق تطل على حديقة صغيرة، وبحسب حنظل، فإن هذه المنطقة كان يوجد بها بعض الفيلات الأخرى، لكنها هدمت وحلت محلها عمارة الستينات وما بعدها، أما عن المنزل من الداخل فهو يمنح الشعور بالراحة بشكل تلقائي، وقد يكون ذلك لارتفاع سقفه أو لوجود شبابيك عالية تضفي على حجرات المكان نورا طبيعيا وهواء رطبا بفعل الحديقة الصغيرة التي في مقدمة البيت.

دااخل فيلا الدكتور نبيل حنظل - تصوير: منال محمود
دااخل فيلا الدكتور نبيل حنظل – تصوير: منال محمود

يقول الدكتور نبيل حنظل، كان للمساحات الواسعة للغرف وارتفاع مستوى السقف أثره الكبير في تجديد هواء المنزل وكأن هناك أجهزة تكييف، إضافة إلى أننا لا نشعر بالضيق، وهو الشعور الذي قد تشعر به في الشقق السكنية الضيقة المنخفضة الارتفاع، وتتسم حجرات المنزل بوجود شبابيك تفتح على الجهات الأربعة، وهو توظيف مفيد في فصل الصيف.

كما أن الشباك كعمارة مقسم لثلاث شراعات يمكن فتح أحدهما وإغلاق الباقي حسب الرغبة، ويتمتع منزلنا على سبيل المثال أن الدور العلوي الخاص بحجرات النوم يحتوي على حجرات نوم شتوية على الجهة القبلية، وحجرات نوم صيفية على الجهة البحرية لجلب الهواء، كما أن البيت كان لابد أن يحتوي على حديقة لتلطيف الجو ويفتح عليها السلاملك.

ويضيف حنظل، كان أيضًا لاتساع المساحة دورا هاما في عدم تكدس الأثاث في المكان لذا كان رؤية المكان والجلوس فيه مريحا.

منزل على بحر يوسف بمنطقة الشيخ سالم بالفيوم - تصوير: منال محمود
منزل على بحر يوسف بمنطقة الشيخ سالم بالفيوم – تصوير: منال محمود

الخشب البغددلي عمارة أوروبية

يقول الدكتور وليد عبدالسميع، أستاذ مساعد بقسم الآثار الإسلامية بكلية الآثار بجامعة الفيوم، إن البيوت القديمة الموجودة بالفيوم وخاصة بشارع الورشة وشارع العمود كانت تعد قلب الفيوم القديمة، ويعود تاريخها للقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولا تختلف عن باقي البيوت التي توجد في مصر بتلك الحقبة الزمنية، والتي تغير نظامها حيث اختفي الصحن الأوسط الذي كان يوجد وتفتح عليه جميع الحجرات، والتي كانت بالطابق العلوي، وظهرت الصالة الرئيسية للمنزل، وتم تغيير وضع السلم فبعد أن كان بالداخل أصبح بالخارج واستخدم كملقف للهواء وجلب النور للمكان وأمتازت السلالم باتساعها، وهي التي كانت تفتح عليه الصالة مباشرةً.

منزل بشارع الورشة بالفيوم - تصوير: منال محمود
منزل بشارع الورشة عمارة أوروبية بالفيوم – تصوير: منال محمود

ويكمل وليد، كان لارتفاع النافذة والتي كانت تأخذ ثلث مساحة الحائط أثره في جلب تيارات الهواء داخل الحجرة وخاصة أن الحجرة كان يوجد بها أكثر من شباك وكانت هناك تقنية خاصة في تصميمها بحيث تكون مقابلة للجدار لجلب تيارات الهواء.

كما كان هناك أيضًا وسيلة هامة لحجب حرارة الأسقف ولتلطيف وجلب الطراوة أيضًان وهي تبطين السقف من الداخل بالخشب البغددلي، حيث إنه منذ بداية العشرينيات بدأ يستخدم في الأسقف الخرسانة المسلحة، وكان الخشب البغددلي يعمل على امتصاص الحرارة ولا يفرغها سريعًا مثل الخرسانة ويجلب الطراوة للمنزل، كما كانت بعض البيوت تستخدم تقنية السقف الخشبي المعلق للحفاظ على طراوة المكان كنوع من عمارة أيضا.

الدكتور وليد عبدالسميع - الصورة منه
الدكتور وليد عبدالسميع – الصورة منه
قصر بشارع بهجت بالفيوم
قصر بشارع بهجت بالفيوم – تصوير: منال محمود

اقرأ ايضا

الطراوة| نادي البحر قبلة التنزه في الصيف.. وشاطئ الإسكندرية بالمجان

الطراوة| كيف كان البيت المصري في 3200 قبل الميلاد؟

الطراوة| أشهر 9 أماكن للهروب من ارتفاع الحرارة بأسيوط

الطراوة| شاي العصاري.. عادة قديمة تجمع الأهالي في الصعيد

الطراوة| “المراوح والثلج والشواطئ والزرع” عادات للتغلب على حرارة الصيف

الطراوة| كيف قاومت عمارة الإسكندرية حرارة الصيف على مر العصور؟

 

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر