في عيد تحرير سيناء: “الحاجة نجلاء” السر وراء بقاء “لطفي” حيًا
رمال صفراء كأنها هي التي تجري مهرولة تحت قدميه، وسماء حجبتها الطيور الحديدية بصوتها المدوي، وأبطال رافعين علم النصر، مشديًا أحدهم بالآذان تعبيرًا تلقائيًا عن فرحته العارمة، مشهد تلمحه مخيلتك بسلاسة، قادر على أن تراه بوضوح، خاصة البطل المؤذن “لطفي”، وهو يروي هذه التفاصيل، في ذكري عيد تحرير سيناء الحبيبة.
من هو البطل لطفي؟
لطفي فرغلي، صاحب الـ60عامًا، أحد أبطال حرب 6 أكتوبر 1973، من قرية بهجورة، بمدينة نجع حمادي، شمالي قنا، ومدير عام سابق بالتربية والتعليم.
بعتبر البطل الستيني، حرب أكتوبر درسًا جليلًا في حياة جميع المصريين ولعقود مضت وآتيه، وبرهان على أن المصريين حين يكون لهم هدف يستطيعون الوصول إليه، وأنهم يمتلكون من الحب الكافي لوطنهم الحبيب ليكون دافع قوي، حين تناديهم، وفق تعبيره لـ”ثقافة وتراث“.
“أنا اللي تطوعت لم أجُند”
هكذا بدأ البطل لطفي مستطردًا، عمري حينها كان 19 عامًا، ولكني كنت مدرك مرارة الهزيمة التي لحقت بنا في 5 يونيه عام 1967، رغم كوني حينها مراهق 14 عامًا، ولم أتردد في التطوع للأخذ بالثأر، فأنا صعيدي تربيت على الدم الحامي، كما أني أعتبر نفسي ابنًا لثورة 1952، وزمن العروبة لقيادة الزعيم جمال عبدالناصر، فأنا مواليد 1953.
قبل الحرب
بعد أن أنهى لطفي فترة تدريبه التي كانت في مركز “الهايك ستب” بالقاهرة حينها، التحق بالفرقة الـ7 مشاة على الجبهة من ناحية قناة السويس، ليقول: “أول حاجة شتفها كانت الجنود الإسرائيليين على الضفة المقابلة، وانتابتني الحسرة على أرضنا، أمريكا كانت تساند إسرائيل بقوة، حتى استطاعت الأخيرة بناء خط بارليف المنيع كما اسموه بطول الضفة من السويس حتى بورسعيد مرورًا بالإسماعيلية”.
وكان خط بارليف يحتوي على 17 موقعا محصنا بطول الخط، أحدهم كان المقابل لفرقتي عند نقطة كانت تسمى “النقطة المسحورة”، كانوا يقولون أن الخط بمواقعه تلك يحتوى على خراطيم “نابالم” حال اقتراب أي شخص تنفتح محرقة حتى الأسماك في المياه.
بعنفوان وحماس شديد، كأنه مازال المجند في الحرب، أخذ يشرح “لطفي” قضاءهم قرابة عام وعدة أشهر في تدريبات مستمرة، تكاد تكون يومية على مشروع تدريبي للعبور بالذخيرة والأسلحة الحية، وترعة بها ساتر ترابي مطابق لبارليف، دون العلم هل سنحارب أم لا؟، حتى كدنا أن نيأس، ونعتاد الأمر، ولكن قادتنا كانوا على علم.
وظل الوضع على هذا المنوال حتى 4 أكتوبر قمنا بالمشروع التدريبي الهجومي، ولكن في يوم 5 أكتوبر فاجئنا قائد الكتيبة اللواء قدري عثمان حينذاك، الذي ترقى فيما بعد لرتبة عميد ثم مشير، وعين محافظا لأسوان، ليخبرنا أن اليوم راحة من التدريب وكل منا يعمل ما يود القيام به، منا من لعب كرة، وآخرين غسلوا ملابسهم، لم نكن نعلم أنه تمويه لخداع العدو الإسرائيلي.
الحرب
يتذكر البطل يوم 6 أكتوبر، ويقول: كانت قوات الصاعقة عبرت ومرت على خط بارليف وأبطلت مفعول خراطيم “النابالم” على طول الخط، قبل أن يبلغنا قائد الكتيبة باستئناف المشروع التدريبي، لأن اللواء أحمد بدوي سيمر، وبالفعل لم تمر ساعات قليلة واستدعى قائد الكتيبة ليعود بفرحة عارمة اشتقنا لها قائلا: “هنحارب بعد ساعتين اجهزوا”.
الساعة الثانية إلا ربع، عبر الطيران المصري أكثر من 130 طائرة نسفت جبهة العدو، لدرجة أن الخسائر من الطائرات التي أسقطت من العدو لم تتعدى 7 طائرات، منهم طائرة عاطف السادات شقيق الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بعدها بدأت المدفعية، ليأتي دورنا “المشاة” بعد نجاح مهندس اسمه “فايق” في فكرة تفتيت الساتر الترابي بقوة دفع المياه، والمهندس أحمد حمدي، والذي استشهد أثناء إقامة الكباري لعبور الدبابات.
لحظات صعبة
بعد نجاحنا في العبور، كانت أمريكا الراعي الأول لإسرائيل أرسلت الأسلحة الثقيلة والطيران الفانتوم للإسرائيليين، واستطاعوا الاختراق عند موقع سمي بـ”الثغرة” في السويس، وظللنا في حصار قرابة 3 شهور، قاومنا وحدثت اشتباكات بين الجيش الثالث والعدو حتى صدر قرار وقف إطلاق النار، بناءًا على جهود الرئيس السادات وانسحبت جنود العدو.
في هذا الوقت، وبعد تغيبي اعتقد أهلي في بهجورة أني استشهدت، فلم يعثروا لي على جثة أو اسمي من بين المصابين، حتى استطاع أخي الذي كان يعمل بمركز شرطة نجع حمادي حينها إرسال رسالة شفهية عن طريق شقيق أحد ضباط المركز الذي تصادفت خدمته معي في السويس، وطلب من الضابط الرد بإشارة تأكد لهم وجودي على قيد الحياة فقولت له أبلغهم:
“سلمولي على الحاجة نجلاء”
“نجلاء” كانت طفلة صغيرة وكنت أدعوها بالحاجة، ففهم الإشارة أهلي وفرحوا لبقائي على قيد الحياة، ولكن يشاء القدر وأن يمنع الله وصول خبر وفاتي للمرة الثانية لدى أهلي ولكن هذه المرة كانت ستكون حقيقية، فبعد عودتي من عند القائد شقيق ضابط الشرطة بمدينة نجع حمادي حينها ليلاً، في أرض سيناء المعروفة بـ”التباب”، وهي أكوام من الرمال تشكل مرتفع، مع قوة الريح قد تنتقل من مكان لأخر، لن أشعر بنفسي إلا وأنا فوق تبة يقف عليها الإسرائيليين نهارًا لإطلاق النار علينا منها، حينها أدركت أني داخل المنطقة الإسرائيلية، عجز عقلى عن كيفية تدبير الأمر وظللت للصبح ومعتقد أن يعثر علي الإسرائيليين ويأسروني، وإن عدت سيطلق علي النار زملائي من الجهة الأخرى معتقدين أني من الجنود الإسرائيليين، للحظة قررت أنه علي الموت بشرف وعلى يد زملائي أهون بكثير.
ولكن أراد الله إنقاذي، ففي أثناء التفات أحد زملائي في الخدمة استطعت الإمساك به وأخباره بالأمر، فتأكد من هويتي وتركني.
العودة
بعد انتهاء الحرب، خرجت من القوات المسلحة عام 1975، وعينت في التعليم الابتدائي، وتدرجت حتى أصبحت معلمًا في المدرسة الثانوية لمدة 20 عامًا، حصلت بعدها على درجة مدير عام حتى بلوغي المعاش منذ 5 سنوات.
لدي البطل لطفي فرغلي زوجة و5 أبناء من بينهم فتاة، هم أحمد، وعماد، وحسين، وإسلام، وأميرة، كما له 5 أحفاد، يقول عنهم: هم الجيل الذي سيعيد مجد بلادنا، لذلك أعتني بسرد ملحمة حرب أكتوبر عليهم مرارًا وتكرارًا، دون ملل، مؤمنًا بأن من ليس له ماضي ليس له مستقبل.
اقرأ أيضا
- صائد الدبابات خلال حرب أكتوبر: شارون كان يريد خطف أفراد حكمدارية الصواريخ
- هذه الأغاني ارتبطت بـ”نصر أكتوبر 73″ وألهبت مشاعر المصريين
- لما شافتنا الأرض خضرت فرحًا بصحابها.. سجدنا وحمدنا ربنا
- حدث في رمضان| في ذكرى العبور.. «ميدالية» صنعت من حطام طائرات العدو
- “غني يا سمسمية لرصاص البندقية”.. أغان من “القناة” قاومت مع الشعب
9 تعليقات