ما وراء أسوار «الكومباوند»: تفكيك ظاهرة على أطراف القاهرة

من منا لم يشاهد إعلانات الدعاية لكومباوند في القاهرة أو الجيزة، حيث الحياة في مجمع سكني مسور والبيوت الفخمة المجهزة بكل أدوات الراحة، تحيط بها حدائق غناء وطرق ممهدة، وأمان واضح مع وجود أفراد أمن وكاميرات مراقبة على مداخل الكومباوند وداخله. وهي صورة باتت معتادة ومتكررة تغازل أحلام الصعود الطبقي والبحث عن الارتقاء الاجتماعي؛ بعيدًا عن ازدحام أحياء القاهرة الكبرى، عبر اللجوء إلى الضواحي التي فرضت صورتها الذهنية عند مختلف الطبقات، وأصبحت مركز الجذب لكل التطلعات في السنوات الأخيرة. وهي ظاهرة تصدت إلى تحليلها الدكتورة أماني قنديل في كتابها الجديد «ماذا وراء الأسوار العالية؟ الكومباوندز في مصر 2024».
الكتاب الصادر عن دار العين للنشر يعد أحد الكتب القليلة والريادية التي تناقش هذه الظاهرة الآخذة في التوسع في فضاء القاهرة الكبرى العمراني. وهي ظاهرة تتركز في شرقي القاهرة وغربي الجيزة، وتحديدًا في القاهرة الجديدة ومدينة 6 أكتوبر وما يلحق بهما. إذ تنطلق أماني قنديل في كتابها من تعريف الكمبوندات بأنها: “المناطق السكنية التي تحيط بها الأسوار العالية، وتشمل وحدات سكنية متميزة ومتنوعة، ما بين فيلات وشقق سكنية، يجمعها تصميم واحد متميز ومخطط بدقة، وتتخللها وتحيطها حدائق، وأحيانًا بحيرات، وغالبًا يوجد فيها حمامات سباحة، وخدمات ترفيهية“.
***
من المهم لفت النظر هنا إلى أن عدد سكان المدن الجديدة في محافظة القاهرة، بحسب تقدير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء خلال العام 2023، يقدر بـ449 ألفًا و87 نسمة، من إجمالي حوالي 10 ملايين نسمة عدد سكان محافظة القاهرة. أما في محافظة الجيزة فيبلغ عدد سكان المدن الجديدة 451 ألفا و633 نسمة، وتدور النسبة لساكني المدن الجديدة بما فيها من كومباوندات حول 5 بالمئة من إجمالي سكان القاهرة والجيزة البالغ عددهم 19 مليونًا و659 ألفًا تقريبًا. ورغم أن النسبة تبدو أقل من المتوقع خصوصًا مع سيل حملات التسويق العقاري لوحدات المجمعات السكنية المسيجة، إلا أن تنامي السعي للارتقاء الطبقي عبر اقتناء وحدة في هذه المجمعات السكنية المسيجة جعلها ثقافة سائدة ومنتشرة، ومن هنا أهمية دراسة أماني قنديل وراهنيتها.
تشير أستاذة الاجتماع السياسي إلى أن ظاهرة الكومباوند “ظاهرة حديثة، تعود في مصر إلى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، لكن انتشارها على هذا النحو في القاهرة الجديدة، و6 أكتوبر، والشيخ زايد، وطريق مصر إسكندرية الصحراوي، وفي محافظات أخرى، يعود إلى العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين. حيث أصبحت القاهرة تشهد المئات منها، وتستقطب النخبة من الأثرياء وأصحاب السلطة والنفوذ“، لافتة إلى أن هذه الظاهرة الإنشائية مرتبطة بالعولمة كثقافة “من خلال أسلوب حياة أو نمط معيشي جديد مُتعولم، وثقافة وقيم وتعليم (أجنبي) ولغة (إنجليزية)، أو من خلال فئة جديدة، يُطلق عليها (نخبة مُتعولمة)، تتطابق مصالحهم ومواقع عملهم فنيًا وتقنيًا مع الاقتصاد العالمي وشركات كبرى تتخطى الحدود التقليدية“.
***
يمكن لنا القول إن ظاهرة الكومباوند لا تعكس فقط نمطا جديدا في البناء، بل هي مرآة عاكسة لتحولات عميقة في المجتمع المصري. إذ تعبر عن تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية شهدتها مصر في العقود الأخيرة، مع تشكل طبقات جديدة ثرية تريد أن تميز نفسها عن الطبقات الأخرى، عبر تنبي منظومة من الأفكار بما في ذلك قيم الاستهلاكية الأمريكية، التي يمكن وصفها بالعولمة على الطريقة الأمريكية، والتي يشكل الحياة في الضاحية ببيت له حديقة، ركنًا أساسيًا في الحلم الأمريكي.
ولكن مع ملاحظة أن المجمعات السكنية غير مسورة في الأعم في أمريكا، ليصبح السور دليل العزلة من أهم وسائل ترويج السكن في الكومباوند في مصر، بما يعكس عن رغبة في الانعزال عن بقية الشعب المصري، والانفصال عنه عبر تبني ثقافة أمريكية والحديث بالإنجليزية، لكن مع صبغها بالصبغة المصرية أي بإضافة الأسوار، باعتبارها من أدوات الفصل الاجتماعي والتميز الطبقي. الأمر الذي يعزز من روح الانسلاخ عن المجتمع في ظاهرة الكومباوند، وهو الأمر الجدير حقا بالدراسة لتفهم أسباب تكون هذه الظاهرة.

من أجل تحليل الظاهرة المركبة، اعتمدت الدكتورة أماني قنديل على نظرية أطلقت عليها مسمى “المثلث الذهبي”، والتي تضم ثلاثة أبعاد رئيسية تناقشها في فصول الكتاب الثلاثة، وهي المكان والبشر والزمان، لتعمل على رصد وتوثيق تاريخ الامتداد العمراني الجديد في مصر، عبر اللجوء إلى التخوم الصحراوية التي يقبل على الإقامة فيها علية القوم والطبقات الأكثر ثراء في المجتمع. وتخلص إلى أن “سلطة المكان” تفرض في النهاية ثقافة سلوكية على المقيمين داخل الأسوار، وأن هذه الثقافة في حد ذاتها تصبح مطلوبة من قبل الراغبين في الانتماء إلى مجتمعات الكومباوند. فأهمية هذه الدراسة تنبع من أنها تعكس المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها مصر في العقود الأخيرة بما في ذلك ارتباط شريحة من المجتمع بقيم العولمة الأمريكية وتبنيها وفرضها داخل الكمبوندات.
***
وتوظف المؤلفة سوسيولوجيا المكان (علم اجتماع المكان) لتحليل المجمعات السكنية المسيجة، عبر إبراز تفاعل المكان مع البشر والزمان، عبر تتبع ورصد انتقال فئات من الأحياء الراقية في قلب القاهرة مثل الزمالك وجاردن سيتي ومصر الجديدة إلى الكمبوندات على تخوم الصحراء، حيث نمت ظاهرة على مدار العقود الثلاثة الأخيرة لنصل إلى حدود 800 كمبوند مع العام 2024 -بحسب تقدير المؤلفة. وهي تتعجب من إطلاق أسماء أجنبية على المجمعات السكنية المسيجة، وتقترح أن التفسير ربما يعود إلى اختيار المطورين العقاريين الترويج للمسميات الأجنبية لأنها ستجد رواجًا أكبر بين الفئات الغنية المستهدفة، أو الظن بأن الأسماء الأجنبية هي تعبير عن “رموز طبقية” تبحث عنها الفئات المستهدفة، وربما نابع من فهم واقعي لهذه الفئات من أنها نبذت في أغلبها اللغة العربية، ويتحدث أغلبها -كبارا وصغارا- اللغة الإنجليزية.
ويعد الكمبوند كمكان “الحاوية” التي تضم مجموعة من البشر تتقارب ثقافاتهم معًا، فرغم المجيء من خلفيات مختلفة، إلا أن الجميع يسعى إلى التحلي بثقافة المكان، بحسب أماني قنديل، التي تؤكد أن التفاوت الضخم في مصر بين الأغنياء والفقراء دفع الفئات الأولى نحو المجمعات السكنية المسيجة، لتعيش بحرية خلف الأسوار، فتكون بذلك دلالة واضحة على الانتماء الطبقي، أي تعميق الانفصال بين الطبقات مكانيًا. وهي ترصد تزايد الإقبال على شراء هذه الوحدات في السنوات الأخيرة لظروف اقتصادية عدة تحللها باستفاضة، لتنتقل إلى التركيز على ملامح البشر داخل هذه المجتمعات المسورة، والمقصود هنا لا ملامح الوجوه بل ملامح الثقافة المشتركة التي نشأت بين أبناء هذه المجتمعات من أبناء الطبقات الميسورة -نظرا لارتفاع أسعار الوحدات السكنية.
***
وتحذر أستاذة الاجتماع السياسي من أن المجتمعات العمرانية الجديدة تتحول إلى “مجتمعات ميسورة حصرية مغلقة على السكان الأثرياء“، لنصل إلى ما يمكن وصفه بـ”عمران إقصائي حضري“، على حد تعبيرها، وهو مصطلح شديد الذكاء ومعبر عن الحالة الحاصلة على أرض الواقع. فهي تحذر من أن هذه الظاهرة تحيي “مخاطر الانشقاق المجتمعي وتعميق للفجوة بين قمة المجتمع ومن يعيشون في القاعدة، وهم الأغلبية، وهناك أيضًا مخاطر الثقافة الجديدة والمهجنة والمُتعولمة، والتي يغذيها التعليم الأجنبي الذي يتشبث به الأثرياء، ونصبح أمام مصر الثرية ومصر الفقيرة“. هنا تشير المؤلفة إلى ظاهرة باتت معروفة في السياق المعاصر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهي التفرقة بين أهل مصر وأهل إيجيبت، أي بين أبناء الثقافة المصرية التقليدية وبين أبناء ثقافة الكمبوندات.
وتتبع أماني قنديل تطور ظاهرة الكومباوند في الزمن، عبر رصد تاريخي لظهور أول المجمعات السكنية المسيجة، ثم توسع الظاهرة بتحليل التحولات التي مر بها المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن الماضي، بما فيها ظهور ثقافة تملك مكان السكن. إذ كان السائد قبلها هو نظام المستأجرين، الأمر الذي ولد الحاجة لتوفير وحدات سكنية تلبي الرغبة في شراء وحدات سكنية وتملكها. كما تلفت النظر إلى أن بعض عوامل جاذبية الكمبوندات يرجع إلى ثقافة الاحترام الجماعي لصيانة المكان بشكل تضامني، وهو أمر يسبب الكثير من الأزمات والمشاكل بين سكان البناية السكنية الواحدة حتى في أحياء العاصمة الراقية، فحرص الملاك على استمرار عمليات صيانة المكان والمحافظة على مستواه بشكل مستدام، وهو أحد جوانب الرغبة في سكن هذه الأماكن بالإضافة طبعا لأسباب أخرى.
***
من الأمور المهمة في الكتاب أنه يمزج بين النفس البحثي الأكاديمي مع التجربة الشخصية. إذ تشير مؤلفة الكتاب على تجربتها بالإقامة في أحد الكومباوندات بعدما انتقلت إليه من مقر إقامتها في المعادي بعد ثورة يناير 2011، إلى أحد المجتمعات المسيجة في التجمع بداية من 2017. وتروي قنديل هذه التجربة بقولها: “سعدت فترة قصيرة بالمسكن الهادئ الجميل، وبالحدائق حولي، مع دقة شديدة في إدارة المكان، ولكن بدأت أشعر بالعزلة عن المجتمع، وكانت الأسوار العالية وبوابات الأمن -للدخول والخروج- تُولد لدي الشعور بالضيق، هذا بالإضافة إلى مشاعر جديدة تؤرقني بأنني لا أنتمي إلى هذا المكان (لغة وثقافة غريبة عني). من هنا كان قراري بالعيش الدائم في المعادي، والاكتفاء من هذه (المتعة المُصنعة) بعدة أيام في الإجازات أو نهاية الأسبوع فقط“. هنا تعبر عن إحساس أجيال عاشت في قلب أحياء لم تعرف هذا الفصل الحاد، لذا تشعر بالغربة في الكومباوند.
***
أهمية كتاب “ماذا وراء الأسوار العالية؟” للدكتورة أماني قنديل تكمن أساسًا في أنه أول مجهود علمي لدراسة ظاهرة الكومباوند بشكل مفصل، لذا فهو رائد في مجاله، ويعد لبنة أساسية لبدء الحديث العلمي والبحثي من زوايا مختلفة تشتبك مع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. تبني على هذا العمل الرائد، من أجل فهم هذه الظاهرة ومعرفة دوافعها وانتشارها حتى أصبحت بمثابة موضة اجتماعية يعتنقها أبناء الطبقات الأكثر ثراء، إذ أصبح الكومباوند كودا للتفوق الطبقي والشعور بالخصوصية والارتقاء عن مجموع الشعب، الأمر الذي قد يعني زيادة الهوة بين طبقات المجتمع بما يهدد بخلق هوية اجتماعية منغلقة على ذاتها ومتعالية بين أبناء الكومباوندات وفي حالة خصومة مع بقية الشعب، وتعبر عن انسلاخ عن الثقافة العامة للمصريين باعتناق ثقافة استهلاكية أمريكية.
ومن أجل ذلك كله، يبدو كتاب “وراء الأسوار” وثيقة معاصرة تؤرخ لتحول مهم في عمران القاهرة الكبرى في الظاهر، لكنه أيضًا يغوص في أعماق المجتمع ليكشف عن تحولات عميقة على مختلف الأصعدة قادت إلى خلق منتج الكومباوند.