نادية أبو غازي تتحدث: أخي «عماد»

هذا ليس حوارا صحفيا، بل دردشة عبر الهاتف، تتحدث د. نادية أبو غازي، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، عن شقيقها د. عماد أبو غازي.
كل صباح أفتح عيني على رسالة منه: «صباح الخير»، أطمئن، وبعدها نتهاتف في أي موعد مناسب لكلينا، نتحدث في كل شيء، نتبادل الأفكار والآراء والمتابعات، وهو ما اعتدناه منذ طفولتنا، وقبل أن يكون لكل منا بيت مستقل.
منذ طفولتنا، كان إفطار يوم الجمعة مقدسا لكل أفراد العائلة، والعشاء اليومي في بلكونة شقتنا. نجتمع ونتحدث ونتبادل الآراء، لا وصاية أبوية، بل رعاية إنصات، وتفهم، وحب، وغياب للأمر والنهي. كنا نعيش في سيمفونية هادئة لا شيء يعكر صفوها.
في هذا الجو نشأت، ونشأ عماد أيضا، جو أسري يقوم على الحب والتناغم والبشاشة. لم يعرف أبي أو أمي «التكشير» في وجوه الآخرين، بل كان هناك عطاء بلا حدود، وفي هدوء وبلا شوشرة. هذه التربية الإيجابية انعكست علينا فيما بعد، وحاولنا أن نستلهمها في تربية أطفالنا، ومع تلاميذنا في الجامعة. وللأسف، لا يسعد الحظ أبناءنا لكي يلتقوا بأبي، ولكنهم استمتعوا بأمي التي بثت فيهم الكثير من القيم التي نشأنا عليها.
***

الأب ناقد فني، الأم فنانة تشكيلية ونحاتة، كلاهما كان يحاول تنمية مواهبنا الفنية، وتشجيعنا على الفن والإبداع. نرسم وتقيم العائلة معارض للوحاتنا، ويقوم الأب بافتتاح المعرض، وقص الشريط، ويقوموا بمنحنا الجوائز على هذا النشاط. كما كنا نمثل في البيت، نعيد تمثيل مسرحيات فؤاد المهندس، وقمنا بتمثيل مسرحية «مصرع كليوباترا».
ورغم مشغوليات أبي وأمي، إلا أننا اعتدنا على الخروج سويا يومي الخميس والجمعة، سواء لزيارة معرض أو حفلة موسيقية أو مسرحية أو عرض سينمائي، ثم التردد على المكتبات لمعرفة الجديد من الإصدارات. وكان أبي يترك لنا حرية اختيار ما نقرأ. كان “عماد” يذهب مباشرة إلى كتب التاريخ، وكان “مختار” يختار كتب الفن والموسيقى. كان عماد منذ الطفولة يعرف ما يريد ويعمل من أجله، أن يكون مؤرخا.
***
يكبرني عماد بثلاث سنوات فقط، رغم ذلك لعب أدوارا كثيرة في حياتي منذ طفولتنا، هو الصح في كل شيء. ألجأ إليه في كل ما يهمني، واللعب معه لم يكن مجرد لهو، كنا نتعلم معه عبر اللعب أشياء كثيرة. أتذكر الآن أننا لم نتعارك أو نتشاحن على الإطلاق في طفولتنا، لم يحدث خناقات كما كان يحدث بين الأشقاء متقاربي السن.
عندما كنا نخرج مع أصدقائنا، كان السؤال: هل عماد سيكون معكم؟ إذا كانت الإجابة نعم، تشعر العائلة بالاطمئنان، لأنه موضع ثقة، ولأن هناك إحساس أنه ناضج وعاقل، قادر على حل المشكلات التي يمكن أن تواجهنا بحكمة. كان وجود عماد يمنحنا الإحساس بالأمن والطمأنينة والثقة. هو يفعل ذلك بلا افتعال، لا يوجد مسافة بين ما يؤمن به ويعلنه وبين ما يقوم به، لم يكن هناك ازدواجية فيما يقول أو يكتب وبين ما يفعل، كان حقيقيا. كان داعما ومؤيدا لعمل المرأة، وهو ما انعكس على احترامه للزوجة، وتقديره واعتزازه بعملها، وأيضا في تربيته لابنته مريم وعلاقته بها.
***
كانت أصعب لحظات حياتنا هي رحيل “مختار”، شقيقي الأكبر، في حادث مؤلم. شعرت أن كل ذلك الأمان ذلك يحيط بالأسرة مجرد سراب، كان الأمر أشبه بزلزال. حاول عماد أن يخرجني من جو الحزن، ذهب إلى الجامعة ونقل المحاضرات، وجلس معي لمراجعة المناهج، والمذاكرة. نفس الأمر تكرر فيما بعد رحيل أبي، وكنت وقتها أستعد لمناقشة الماجستير. وجد نفسه مسؤولا عنا جميعا، لم يعد مجرد شقيق بل أبا أيضا. كان دوره محوريا في كل الأزمات التي مررنا بها، واستطعنا من خلاله تجاوزها.
لا فرق كبير بين عماد الشاب، وعماد الآن، ربما فقط في مرحلة الشباب كان لديه إيمان بأفكار كثيرة لا يسمح بالهزار فيها، الآن هو متمسك بأفكاره ولكن لديه تفهم للآخرين واختلافاتهم، لديه مرونة أكبر عكس أيام العمل السياسي المباشر.
رغم دراستي للعلوم السياسية، إلا أن اهتمامات عماد بالسياسة أكثر مني. كان أكثر من نصف مكتبته متعلقا بالقضية الفلسطينية، لا تفاهم لديه فيما يتعلق بفلسطين التي كانت قضية حياته. كان ولا يزال معاديا بقوة للصهيونية، ولكن على الجانب الآخر، كان يطالبنا بالتفريق بين اليهودية والصهيونية، خلافنا معهم ليس دينيا، بل سياسيا.
***
«ماما» كانت قلقة عليه أثناء عمله بالسياسة، وأيضا عندما اشتغل في المجلس الأعلى للثقافة، وعندما أصبح وزيرا، الأمر نفسه حدث مع أبي، كانت سعيدة بعمله في وزارة المالية، ولديها حساسية من المناصب السياسية. بالنسبة لي، كنت أيضا قلقة عندما تولى عماد وزارة الثقافة، ولكن أيضا فخورة بما أنجز، رغم الفترة الزمنية المحدودة التي تولى فيها المنصب. كان لديه رؤية وطموح، وأعتقد لو أكمل في المنصب كان من الممكن أن يكون علامة فارقة في العمل الثقافي. ومع فخري بنشاطه في الحياة الثقافية، وتأثيره، فخورة أيضا بنشاطه الأكاديمي وعمله الجامعي. أشعر أن تأثيره في الجامعة كبير، وهو ما يتضح من شهادات طلابه الذين يشيدون به دائما.
اقرأ أيضا:
ليلى بهاء الدين تكتب: «كأني عدت إلى المنزل»