د. أنور مغيث يكتب: مع «عماد»

بعد نجاحي في الثانوية العامة وتسلمي بطاقة التنسيق مكتوبا عليها “آداب القاهرة”، قر في ذهني أنني ذاهب إلى هذه الكلية للمشاركة في الحركة الطلابية اليسارية دون أن أشغل بالي بماذا أدرس. هذا التعطش للنشاط السياسي كان بسبب المناخ العائلي بعد أن انتقلنا للقاهرة في بداية السبعينيات، حيث صار بيتنا مكانا للقاءات فكرية شبه دورية لشباب المثقفين ونجوم الحركة الطلابية يأتون للنقاش مع أخي الأكبر صلاح مغيث، مسؤول التثقيف في منظمة الشباب.

بالطبع، لم أكن مدركاً للتباينات والخلافات بين أطياف الحركة السياسية في الجامعة، ولم يكن وعيي بالنضج الذي يسمح لي بالقدرة على الحسم. ومع ذلك، بل ربما بسبب ذلك، اخترت الانضمام لأسرة “مصر” عملاً بالمثل الفرنسي القائل “الشهية تأتي أثناء الأكل”، وهو ما يعني أن الممارسة سوف تساعدني على الاختيار. كان عماد أبو غازي عضوا بأسرة مصر نشيطا ودؤوبا ومثابراً، وفوق كل ذلك كان هادئاً.

***

تبين لي بعد ذلك أن الخط السياسي يتحدد بأمرين: معرفة الطبيعة الطبقية للسلطة وتحديد مهام الثورة المقبلة، ومن خلالهما يتضح الانتماء. ولكن، بالاقتراب من عماد والجدل المستمر معه في جميع مسائل الحياة، تبينت أن روح التمرد لديه ليست قاصرة على إحداث تغيير سياسي في بلادنا، ولكن هي نظرة شاملة إلى الكون وموقع الإنسان فيه وعلاقته بالكائنات الحية الأخرى.

وأن إنسانية الفرد لا تتحدد بعلاقته الأخلاقية مع البشر الآخرين ولكن مع الحيوانات والأشجار والأنهار والجبال والمحيطات. قرأت بعد ذلك كتاب فلسفة الحضارة للطبيب الألزاسي ألبرت شفايتزر، الحائز على جائزة نوبل للسلام بفضل حملاته التطوعية لمقاومة الأمراض في إفريقيا.

يعزو شفايتزر أزمة حضارتنا الحالية إلى لامبالتها تجاه الكائنات الحية الأخرى، والتعامل معها بعنف يُترجم بالضرورة بعد ذلك إلى عنف بين البشر وبعضهم. كنت أرى في هذا الكتاب تجسيداً لرؤية عماد إلى العالم ودرساً في الإنسانية الحقيقية. ومع عماد خرجت من السياسة بمعناها الضيق، حيث كثيرا ما كان يدعوني لحضور افتتاح معارض الفنون التشكيلية أو حضور عروض المسرحيات والأفلام الطليعية والمشاركة في الندوات الفكرية، فضلا عن أنه كان مبادرا بمدنا من مكتبته بالكتب التي يرى أنه من المهم قراءتنا للإحاطة بما يشغلنا من موضوعات.

***

كان النشاط السياسي في الجامعة خصبا وبناء، فقد تنوعت معارفنا بشكل كبير وتعلمنا في غماره أضعاف ما تعلمناه في الأقسام الأكاديمية. اقترنت بهذا النشاط اليساري بعض مظاهر أصبحت من إكسسوارات النضال، منها إهمال حضور المحاضرات وما ترتب عليه من الاستخفاف بأساتذتنا لأننا لا نشعر أننا نتعلم منهم شيئا ذا بال، وأيضا الاستهانة بالشهادة التي سنحصل عليها في نهاية المطاف.

وكان عماد أبو غازي في وسط كل ذلك نمودجاً مختلفاً فهو يحرص على حضور المحاضرات وعلى التفوق، وكان على صلة وثيقة بأساتذته يقدرهم ويحبونه. يهمني أن أشير إلى ذلك لأن مسلك عماد هذا لأنه كان يجعلني مطمئنا لحرصي على أن أأخذ الدراسة الأكاديمية مأخذ الجد وأتحمل بلا عناء سخرية الآخرين مني لأنني “طالب مجتهد”.

وكذلك كنا نبتعد عن الاهتمام بأنشطة اتحاد الطلاب شبه الرسمية والبعيدة عن السياسة، ولكن عماد كان يتقدم للترشيح في اتحاد الطلاب وينجح. ومن إكسسوارات النضال أيضا كانت هناك بعض مظاهر الحياة البوهيمية مثل الإفراط في التدخين والسهر، ولحسن الحظ كان عماد موجودا ليبين لنا أن المرء يمكن أن يكون مناضلا وفي نفس الوقت تكون حياته منتظمة ومنضبطة.

ونقل عماد نضاله هذا إلى المجال الأكاديمي باختياره لموضوع رسالته للماجستير في قسم التاريخ عن “ثورات المصريين ضد الحكم العربي”، وكان هذا الموضوع هو سبب تقدمه لنيل دبلوم في الوثائق. ونظرا لتفوقه في مجال الوثائق تم تعيينه معيدا في قسم الوثائق والمكتبات.

***

كنا نولي الجامعات أهمية كبري ونعتبرها الموقع الأول والأكثر تأثيرا للنضال السياسي في مصر. وبالتالي كان التخرج من الجامعة أزمة وجودية، حيث نجد أنفسنا قد خرجنا من بطن الأم لنواجه هذا الفضاء الاجتماعي الرهيب، ولا ندري ما العمل. أما عماد فقد دفعه حماسه وإيمانه بأنه يجب دائما أن نسعى لفعل شيء لأن يلعب دورا رياديا في تلك الموجة التي عرفت باسم “النشرات غير الدورية”، التي استغلت هامشا يسمح به القانون في إصدار نشرات لا تخضع للرقابة ولا تحتاج إلى تصريح إذا كانت غير دورية. وظهرت في هذه النشرات تحليلات ودراسات وقصص وقصائد للعديد من المثقفين الشباب الطليعيين المحرومين من النشر في المجلات الرسمية.

ويدفعني الحنين لأن أذكر منها بوجه خاص دراسة عماد أبو غازي “هل باع الفلسطينيون أرضهم؟”، والتي كانت ردا بالوثائق والأرقام على ذلك التوجه الذي يشيع في الإعلام الحكومي بأن الفلسطينيين هم المسؤولون عن نكبتهم، ودراسة صديقنا رضوان الكاشف عن عبد الله النديم. وبعد أن انضمننا عماد وأنا إلى لجنة الدفاع عن الثقافة القومية التي استضافها حزب التجمع لعب عماد دورا كبيرا في إصدار نشرتها بعنوان “المواجهة”.

تأخرنا بعض الشيء في إنجاز رسالتنا للدكتوراه: أنا لأنني لم أكن مبعوثا وكان علي العمل إلى جانب إعداد الرسالة، وعماد نظرا لانشغالاته السياسية الكثيرة. وكان كل منا يتطلع لأن ينهي الآخر دراسته لتكون بادرة تطمئنه على وصوله هو الآخر لهذه الغاية.

***

وبعد أن أنهى عماد أبو غازي رسالته واستعد للمناقشة، أراد أن يستشيرني في مشكلة حيث إنه اكتشف وثيقة مخالفة لكل استنتاجاته في الرسالة، وتفرض عليه تغييرها. نصحته بألا يشير للوثيقة الآن، ويناقش الرسالة ثم يخصص بعد ذلك بحثا ينشر فيه تحليله للوثيقة الجديدة وما تمليه من المراجعات، ولكن ضميره أبى أن يعمل بالنصيحة وأعاد صياغة الرسالة مرة أخرى.

يبهرنا عماد بثقافته الواسعة وشغفه بكل مجالات التفكير، ولكن الأهم من ذلك هو أنه يبهرنا بجرأته في استخدام عقله وبآرائه المتفردة التي تخرج عن الرطانة المألوفة في قضايا تتعلق بالعلاقة بين الفصحى والعامية، والاعتزاز بتراث مصر القديمة، والرؤية النقدية للحكم العربي، وتقديره البالغ لدور أعلام الفترة الليبرالية مثل سعد زغلول ومصطفي النحاس، والذين تجعلهم النظرة المادية التاريخية أصحاب الانجاز الأهم في تاريخنا المعاصر.

***

ومن هنا كان سعيدا وفخورا بتجربته الصحفية مع جريدة “الدستور” في صيغتها الأولى، حيث جعل هذه الأطروحات تخرج من إطار الدرس الأكاديمي وتصبح موضوعا للسجال العام. ولم يكن ذلك في نظره من أجل تصحيح النظرة إلى الماضي، ولكن من أجل تغيير النظرة إلى المستقبل.

وعندما عدت من الخارج للعمل بالجامعة ودعاني الدكتور جابر عصفور للتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة، كان وجود عماد أبو غازي مسؤولا عن الشعب واللجان بالمجلس دافعا للقبول على الفور. وفي الواقع، لم يكن عماد وحده ولكن وجود الأستاذ محمود أمين العالم على رأس لجنة الفلسفة، ووجود بشير السباعي وخليل كلفت في الترجمة، جعلني أشعر أننا أمام مشهد جديد.

شاركت عماد في اجتماعات كثير من اللجان، وكان دائما ما يعبر عن رؤيته للعلاقة بين الدولة والثقافة، حيث يرى أنه ليس مطلوبا من الدولة عمل منتجا ثقافيا: كتابا أو فيلما أو مسرحية، ثم تقدمه بعد ذلك للشعب، ولكن المفروض أن الشعب هو الذي ينتج بنفسه هذه الأعمال ويقتصر دور الدولة في الدعم والتنظيم. وفي الأشهر التي تولى فيها منصب وزير الثقافة وفي الظروف الحرجة التي نعرفها، كان يفضل أن يسافر لافتتاح مكتبة صغيرة في إحدى القرى أو المراكز عن حضور مهرجان كبير في القاهرة.

***

يسعى عماد دائما إلى أن ينجز ما يريد آملا ألا يشعر الآخرون بوجوده. فهو لا يحب أن يتحدث عن نفسه بفخر واختيال، ولا يحب أن يشعر الآخرون أنهم مدينين له بالجميل. ومع ذلك، أشعر أنني ممتن ليس له، ولكن لمصادفات الحياة التي جعلتني قريبا منه. إذا كان الانطباع العام عن عماد أنه بسيط ومتواضع، وأنه نزيه وصادق.. هو فعلا كذلك.

 اقرأ أيضا:


ليلى بهاء الدين تكتب: «كأني عدت إلى المنزل»

ماجد نادر يكتب: «وزير هيمثل معاك؟!»

د. محمد عفيفي يكتب: «عماد أبو غازي» مؤرخًا

بسمة عبد العزيز تكتب: في مَحبة الحضور الهادئ الطاغي

د. سلمى مبارك تكتب: إنسان من الطراز النادر

د. ياسر منجي يكتب: لأنه أبَى إلا أن يكون «عمادًا»

كريم زيدان يكتب: المحب لما يعمل.. المخلص لما يعتقد

وليد غالي يكتب: «النبيل»

عماد أبو غازي يكتب: السينما في دراسات الوثائق والأرشيف

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر