بسمة عبد العزيز تكتب: في مَحبة الحضور الهادئ الطاغي

في أحد الأيام، وبعد حراك عام 2011، كنت على موعد لمناقشة كتابي «إغراء السلطة المطلقة» في مكتبة “ألف” بمصر الجديدة. سألت الدكتور عماد أن يقبل دور المناقش الذي يقدم الكتاب، ويستعرض محتواه ويمسك بتلابيب الحوار، فأبدى كعادته الترحيب.

اقترب الموعدُ وإذا بالدكتور عماد يصبح وزيرًا للثقافة، وإذا بحساباتي ترتبك؛ فاللحظة حاسمة والمسؤوليات لا بد كثيرة ضخمة، والانشغال بالحدث الأكبر؛ أي الحراك الشعبي الغائمة مساراته؛ أمر حتميّ خارج عن اليد.

اتصلت به قائلة إنني أدرك حجم المشغوليات الجديدة، وإنني سأفتقد وجوده في الندوة؛ ففاجأني بسؤال: “ليه؟”. لم يكن ينتوي أن يعتذر ولا أن يؤجل حتى الموعد، أو يرشح شخصًا آخر يحلُّ محله. وصل الوزير عماد أبو غازي في الموعد بالتمام، وأدار الجلسة بكامل التركيز والحضور الذهنيّ المُتقد، وباللياقة المَعرفية الأصيلة والمُرونة التي تميَّز بها في لقاءاته كافة.

ولم تكن سعادتي الغامرة مَحصورة في اللحظة الآنية؛ بل شاملةً مُمتدَّة، فقائمة الأصدقاء الصَّغيرة شديدة المحدودية؛ باتت تحوي لحسن حظي شخصًا من طراز رفيع؛ يخجل الواحد أمام نبله وإنسانيته.

***

كنت قد تعرَّفت إلى الدكتور عماد بصِفة شخصية في موقف أتذكَّره اليومَ بعد مرور أعوام طوالٍ وأضحك؛ إذ لم تكُن علاقتي بالوَسط الأدبيّ والكتابة قد توطَّدت بعد بأيّ حال. قرأت في صحيفة عن مؤتمر بالمجلس الأعلى للثقافة يشارك فيه عددٌ من كتاب القصة القصيرة والنقاد، وبدافع من مَرحلة الفضول والتَّوق للاستكشاف، والمَيل إلى خَوض تجارب جديدة متنوعة، بغضِّ النظر عن تفصيلاتها، ارتديت ملابسي وتوجَّهت إلى المَجلس وطلبت لقاء المسرول.

دخلت مكتب الدكتور عماد أبو غازي؛ لا أعرفه ولا يعرفني، قلت: “أنا فلانة، طبيبة وحصلت مؤخرًا على جائزة في القصة القصيرة، وأريد المشاركة في المؤتمر”. كهذا قدَّمت نفسي وأنا أخمِّن ردَّ فعل طارد، أو على أقل تقدير غير مكترِث برغبتي التي بدت أشبه بنزوة طفولية. خابت توقعاتي؛ فقد استوعب الدكتور عماد على الفور تلك الكلماتِ المُحمَّلة ضمنًا بشيء من التذمُّر والشكوى. لم تضايقه عباراتي المُتعجلة، القصيرة والجَّافة.

وخلال دقائق مَعدودات، أضاف اسميَ إلى جدول الفعاليات، ويسَّر انضمامي لإحدى الموائد المستديرة؛ لأتحدث ضِمن آخرين أسمع عنهم وقد لا أعرف وجوههم. كان مسار المقابلة مصدرَ إدهاش حقيقي. كم أن الأمرَ سهلٌ بسيطٌ والإجراءَ فوريٌّ والحياةَ طيبةٌ مَليحة. أدركت لاحقًا ومن خلال مواقف عديدة اختلف أبطالها وبطلاتها وتنوع سياقها؛ أن ما حدثَ ذاك النهار البهيج هو بمنزلة استثناء أكيد؛ لا يتعلق مطلقًا بطبيعة سير الأمور ولا بشخصي المتواضع دون شك؛ إنما بشخصية غير تقليدية تحوز رصيدًا معتبرًا من الاحترام، قلَّ أن يصادف المرءُ مثلها في رحلته القصيرة. وجود هادئ رزين، يضفي على مُحيطه القدرَ الوافرَ من الطمأنينة، والثقة في أن ثمَّة من يَحرص على خلق مَنظومة مُنضبطة عادلة؛ ما امتلك بيده الزمام.

***

لا أجد حاجة للإشارة إلى قيمة علمية مشهودة؛ يدركها من عرفه، ولا إلى قدرته على اتخاذ مواقف صارمة تقدم معايير النزاهة على أي معيار آخر؛ فذاك مما أثبتته الأيام بالأدلة والبراهين. لكن ثمَّة لفتة أخيرة أوليها تقديرًا خاصًا، ولا أنفكّ أعبِّر عنها كلَّما سَنحَت الفُرصة. فقد اعتدت أن أصل مبكرًا عن موعدي، أعاني أعذار التأخير المتفاوتة وأنتظر الجميع؛ لكني لا ألتقي الدكتور عماد إلا وأجده منتظرًا، يكتب أو يقرأ أو يسجل نقاطًا لعمل قادم. كسر قاعدتي المستقرة، وأكد لي مع المداومة أنني لست الوحيدة التي تملك ساعة ألماني لا تؤخر ثانية واحدة. تمضي الحياة سريعة، وتدور عقاربها دون تأني؛ فتدفع بكثير المواقف والأشخاص إلى دروب النسيان؛ عدا هؤلاء الذين حفروا في الوجدان أثرًا عميقًا لا يمحوه الزمن.

روائية وباحثة وطبيبة نفسية

اقرأ أيضا:

ليلى بهاء الدين تكتب: «كأني عدت إلى المنزل»

ماجد نادر يكتب: «وزير هيمثل معاك؟!»

د. محمد عفيفي يكتب: «عماد أبو غازي» مؤرخًا

د. سلمى مبارك تكتب: إنسان من الطراز النادر

د. أنور مغيث: مع «عماد»

د. ياسر منجي يكتب: لأنه أبَى إلا أن يكون «عمادًا»

كريم زيدان يكتب: المحب لما يعمل.. المخلص لما يعتقد

وليد غالي يكتب: «النبيل»

عماد أبو غازي يكتب: السينما في دراسات الوثائق والأرشيف

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر