د. محمد عفيفي يكتب: «عماد أبو غازي» مؤرخًا

يحرص «عماد أبو غازي» عند التعريف به على ذكر أنه “باحث في التاريخ والوثائق”، مفضِّلاً ذلك على كل الوظائف التي شغلها، والمناصب التي تقلدها أثناء حياته. وربما لا يعرف البعض أن عماد تخرج بالفعل من قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة في العام الدراسي 1975- 1976. من هنا التعريف المهني الذي يقدمه “باحث في التاريخ”، لأنه يمَيِّز بين مصطلح “المؤرخ” الذي يُطلَق عادةً على المؤرخين المعاصرين للحدث، مثل المقريزي والجبرتي وغيرهم، وبين الباحث في التاريخ، وهو الذي يعيد قراءة التاريخ والبحث فيه، وتقديم “الأبحاث التاريخية”.
كان الحلم الأول، وربما حتى الآن، له هو البحث والكتابة في التاريخ الحديث والمعاصر، ولكن لأسبابٍ ما لم يتحقق ذلك بعد تخرجه والتحاقه بالدراسات العليا بقسم التاريخ. إذ بدأ في التخصص في حقل التاريخ الإسلامي، ولكن نظرًا لعشقه “القديم والدائم” للتاريخ الحديث والمعاصر، التحق بمعهد الدراسات والبحوث العربية، ونجح في الحصول على دبلومه العالي، وقام بالتسجيل مع الدكتور عبد العزيز نوَّار في موضوع مهم يجمع بين اهتمامه بالتاريخ المصري وتاريخ القضية المصيرية لجيله، وهي القضية الفلسطينية. وبالفعل كان موضوعه لرسالة الماجستير “موقف الأحزاب المصرية من القضية الفلسطينية”.
مرة أخرى يتدخل القدر لتغيير مسار حياته المهنية؛ حيث يلتحق بشعبة الوثائق، في قسم المكتبات والوثائق بكلية الآداب جامعة القاهرة، باحثًا في دبلوم الوثائق، ثم معيدًا في القسم نفسه، لترتبط مسيرته المهنية- على الأقل في تلك المرحلة المبكرة- بالدراسات الوثائقية. ونظرًا لارتباطه بأستاذه الدكتور عبد اللطيف إبراهيم، أستاذ الوثائق المشهور، وأيضًا خريج قسم التاريخ، يحصل عماد على الماجستير والدكتوراه في وثائق نهاية عصر سلاطين المماليك، وبصفة خاصة عصريّ السلطان الغوري، وطومان باي أخر سلاطين دولة المماليك في مصر.
***
لكن عماد أبو غازي لم ينس قط حلمه القديم الدائم، البحث والكتابة في التاريخ الحديث والمعاصر. من هنا يقوم بالاشتراك في تحقيق مخطوطة تاريخية للشيخ إسماعيل الخشاب، كاتب ديوان الحملة الفرنسية، وصديق المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي. هذه المخطوطة التي تتناول أحداث القرن الثامن عشر في مصر.
وحتى أثناء عمله في رسالته حول طومان باي، يُصدِر كتيِّبا مهما حول سيرة طومان باي وآخر المماليك، ويشتبك أبو غازي مع الفترة العثمانية وطبيعة الحكم العثماني، وتأثيره على مجرى التاريخ المصري. ويعود أبو غازي مؤخرًا إلى الموضوع نفسه ليقدم دراسة موسعة ومثيرة تحت عنوان “1517” وهو عام دخول العثمانيين إلى مصر، ليقدم أطروحته الفكرية حول خطورة ما حدث في هذا العام، وهو نجاح العثمانيين في إسقاط دولة سلاطين المماليك. ويرى أبو غازي أن دولة سلاطين المماليك- قبيل دخول العثمانيين- كانت في طريقها إلى الانحلال، نتيجة عوامل داخلية، من صراعات المماليك، وعوامل خارجية، اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وفقدان العوائد الجمركية من تجارة العبور “الترانزيت”.
وترتب على ذلك- من وجهة نظره- اضطرار الدولة إلى بيع أراضي بيت المال، التابع للدولة، وبالتالي بدايات تشكل طبقة وسطى، وخاصةً مع التزاوج الذي حدث بين المماليك والأهالي، وظهور ما أطلق عليه “أولاد الناس”. ووفقًا لأطروحة أبو غازي، كان هذا تمهيدًا تاريخيًا شبيهًا بسقوط نظام الإقطاع في أوروبا، وصعود البرجوازية، وهذا التطور الذي كان من عوامل الانتقال إلى العصر الحديث. من هنا النقد الحاد الذي يوجهه أبو غازي لـ”الغزو العثماني” الذي قطع مسيرة هذا التطور الطبيعي للتاريخ المصري.
***

وما إن ينتهي أبو غازي من دراساته الأكاديمية المهمة حول وثائق عصر المماليك، حتى يهزه الحنين مرة أخرى إلى حلمه القديم، التاريخ الحديث والمعاصر. وهنا، ومع النضج الفكري الذي وصل إليه، يقدم أبو غازي دراسته المهمة حول ثورة 19. وكانت الدراسة في الأصل مجموعة من المقالات كتبها في جريدة الدستور، مُدافِعًا عن هذه الثورة، باعتبارها الثورة الشعبية الكبرى في تاريخ مصر، هذه الثورة التي جلبت لمصر إعلان الاستقلال “المملكة المصرية” حتى مع وجود التحفظات البريطانية. كما أعقب الثورة صدور دستور 1923، الذي هيأ لمصر حياة شبه ليبرالية، لم تنعم مصر بها بعد إلغاء هذا الدستور، حيث أكد في هذا الكتاب على نجاح ثورة 19.
ويعود أبو غازي مرة أخرى إلى معالجة ثورة 19، مع اقتراب مئوية الثورة، من خلال دراسة موسعة ومهمة تحت عنوان “1919”، ربما أهم ما فيها أثر ثورة 19 في الحياة الفكرية والاجتماعية في مصر، وتبلور القومية المصرية وانعكاس ذلك على المجتمع المصري. كما قدم أبو غازي دراسة مهمة وفريدة حول أوراق الزعيم الوطني الكبير مصطفى النحاس، في فترة معينة في تاريخ مصر. ويظهر في مقدمة الكتاب مدى تقدير وولع أبو غازي بالنحاس كأحد أهم الزعماء الوطنيين.
***
وفي عام 2024 يقدم لنا أبو غازي بالاشتراك مع تلميذه دكتور وليد غالي دراسة فريدة عن أوراق مجهولة للإمام محمد عبده. وتفاجئنا هذه الأوراق بمشروع لاستقلال مصر في عام 1883، اشترك في وضعه الإمام مع بعض الأصدقاء المصريين والأجانب. وتؤكد هذه الدراسة وهذا المشروع على بقاء الحلم الوطني المصري حتى بعد الاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882. كما تنفي هذه الدراسة ما روجه البعض من انكسار الوطنيين المصريين، وفي مقدمتهم محمد عبده، بعد هزيمة الثورة العرابية، وما نسِب إليه من مقولة “لعن الله السياسة”. ويتوافق تاريخ هذا المشروع مع ظهور جمعية “الانتقام” لمقاومة الاحتلال البريطاني.
وما زال في جعبة أبو غازي العديد من المشاريع البحثية، سواء عن أوراق بعض الزعماء والسياسيين، أو دراسة التجربة الليبرالية، وإسقاط المشروع الليبرالي، هذه المشاريع التي تنتظرها المكتبة العربية بشغفٍ كبير.
وفي النهاية، يبقى لنا الإشارة إلى أن صلة أبو غازي لم تنقطع بقسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة؛ إذ قام بالتدريس لطلاب الدراسات العليا، وشارك في الإشراف على رسائل جامعية، كما ناقش العديد من الأطروحات العلمية. تحية خاصة للمؤرخ الكبير عماد أبو غازي، ودام عطاؤه في خدمة الدراسات التاريخية.
د. محمد عفيفي: أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب-جامعة القاهرة، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة الأسبق.
اقرأ أيضا:
ليلى بهاء الدين تكتب: «كأني عدت إلى المنزل»
ماجد نادر يكتب: «وزير هيمثل معاك؟!»
بسمة عبد العزيز تكتب: في مَحبة الحضور الهادئ الطاغي
د. سلمى مبارك تكتب: إنسان من الطراز النادر
د. ياسر منجي يكتب: لأنه أبَى إلا أن يكون «عمادًا»