محمد هاني يكتب: لعبة الزمن في ديوان «حين أردت أن أنقذ العالم»

في عام 2021، صدر للشاعرة جيهان عمر ديوانها الرابع «حين أردت أن أنقذ العالم». كان بمثابة حصاد عام الجائحة، وكل ما به من قلق وفراغ ومجهول. مرت ساعات ثقيلة في زمن ذاك الوباء، طرحت بها العديد من الأسئلة حول ماهية المستقبل واليوم التالي للأزمة. كان الكثيرون ينتظرون النهاية. وراقب قليلون الساعات بعد خفوت صخب اليوم وتلاشي مشتاته. كانت مواجهة لا يتمناها أغلبنا، لكن البعض تأمل، وصاغ تجربته عما قد يعنيه عبور أوقات على هذا القدر من الاستثنائية.

حين استمع عدد من الأشخاص إلى إيقاع بندول ذي إيقاع ثابت، علق كل منهم بانطباع مختلف. وجده أحدهم رتيبًا، وآخر سمعه يتسارع، وثالث يتباطأ. حتى أن منهم من ظن أنه توقف. هو ذات الإيقاع، لكن الخبرات تفاوتت. كانت تجربة هنري برجسون مع البندول تدعم تصوره حول الوقت. اعتقد برجسون أن الوقت ليس حقيقة محايدة. ورأى مجال للنسبية الإنسانية في بداية القرن العشرين. كانت النسبية ترجع لتفاعلنا مع الوقت عوضا عن ساعات اليوم المتعارف عليها. اعتبر تقسيم الوقت إلى وحدات منهج اصطناعي. ربما كان الهدف منه اقتصادي أو سياسي، إنتاجي، أو إلهائي مثل الساعات المهدرة على تطبيقات التواصل الاجتماعي.

***

استبدل مفهوم الوقت بمصطلح “الزمن”. حل الشعور بالانقضاء محل الوحدات الرقمية الوهمية. انتصر برجسون لمتلقي الوقت أمام المطلق المفروض. ألم نلاحظ سرعة المرور في لحظات المتعة وثقلها في طول الملل؟ أثارت أطروحات برجسون انتباه المجتمع العلمي في وقته، وظلت تطارد المفكرين من بعده. بقي سؤاله التالي عن منظوره حول الزمن. كيف سيكون حالنا لو عشنا بدون قيود الوقت وأدركنا قيمة الزمن؟

حين أرادت جيهان عمر “أن تنقذ العالم” بحسب عنوان ديوانها، كانت محاولتها تجربة مع الزمن. بدأتها بتأمل الانقضاء وسؤال حول الثابت والمتغير. وقفت أمام المياه الجارية، تراقب الطفو وما يخبئه من تقلّبات الأعماق. الظاهر ثابت أو متمهل، والمستتر حيوي وفعال. “يتعجبون في لحظات الغضب/ يتأملون في لحظات السكون”. تحاكي الشاعرة الماء وقدرته على نحت الصخر: “قد أحيل جبلا إلى حصاة.. ببعض الدأب”، وتنجلي لها مشاركته إياها التبدل الذاتي “تتحول حياتي إلى شلال لا يرى/ثم.. أغلي داخل الإناء/ أتفجر فقاعات/ أتبخر” والتفاعل الثنائي “أطفئ النار/ لكنني أخلف وراءها رمادا لا يزول”.

يحضر مثال برجسون مرة أخرى حول السير ومفارقة المسافات. قد يبدو السير من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) أمر بديهي ومحدود. لكن استحضار برجسون لمفارقة الفيلسوف الإغريقي القديم زينون يقدم وجهة نظر جديدة. رحلة زينون من نقطة ما إلى شجرة ترسمها مسافة. المسافة قابلة للقسمة على اثنين. والنتيجة قابلة للقسمة على اثنين.

***
جيهان عمر
جيهان عمر

وهكذا تسمح الحسابات بقسمات لا نهائية. مما يجعلها مسافة لا نهائية تحيل بين زينون ومقصده. يهتم حساب المثلثات بأمر الوحدات الدقيقة. لكن برجسون يبدّي الوقت والزمن على الوقت والفضاء. كل ما يدور بداخلنا، كل ما يداعب حواسنا، يبدل حالنا مع وقع الخطوات: “هناك شيء آخر يتحرك/ مثل غراب يبني عشا/ أو مثل ذنب”. لسنا الشخص نفسه الذي بدأ الرحلة، على الرغم من مظهره المألوف للمراقب. “الإنسان لا ينزل نفس النهر/ والفكرة لا تمر عبر نفس الذهن”.

لكن الذاكرة تحمل أكثر مما ندرك. “أعرف أن للماء ذاكرة/ البحر يكتب سيرته.. ويفضل الصمت”.

وقد نقابل الأفكار والمشاعر القديمة في سياقات جديدة. فالنهر الذي تجلس أمامه جيهان وتشاهد ثمرات تقذف إليه، تعود إليه وربما عثرت على ما اعتبرته مفقودًا لسنوات.

“أذهب إلى البحر كثيرا/ مثل تمثال/ أقف قبالته/ أنتظر أن تقذف إلي نجمة”. مثل تلك الدمية التي علقت بشرفة مقابلة ونسيها الجميع. تخاف جيهان من أثر الدمية المتنامي على صاحبتها: “فكلما لمحت دميتها/ راودتها فكرة الانتحار”.

ثم تنتقل جيهان إلى الافتراض والمقاربة. تتخيل ما يحمله التغير الباطني: “ماذا تذكرت في لحظتك الأخيرة/ وأنت تغرق هناك؟/ هل مرت عليك لحظة ولادتك؟ / قد تولد الآن مرة أخرى/ لكن بالغرق”.

***

أيكون التحول انتقال لبدايات جديدة؟ “طفلا يتنفس من دمّي/ ثم يسقط/ صارخًا من ألم الوجود”، “كل يوم/ يولد طفل جميل/ يتحول إلى فراشة/ في الحال”، “حيث وجه الأرض يصبح هو السماء”.

ثم تغير المنظور: “زهرة قرنبيط مكان عقلي المسروق”، فيراها العالم: “سيعتقدون أن خيالي شفاف/ لأنهم يشاهدون ما يحدث بالداخل”، وحينها تكشف نواياهم وتتجلى لها حقائق مكتومة. تعيد الرؤية من موقع جديد: “وفي جسدي أيضا فكرت/ أن أترك نافذة/ كي ألوي رقبتي/ أنظر إلى الداخل”، وفي موضع آخر: “أهبط بالعينين مكان القدمين/ ستحدق قدماي في مقدمة وجهي”.

وتكشف نظرتها المغايرة “كلما قرأت تلك العبارة/ “وظيفة شاغرة”/ تسقط النقطة من أعلى الكلمة الثانية/ فأقرؤها هكذا/ “وظيفة شاعرة”. إذ تتجاوز الحركة المألوفة “قد تجدل حبالا تتدلى من السماء”. وتختزل المسافة بينها وبين محيطها “باحثا عن بيته الضئيل”. اندمج وعيها بأثر الزمن مع رؤى متحررة من قيود المعتاد. فذابت الخطوط بين الفطري والمكتسب، بين الطبيعة والعمران: “فيبدو العالم وقتها قابلا للذوبان”. صارت الحركة في الغرف وتقلبات المناخ بنات نفس العالم. “الدماء تتجدد دون قصد” و”أحب أن أغمر الأرضية بالمياه/ أتلمس برودتها بقدمي الحافيتين”.

***

وترى الشاعرة في عاملة النظافة في غرفة فندق نفس الدور الذي يقوم به تيار النهر. “تزيل تاريخ العابرين” وخضوعًا لنفس التيار لا تستطيع الشاعرة التوقف: “حينما يكون التوقف ضروريا/ أجدني في أماكن غريبة”. فيثمر ذلك التصالح عن وجود حقيقي “أسكب حياتي هناك/ في غرفة الفندق/ حيث لا شيء/ سوى الآن..”.

حين أرادت جيهان أن تنقذ العالم، انتهت رحلتها إلى تسوية جديدة. لغز الحياة كامن في قلبها النابض. لن تكون الإجابة بمحاولة توقيفها. بل بمصاحبة استمراريتها والتوحد معها. وقتها ستوفر طاقة المقاومة المهدورة، وتكتفي بإعادة صياغة الظرف، من وقت ومكان إلى وقت وزمن. حين أرادت جيهان أن تغير المحيط، عادت واكتفت بالذات. بدت وجاهة شكوك برجسون حول الحقيقة، وعلاقتها بباحثيها. وأصبح المجد للشاعر الذي لا يعبأ بمرور السنوات “ساخرا من الكون ومنتصرا على قلبه الذائب منذ زمن”. الشاعر الذي “تعلم أن يخلق أياما أخرى غير تلك التي نفدت مع عابرين”. الشاعر الذين بدلا من إنقاذ العالم، أعاد صياغته. ترك روحه للزمن، واختار كلماته بعناية، حتى تتجاوز العلاقة المستقرة بين الدال والمدلول، وتكشف بعدًا آخر.

                                                                                                                                      كاتب ومترجم مصري

اقرأ أيضا:

الحس الشعبي في رواية «الأنتكخانة»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر