الحس الشعبي في رواية «الأنتكخانة»

قليلة هي معلوماتنا عن نشأة علم الآثار وتطوره في مصر، ليس فقط من خلال التأريخ للهيئات والمؤسسات والعلماء فقط، ولكن رد الفعل الوطني المتمثل في تأكيد الهوية المصرية وتمصير العلم منجزاته، خاصة على امتداد القرن التاسع عشر وتحديدا منذ فك شامبليون طلاسم اللغة المصرية القديمة عام 1822 وحتى بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914.
وفي العديد من وثائق فترة “محمد على باشا” أُشير إلى قرارات أصدرها الجناب العالي لمنع الاتجار في الآثار وتجريم من يهربها ويخربها. ففي 15 أغسطس 1835، صدر مرسوم حكومي في مصر بتأسيس دار للآثار المصرية في منزل «الدفتردار»، كان من المفروض أن يضع هذا المرسوم حدا لعملية خروج الآثار القديمة من مصر. إذ قالت الديباجة إن المتاحف والجامعين والقوى الأجنبية جائعون لاختطاف الآثار، حتى إن هناك خوفا من أن جميع الآثار ستذوي لإثراء غيرها من البلاد.
***
ويضع أمامنا ناصر عراق في روايته “الأنتكخانة” (دار الآثار المصرية التي افتتحها الخديوي إسماعيل 18 أكتوبر 1863) خريطة أدبية –أثرية تمتد زمنيا من عام 1873(بعد 16 عاما من يوم تولي الخديوي إسماعيل الحكم) إلى عام 1879 (يوم عزل الخديوي إسماعيل من الحكم) لعلماء ثلاثة من علماء تلك الحقبة التاريخية، ومن المؤسسين الأوائل لعلم الآثار ومؤسساته في مصر.
الأول هو عالم الآثار الفرنسي “مريت باشا” يقيم في مصر منذ 1850، وأول من تولى مسؤولية الآثار المصرية. ورغم ملاحظاته السلبية العديدة على سلوكيات المصريين، كان يرى أنهم قوم طيبون غير عدائيين. والثاني عالم الآثار الألماني “هاينريش بروجش” ناظر أول مدرسة مصرية عليا لدراسة المصريات 1896. والذي أطلق عليه المصريون اسم “هنري”، وتقبل هذا بصدر رحب، لأن اسم “هاينريش” ثقيل على ألسنة المصريين، وقد احترم البديهة الشعبية المصرية هنا ولم يعترض. بل كان يشيد بضحكات المصريين وقفشاتهم وسخرياتهم اللطيفة.
والثالث فهو عالم المصريات المصري “أحمد أفندي كمال”، الذي أصبح أول عالم مصريات مصري فيما بعد، وأمين مساعد بالأنتكخانة.
***
وبعيدا عن موتيفة العمل الروائي المركزية (نهب الآثار المصرية القديمة) والموتيفات الكثيرة والثرية التي تربط شخوص العمل وتكشف عن مكنون شخصياتهم (بواعثهم)، فإن أهم ما يميز هذه الشخوص في هذا العمل الروائي أنها تتطور لتصبح أكثر إنسانية وأقل إعجازا. كما أن العمل يجمع بين شخوص ذات حقوق متساوية في العمل الروائي (لا بطولة فردية هنا).
نرصد في هذه الدراسة الحس الشعبي المصري في الرواية، والذي بدوره يؤكد على الهوية المصرية وقتئذ. إن توظيف التراث الشعبي في الكتابة الأدبية لاستلهام الأبعاد الروحية للإنسان كان أعظم كشف للرومانسية، كما أن توظيف الأسطورة كان أعظم كشف للكلاسيكية من قبل. والأدب العالمي لم يخل قط من توظيف للتراث الشعبي والأسطورة منذ بدأت الكتابة الأدبية، والمثال واضح في مسرح النهضة في أوروبا والعصر الذهبي في إسبانيا.

سمات الحي الشعبي:
فقد سكن عالم المصريات الألماني “هنري بروجش” في حي شعبي اسمه بولاق، يضج بالصخب ليل نهار، والنوم يخاصم قاطنية؛ فهم يسهرون حتى مطلع الفجر في المقاهي في سمر ومرح وربما عراك (ص50). وتظهر شهامة أهل الحي في معاونة البغلة المتعثرة؛ فمعاونة المأزم لا تصدر إلا عن شعب متحضر رحيم (ص43).
ويوجد بالحي الشعبي (بولاق) مقام سيدي القللي؛ حيث يقام له مولد سنوي. وهناك أيضا مبنى عتيق اسمه (تكية الرفاعية). وهو عبارة عن معبد ديني مقدس خاص بإحدى طوائف المسلمين الذين يطلقون عليهم اسم الصوفيين. يستخدمونه للصلاة طوال اليوم، فلا يؤمه سوى النساك والزاهدين، الذين اشتروا العبادة بمباهج الحياة. ما إن يعبرون بوابته الخشبية العملاقة حتى تتلقفهم نفحات إيمانية غامضة فلا يخرجون منه أبدا؛ إذ يتفرغون لمناجاة إلههم في الصباح والمساء، ولا يتناولون من الطعام إلا النزر اليسير مما يجود به عليهم أهل الخير (ص140).
ومن وسائل الترفيه في “الحي الشعبي” مشاهدة القرداتي، التي يستعرض مهاراته وهو يحاكى الإنسان في ميدان الرماية الذي يشرف على القلعة (ص56)، كذا الأراجوز: إنه عرض مسرحي بدائي يقام في ساحات الأحياء الشعبية الفقيرة، لكنه لطيف جدا، ينهض على التوظيف الجمالي لعرائس صغيرة مصنوعة من القماش بأشكال كاريكاتورية؛ حيث يستعرض مشكلات الأزواج البسطاء في مصر باستخدام صوت مستعار، يفجر ضحكات الكبار والصغار (ص136).
***
وفي “حي الحسين ” أيضا كان يوجد “تياترو المحروسة” القريب من الأزهر، وكان يغني فيه المطرب عبده الحامولي (ص113). انتشار الحكايات (الحواديت) الشعبية: فقد كان خليل الهواري، وهو ابن خالة أحمد أفندي كمال، لا يخشى وهو صغير اقتحام حوش “جامع ميرزا” ليلامع سقوط قرص الشمس الأحمر في قلب النيل؛ لأن الكبار حذروه من أن عشاء العفاريت يتكون من أعناق الأطفال وأناملهم (ص114).
وجود مطاعم (مصمط) الوجبات الشعبية مثل لحمة الرأس والفتة (ص5)، وإذا كان أكل الكباب في المشهد الحسيني (ص70)، فليس بعد الفول أكل.. الفول سيد الأطعمة، وبصراحة طعمه لذيذ جدا كما قال” إميل بروجش” الأخ الأصغر لهنري (ص200). هذا بالإضافة إلى مذاق البطاطا الشهية (ص39)، وكذلك المشروبات المصرية الساخنة مثل اليانسون والقرفة والسحلب والجنزبيل (ص41)، وحمص الشام (ص16).
البطل الشعبي: موتيف
وتتجسد في هذه الرواية في شخصية الجرسون المصري (خميس بونابرته) الذي يعمل في مقهى البشتيلي. وقد شرح لي أحمد أفندي-الكلام على لسان مدموزيل جوزفين ديوري- كيف التصق اسم “بونابرته” بهذا الجرسون المصري؛ إذ إن والد جد هذا الجرسون قد زاره قائدنا نابليون بونابرت وتناول عنده القرفة والسحلب واليانسون، فتلذذ بها كثيرا، وطلب منه أن يرافقه ليخدمه في قصره بالأزبكية، فصاح الرجل مستنكرا: (كيف لي إطعام الأفعى؟ أنا لا أخدم أي أحد من المحتلين في قصورهم، حتى لو كان بونابرت نفسه). فضحك قائدنا وتركه في حاله، وأجزل له العطاء وغادر المقهى. هكذا أطلقت البديهة الشعبية اسم “بونابرته” على الجرسون الجسور، وتوارث أهل الحي هذه الواقعة، فالتصق الاسم بأولاده وأحفاده من بعده؛ اعتزازا بالموقف الوطني لجدهم الكبير (ص141).
حكايات النساء وحمام التلات:
…..،باختصار.. مُلخص نسوة مصر كلها في حمام التلات؛ فالثرية والفقيرة والطيبة والشريرة، والعاهرة والطاهرة، والكريمة والحقيرة، والبدينة والنحيفة، والبيضاء والسمراء، والصموته والثرثارة؛ كلهن يجتمعن بين غيوم الماء الساخن والبخار الدافئ والعطور النفاذة. وكلهن يبُحن بما يعتمل في صدورهن من عذابات وآلام وطموحات دون قلق من أعين الرجال المتلصصين المتربصين. فالحمام واحة تمرح فيها النساء بحرية بلا عائق، ولا عاشق، ولا متربص، فيتبادلن النكات الجنسية الفاحشة بين أنهار من الضحكات. وقد اكتشفت أنه من المستحيل أن تزف عروس في بولاق قبل أن تغرق جسمها وروحها في حمام التلات، حتى تتوهج بالنظافة والجمال والزينة والجمال والزينة، حتى يختلي بها عريسها في الليلة الأولى (ص189،190). والزغاريد أجمل عزف تطلقه حناجر النساء في ليالي الفرح (ص151).
هكذا جمعت رواية ناصر عراق بين الآثار المادية ومقرها الأنتكخانة، وما يعرف بالآثار اللامادية من عادات وتقاليد الشعب المصري، وهو ما يعرف بالتراث الحي.
اقرأ أيضا:
«القاهرة.. الذاكرة الفوتوغرافية».. كتاب يؤرخ للقاهرة بالصورة