قاهرة أم كلثوم: المدينة التي وجدت صوتها!

لا يوجد صوت بشري هيمن ويهيمن على فضاء القاهرة مثل صوت أم كلثوم، تحول إلى لازمة يعرفها كل من يتردد على العاصمة المصرية، وعلامة أساسية من علامات المكان. انصهر في تفاصيل المدينة فصار منها ومعبرا عنها. هكذا فرضت الست -التي رحلت عن عالمنا قبل خمسين سنة- إيقاعها على القاهرة.  في لحظات مجدها، رسمت مسارات الحركة في المدينة، وبإشارة منديلها الشهير، تفرض الصمت على مدينة عاشت للصخب.

البشر والحجر يندمجان في منحوتة واحدة تستسلم لتلقي نفحات الموهبة المتفجرة. صوت جادت به السماء مرة، فأحسنت أرض القاهرة استقباله وتكريسه عنوانا للمدينة الألفية. الأخيرة كان ينقصها الصوت الذي يعبر عن تاريخها العريض، وجدته في معجزة أم كلثوم. لم تجد أفضل منها لتعبر عن نفسها، ولم يكن صعود الست إلى عرش الغناء العربي بلا شريك، إلا تحولا في هوية القاهرة التي كانت تمر بمنعطف تاريخي، عبرت أم كلثوم في رحلته الفنية عن بعض جوانبه بامتياز.

***

تعرضت القاهرة لتحولات عنيفة وسريعة على مدار القرن العشرين، بداية من الدخول في عمليات التحديث التي جرت على وقع صدام المصريين الباحثين عن الحرية مع الاحتلال البريطاني، وتفجر مشاعر الوطنية الوليدة مع ثورة 1919، مرورًا بميلاد المدينة الكوزموبوليتانية ذات المساحات المتقاطعة والمتداخلة بين عوالم الأجانب والأفندية وأولاد البلد. ثم عصر الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والانسداد السياسي الذي ميز عقد الأربعينيات، لندخل بعدها إلى ثورة يوليو وميلاد زعامة جمال عبد الناصر ومشروعه الاجتماعي الوطني، وسنوات الحرب والنصر والهزيمة، وعصر السادات ومبارك وما شهده من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عنيفة. وفي كل هذا، ظل الحائط الشامخ في جدار المدينة هو صوت أم كلثوم، فمنذ لحظة ميلاده ظل يتردد في أرجاء المدينة التي عرفت لحظات من الألق والحزن والانكسار والفرح والتشتت والأفول.

تركت أم كلثوم ما يمكن وصفه بالمذكرات عن الفصول الأولى من حياتها في القاهرة. تصلح هذه المادة لاستكشاف نظرتها للمدينة وكيف رصدت تفاصيلها منذ العقد الثاني من القرن العشرين، بالتوازي مع تحليل الدور الذي لعبته سيدة الغناء العربي في تشكيل المجتمع القاهري كونها فاعلة في مجتمع نخب المدينة من ناحية، ومؤثرة بصوتها في جميع طبقات وشرائح مجتمع القاهرة من ناحية أخرى. وهو أمر يمكننا بحسب ما نزعم من إلقاء أضواء على التفاعل بين صاحبة الصوت المعجز والقاهرة كوعاء مكاني أصبح المسرح الرئيس لتحركات الموهبة الاستثنائية. ربما يساعدنا هذا على تلمس بعض جوانب عظمة أم كلثوم الاستثنائية وتحولها إلى صوت المدينة. بعدما تعددت أوجه تأثيرها في مناحي مختلفة من الحياة الاجتماعية والفنية في القاهرة.

***

جاءت أم كلثوم إلى القاهرة في مطلع عشرينيات القرن العشرين، وهي الفتاة الريفية القادمة من أعماق الدلتا، “اكتشفت أن هناك مدينة جديدة اسمها القاهرة! اكتشفتها بمحض الصدفة“، هكذا تقول بحسب ما نقل الكاتب الكبير محمود عوض في كتابه عنها (أم كلثوم التي لا يعرفها أحد)، والقائم على لقاءات معها، أي أنه كتاب سيرة ذاتية تتضمن ما أملته وسيرة عنها بقلم سيال مثل قلم عوض.

هكذا كان اللقاء الأول للطفلة المنطلقة في عالم الإنشاد مع والدها وأخيها، باهتا بحسب ما تتذكر، لم يعلق في ذاكرتها من هذه الزيارة التي يبدو أنها تمت في العشرية الثانية من القرن العشرين إلا مشاهد قليلة. في زيارة تالية، أضاعت “تحويشة العمر” بعدما غنت في حي العتبة الخضراء. التجربة القاسية جعلتها تعاهد نفسها بألا تزور العاصمة الكبرى، “لكن نداء القاهرة كان أقوى من ضياع أموال قارون”، تقول أم كلثوم التي كان يمكن أن نخسرها جميعا بسبب واقعة نشل!

وقعت أم كلثوم في غرام القاهرة، في الزيارة التالية نزلت في لوكاندة جوردون هاوس التي تطل على شارع فؤاد (26 يوليو حاليا)، ورأت من شرفة الغرفة الفندقية السينما لأول مرة في حياتها. رأت “دنيا غريبة“، وفي هذه الغرفة سمعها الشيخ أبو العلا محمد، وقرر أن يشرف على هذه الموهبة المتفجرة، وفي السنوات الأولى من عشرينيات القرن الماضي استقرت أم كلثوم في القاهرة وتحديدا حي الزمالك، عرفت القليل من المدينة وقتها.

***

تحتفظ بانطباعها الأول عن المدينة خلال السنوات الأربع الأولى التي قضتها فيها، تقول: “كانت القاهرة بالنسبة لي هي الطريق من الزمالك إلى باب الخلق (حيث مقر إقامة صديقتها روحية ابنة أمين المهدي عازف العود)… كانت العاصمة بالنسبة لي هي شارع فؤاد وميدان قصر النيل وميدان عابدين وميدان باب الخلق… كانت معلوماتي عن القاهرة هي ما أقرؤه في الصحف والمجلات، وأسمعه من الناس. ومع هذا الحصار الذي كنت أعيش فيه، أحببت القاهرة وعشقتها. كنت أحس أنني أعيش في أجمل بلد في الدنيا، أحببت أهلها. وجدت في هذه المدينة الحلوة ضمانًا واهتمامًا وتشجيعًا. وجدت فيها مجدًا لم يخطر على بال“. هذه المشاعر دافعت بها أم كلثوم عن قرارها بالبقاءفي القاهرة عندما أراد والدها مغادرة المدينة والعودة إلى طماي الزهايرة، بعد هجوم صحافي أصفر على ابنته العام 1926، التي جيشت معارف الأسرة لإقناعه بالرجوع عن قراره وهو ما كان.

عندما جاءت أم كلثوم إلى القاهرة، كانت المدينة تمر بتحولات متلاحقة. البلاد لا تزال في مرحلة تداعيات ما بعد الثورة المصرية، الاستقلال الشكلي وميلاد الملكية وصعود زعامة سعد زغلول وحزب الوفد. حياة جديدة جرت في ينابيع الواقع الاجتماعي المصري الذي عرف لأول مرة تبلور لمفهوم الوطنية المصرية بشكل جلي، وجيل الثورة من شباب الأفندية بدأ يبحث عن وسائل للتعبير عن استحقاق الأمة المصرية للاستقلال التام عبر التأكيد على قدرة المصريين على إدارة أمورهم وقدرتهم على الوقوف حضاريا في محاذاة الأمم المتقدمة ولا تحتاج وصاية بريطانية، وبدأ تيار التمصير في كل شيء؛ الاقتصاد والسياسة والفن والثقافة والغناء والمسرح والرواية إلخ.

***

في هذا المناخ جاء صوت أم كلثوم المصري جدا، المتوهج بالموهبة الخارقة. ومن المهم هنا أن نشير إلى أن قصة صعود أم كلثوم كفتاة ريفية حفرت طريقها بفضل موهبتها، تتطابق مع قصص صعود جيل الأفندية الذين سيطروا على الحياة الثقافية والفكرية في مصر خلال عقود العشرينيات والثلاثينيات وما بعدها. لقد رأوا فيها التعبير الأنثوي لرحلة صعودهم، والنموذج المعبر عن الروح المصرية الخالصة في ضوء تقديمها فنها بلا ابتذال وفي إطار من الحشمة والوقار، صورة مصرية أردوا أن يقدموها بعيدًا عن صورة لم يتقبلوها لمطربات العصر وفي مقدمتهن منيرة المهدية.

عرفت أم كلثوم القاهرة وتلمست روحها وعرفت كيف تسيطر على إيقاعها، هذه المرة وقعت المدينة في عشق المطربة الاستثنائية، فتحت أبواب مسارحها لاستقبال الفتاة التي تردد صوتها في أصداء المكان، والتي اتقنت فنون اللعبة وعرفت كيف تندمج في المجتمع المديني دون أن تفقد احترامها لنفسها، تخلت عن الجوقة العائلية وكونت تختها المحترف الذي ضم أساطين العزف وقتذاك. غنت في مسارح عماد الدين، هناك مسرح على رأس الشارع في تقاطعه مع شارع فؤاد استأجرته وعرف باسمها لم يعد له وجود الآن.

***

غنت في حديقة مقهى ريش، دخلت السينما وغنت في الأوبرا المصرية بالأزبكية، لم تعد غريبة عن المكان خصوصا بعدما اندمجت في نخبة القاهرة وأصبحت نجمة مجتمع، تركت العقال والبالطو والمنظر البدوي الذي أطلت به أول مرة، استبدلته بصورة أكثر وقارا لفتاة قاهرية محتشمة، أنيقة دون ابتذال. نالت الدعم من شخصيات قاهرية مرموقة في مقدمتها الشيخ مصطفى عبد الرازق؛ الذي تولى مشيخة الأزهر في ما بعد، والذي كتب مقالة داعمة والذي دعمها كثيرا ورعاها بعد ذلك.

يمكن لنا رسم خريطة بتحركات أم كلثوم في مدينة القاهرة، غنت في النادي الأهلي، أمام مسرح سينما قصر النيل يمكن أن نسرح بالخيال في المكان الذي أحيت فيه الكثير من الحفلات، انتقالها من بيتها في شارع فؤاد بالزمالك إلى فيلا بالحي ذاته مع إطلالة نيلية، هنا عاشت المعجزة الأرضية حتى وفاتها، لم يعد البناء القديم قائما حل محله في سنوات الانفتاح القبيحة بناء بلا معنى، تم الاعتذار بأثر رجعي بنصب تمثالها أمامه، هي السيدة الوحيدة التي لها تمثالين في القاهرة، الثاني يقع داخل الأوبرا المصرية في الجزء الجنوبي من جزيرة الزمالك، كأن الجزيرة كرست لها.

***

تتبع المسارح التي غنت عليها في شارع عماد الدين والأزبكية يغني خريطتنا الافتراضية عن تنقلاتها في المدينة، لكن الأهم أنها فرضت تصورات ذهنية عميقة على مستويات مختلفة، فوجودها شكل أكبر داعم لقضايا المرأة وقتذاك، لم تعد المرأة مجرد سلعة، ارتقت بالفن المصري وخلصته من الغناء الخليع الذي ألصق كتهمة بالمطربات، حققت انتصارا طبقيا لفتاة ريفية اقتحمت عالم القاهرة النخبوي وطبقته الارستقراطية حتى وصلت سطوتها إلى أبواب القصر الملكي ثم مجلس قيادة الثورة.

أصبحت أم كلثوم رسميًا صوت القاهرة، مع تعاقد الإذاعة المصرية معها قرب نهاية الثلاثيناتلإذاعة حفلها في الخميس الأول من كل شهر، ساهمت حفلاتها في تشكيل الحياة الاجتماعية لأبناء القاهرة، فاللقاءات تؤجل والمواعيد تُلغى والجميع يمكث في البيت بجوار المذياع، ظاهرة استوقفت فرجينيا دانيلسون، التي أرخت لأم كلثوم في كتابها (صوت مصر: أم كلثوم والأغنية العربية في القرن العشرين)، بقولها إن حفلات الخميس الأول من كل شهر أصبحت عند غالبية المصريين هي “ليلة أم كلثوم”، فرسخت من مكانتها الأسطورية “وصارت حفلاتها مناسبات يُدعى فيها الناس إلى التجمع حول أقرب جهاز راديو للاستماع إلى ما تغنيه في ليلة الخميس ومسامرة الأصدقاء والأقرباء… لقد ظلت حفلات الخميس الأول المذاعة أحداثًا كبرى في الثقافة الجماهيرية المصرية حتى توقفت بسبب مرضها ثم وفاتها“.

***

البعض سيجادل بأن مشهد جنازتها هو مشهد الهيمنة المطلقة لها على فضاء المدينة، كونها المرأة الوحيدة التي تشهد شوارع القاهرة مثل هذا الوداع الأسطوري الممزوج بجلال الموت، لحظة تتساوى تمامًا مع تاريخ حفلاتها في الخميس الأول من كل شهر، عندما فرضت سطوتها على إيقاع المدينة لعقود، ينصت الجميع لسماع الصوت المعجز، اكتملت دائرة الهيمنة التي استمرت لنحو أربعة عقود كاملة، كان لافتًا أن صور جنازتها التي تحولت إلى تظاهرة وداع، تعكس غلبة الشباب على الحضور، ما كشف وسط الدموع المنسكبة والوجوه الحزينة عن مستقبل مشرق ظل صوت أم كلثوم حاضرًا فيه بقوة لم تزده الأيام إلا عمقًا ورسوخًا.

لذا أرى أن المشهد الختامي لهيمنة أم كلثوم على المدينة وتحولها إلى أحد رموزها العليا، أي أن تتحول إلى أحد أدوات تعريف المكان، هو مشهد الألفية الجديدة عندما تسمع صوتها وترى صورتها في كل مكان، القاهرة تحولت في المخيلة الشعبية إلى مدينة الست، الأخيرة هي صوت القاهرة والمصريين عموًما، عشرات المقاهي تحمل اسمها بصورة لا يمكن حصرها تقريبًا، صوتها يناسب حاملا بهجة أول ساعات النهار مع “يا صباح الخير يا اللي معانا”، ويجلجل في فحمة الليل بـ “أنت عمري”.

***

تسمع صوتها ينطلق مرحًا يتسلل من سيارة مسرعة، يقتحم عليك خلوتك من مصدر لا تعلمه. هكذا أصبحت من رموز المدينة الأبدية؛ نقول قاهرة المعز؛ قلعة صلاح الدين؛ جامع محمد علي؛ جمالية نجيب محفوظ؛ صوت أم كلثوم. أشياء تعيش مع الزمن وتكسب معركتها معه تعطي للمكان تعريفه وخصوصيته، تتحول إلى أحد فسيفساء تعريفه هكذا أعادت أم كلثوم بفنها إعادة صياغة فضاء القاهرة لتصبح صوت المكان والمعبر عنه، في مفارقة صارت المدينة مقهورة أمام صوتها القاهر.

اقرأ أيضا:

ملف| «الست».. صوت السماء

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر