إيهاب نبيل يكتب: «مجاذيب القرافة» فيلم يوثق تراثا مهددا بالمحو
ثلة من شباب وكبار الباحثين التراثيين والمصورين والخطاطين والمحبين للتاريخ والتراث والفن، قرروا أن يأخذونا في رحلة عبر الزمن لنشاهد شخصيات وشوارع وحارات ومساجد ومقابر وشواهد تاريخية مختلفة، وكأننا كنا شهودا على العصر. وقد قاموا بتدشين مبادرة “سيرة القاهرة”، التي ضمت كثير من المحبين والمهووسين والمجاذيب بالفن والجمال والتاريخ وعبقه. هي في الحقيقة تُعد بمثابة توثيق أرشيفي مصور من ناحية، وإبرازا للتاريخ المادي والشفاهي من ناحية أخرى.
لقد قرر مجاذيب القاهرة أن يوثقوا هذا التاريخ العظيم في فيلم اسمه على مسمى بالفعل «مجاذيب القرافة»، من قلب قرافة الفسطاط قديمًا قبل أن تصبح امتدادًا للقاهرة، بعد التوسعات والتغيرات الطبوغرافية. تلك القرافة التي تمثل بوصفها حاملة لطبقات تاريخية أركيولوجية شاهدة على عصور وأجيال وأحداث جسام، فهي كما قال حسن حافظ (باحث في تاريخ مصر الإسلامية): “هي بداية حقيقية لمن يريد أن يعرف تاريخ مصر، ويستطيع البناء عليه”، وهو ما يعني أنه تاريخ قابل للتراكم.
***
وهنا أذكر ما وصفه عبد العظيم فهمي (باحث ومؤسس مبادرة سيرة القاهرة) عن رحلتهم التوثيقية بأنهم كانوا “يغزلون الحكايات على نول الصبر والمحبة”، إذ تتسارع دقات قلوبهم عند سماع صوت صرير أي باب في القرافة، فيفتح حتمًا وراءه سر مستتر حان وقت كشفه. فقرافة القاهرة ليست مجرد مقابر لدفن الموتى تحتوي رفاتهم وتستقبل أهاليهم من أجل زيارتهم والترحم عليهم، بل هي امتداد تاريخي وأثري وجغرافي للقاهرة، تبرز باعتبارها متنفسا للمدينة بما تضمه من غابة شجرية ضخمة أشبه برئة وقلب القاهرة النابض بالحياة. كأنها تتحدث مع موتاها وتهمس إليهم وتخبرهم بأن في قبورهم حياة.
كما قال الدكتور مصطفى الصادق (طبيب وباحث مهتم في تاريخ وآثار القاهرة): “وأنت تسير في القرافة، تجد نفسك تمر من أمام قبر سيدة الغناء وكوكب الشرق، أم كلثوم، فتجد فريد الأطرش يجاورها، ثم تواصل المسير فتشاهد قبر أنور وجدي، وإسماعيل ياسين، وليلى مراد، وشادية وغيرهم، ما يعني أنك تقف في محفل فني مهيب في حضرة عمالقة الغناء والتمثيل بين أشجار وارفة الظلال تلقي بظلها على الميت والزائر معًا”.
هذا بجانب مدافن الزعماء والمفكرين السياسيين والشعراء مثل الزعيم الثوري والشاعر رب السيف والقلم محمود سامي البارودي وأمير الشعراء أحمد شوقي. ثم تنتقل في سيرك فتمر على مشاهد وأضرحة العلماء المسلمين الأجلاء والصوفية والصحابة الكرام، مثل ضريح سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام، وقبة الإمام الشافعي وبجوارها إمام أهل مصر الفقيه والمحدث الليث بن سعد، وضريح شيخ مؤرخي مصر ابن خلدون وتلميذه المقريزي، الذي صور خطط وقرافات القاهرة في مشهد فسيفسائي يجمع بين التاريخ والفن المعماري في كتابه “السفر المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار”، والتوسعات والبناءات التي تمت في العصر العثماني وعهد محمد علي وأسرته الذين دفنوا فيها وكبار رجال الدولة والأمراء.
***
وقد وصفها كريم بدر (مهندس ومصور محترف للآثار والتراث المصري) بأنها تحوي التاريخ المادي واللامادي الذي تلمحه في النحت على الحجر وجدران الأضرحة والخطوط الفنية البديعة فوق شواهد القبور وعلى أبوابها، فضلًا عما تمثله القرافة بوصفها مصدرا شفاهيا من مصادر عملية التأريخ عبر العصور. كما تعتبر شبيهة بكتب السير الذاتية والتراجم والطبقات والأعلام، فمن الممكن أن تجد في جدران ضريح أو مقبرة أو شاهد سيرة موجزة أحد المفكرين أو العلماء. فتتمثل الجبانات أمامنا كحكاء وسارد عظيم تشي بأسرار عن العصر أو الزمن التي بنيت فيه. وأيضًا لما تحويه من موروث شعبي وممارسات وطقوس شعبية مهمة في الزيارات أو نوعية الأناشيد والأشعار المكتوبة داخل الأحواش والمدافن عبر العصور الوسطى والحديثة.
وعلى حد تعبير عبد الرحمن الطويل (الباحث في تاريخ وتراث القاهرة): “القرافة الكبرى والقرافة الصغرى هما أشبه بحلقة متصلة في تاريخ القاهرة لا يستطيع الباحث في تاريخ وتراث المدينة أن يتغاضى عن الولوج في أسرارها ومادتها التاريخية الحية”.
أما الجانب الآخر من المشهد فهو مأساوي إلى أقصى درجة، حيث تراءى أمام أعيننا منذ سنوات، وازداد أكثر فأكثر في الشهور القريبة، مشهد الجرافات واللوادر الحكومية، التي قررت أن تعبث بكل هذا التاريخ والجمال وتستبيح النسيج العمراني لمقابر وجبانات القاهرة، وتجعل التاريخ يسحق تحت عجلات تلك الجرافات وإزالة مساحات واسعة من جبانات القاهرة، مما أدى إلى اختفاء أضرحة تاريخية على درجة عالية من الأهمية الفنية والأدبية والتراثية تحت زعم التطوير والتجديد وتوسعة الطرق وبناء الكباري والمحاور!
***
فهذه الهجمات، لو استمرت بتلك الوتيرة المتصاعدة، ستجعل جبانات القاهرة أثرًا بعد عين، وأطلالًا من الماضي نبكي عليها سنينًا عديدة، ولن يعوضها البكاء والترحم، تزامنًا مع تصريحات حكومية رسمية بنفي التعدي على الأضرحة والجبانات، بل وطمأنة وتهدئة الرأي العام الثائر الذي بذل من الجهود المضنية سواء من جماعات المهندسين الأثريين المتخصصين أو المثقفين والمهتمين بالتراث، أو نداءات وتوقيعات على مواقع التواصل الاجتماعي بأن الحكومة ستقوم بفك ونقل وإعادة تركيب لتلك المقابر الأثرية بالتنسيق بين الجهات المعنية، مثل وزارة الآثار والجهاز القومي للتنسيق الحضاري وتنفيذ شركة المقاولون العرب.
إلا أن التصرفات والسلوكيات التي تقوم بها الحكومة مناقضة تمامًا لما يتم على أرض الواقع من عمليات إزالة ومحو للتاريخ، وما رأيناه بأعيننا مؤخرًا في شارع صلاح سالم من ناحية ميدان السيدة عائشة، حيث هدم وإزالة بعض مآذن المساجد والقباب الأثرية هو شاهد عيان على تناقض التصريحات الحكومية، لإفساح الطريق أمام مشروع مجهول لم تتحدد معالمه أو تفاصيله بشكل علمي وهندسي، يدعى “مقبرة الخالدين”، الذي أطلقته الحكومة المصرية في يونيو 2023، خافية وراءه رغبة محمومة ومتسارعة في استباحة وانتهاك نسيج جبانات القاهرة العمراني، والمرور فوق رفات الأموات وجثامين الأحياء ومعاداة الشجر والحجر في مشهد قاسي ومؤلم لكل إنسان محب للجمال والفن والتاريخ.
***
هنا جاء دور “سيرة القاهرة” لتوثق ذلك الضمير الإنساني والجمال الرفيع صوتا وصورة. ليخبروا الأجيال القادمة: “نعم، نحن مررنا من هنا، مررنا على قبور الصامتين الذين يئنون تحت وطأة الوحشية”. وكأن الصامتين يريدون أن يصرخوا ويسمعهم صرخاتهم واستغاثاتهم بأن ينقذوهم من تحت الجرافات. لتتجلى شواهد القبور على حد وصف عالم الاجتماع الكبير سيد عويس هتاف الصامتين المعبر عنهم. فيصير فيلم “مجاذيب القرافة” شاهدا على العصر، يرونا كيف كانت القاهرة التاريخية بجباناتها ومقابرها التاريخية قبل أن تطولها يد الهدم والتدمير. فيما أسميه “إثبات حالة”، نثبت بها ما حدث في ظل عجزنا عن تغيير الواقع، إلا أن صناع الفيلم استطاعوا توثيق صرختنا للأجيال القادمة حاملين شعار: “نعم مررنا من هنا”.
اقرأ أيضا:
من جديد.. معاول الهدم تستأنف إزالة الجبانات التاريخية بعد وقف الدفن بها