«طبلية مصر».. 7 لُقَمٌ لملائكة النهر

تصوير: أحمد طه

بدأت أول أمس فعاليات الموسم الثالث لمبادرة «طبلية مصر» بعقد مؤتمر عن توثيق الأكلات المصرية، والذي يهدف إلى إحياء التراث المصري من خلال توثيق الأطعمة التقليدية. تستمر فعاليات المبادرة حتى الخامس والعشرين من فبراير القادم.في بداية المؤتمر، تحدثت د. منة الله الدري، منسق “طبلية مصر” عن المبادرة التي أطلقها المتحف القومي للحضارة المصرية، وقالت إن أولى فعاليات “طبلية مصر” تهدف إلى استكشاف العلاقة بين الآثار والطعام، وتوضيح دور المتاحف في المجتمع. وأكدت أن المتاحف لم تعد مقتصرة على عرض الآثار فقط، بل أصبحت مؤسسات تعليمية تساهم في توفير أنشطة وخدمات تلامس احتياجات المجتمع. وأضافت الدري: أن الطعام يعد جزءًا أساسيًا من الحضارة المصرية، ولذلك يتم تنظيم فعاليات متعددة بالمتحف، تستمر حتى نهاية شهر فبراير. وأشارت إلى أن هذه الأنشطة تسعى إلى إحياء الماضي من خلال تقديم وصفات تاريخية قد تكون مجهولة للكثيرين، بالإضافة إلى توثيق الحاضر للحفاظ على تراثنا الغذائي للأجيال القادمة.

د. منة الله الدري
د. منة الله الدري
تسجيل المطبخ المصري

من جانبها، قالت هند طه، منسقة فعالية “طبلية مصر” وأحد الأعضاء المؤسسين للمبادرة: “الفعالية تهدف إلى الاحتفاء بهوية وتراث مصر، وكل ما يعكس تاريخها وحضارتها، خاصة التراث غير المادي”. وتابعت: “من الضروري أن نعمل على الحفاظ عليه من خلال توثيقه بكل الوسائل المتاحة، وزيادة الوعي به سواء داخليًا أو ثقافيًا”. وعن هدف المبادرة أوضحت: “نحن نسعى لتسجيل هذا الموروث الحضاري، فالمطبخ المصري جزء لا يتجزأ من تراثنا الشعبي، بما يحتويه من عادات وتقاليد، وأوقات مميزة لتناول الطعام، وعلاقته بالأعياد والمناسبات”.

الطعام في التراث الشعبي

من هذا المنطلق، تحدث الدكتور مصطفى جاد، خبير التراث الثقافي اللامادي والعميد الأسبق لمعهد الفنون الشعبية، عن أهمية توثيق عنصر الطعام في التراث الشعبي. وقال: “الطعام ليس مجرد عملية تناول فقط، بل يتضمن العديد من الجوانب التي حاولت استعراض بعضها، لأن الطعام نفسه جزء من مجموعة عناصر أكبر يمكن تفريعها عند التوثيق. ويرتبط عصر الطعام بعشرات العناصر الأخرى”. وتابع: “لقد قسمنا التراث الشعبي إلى حوالي ستة موضوعات رئيسية تشمل العادات والتقاليد (الممارسات والاحتفالات والمعتقدات والمعارف الشعبية حسب تصنيف اليونسكو)، الأدب الشعبي أو المأثورات القولية، فنون الأداء الشعبي، الحرف الشعبية، وفنون التشكيل الشعبي، وأي عنصر شعبي يرتبط بهذه المجالات. علاقة الطعام بهذه الموضوعات”. وأوضح: “الطعام يعد رحلة متكاملة مع هذه العناصر. عندما ندرس العادات والتقاليد المرتبطة بالطعام، نجد أنها تشمل آداب المائدة، أماكن تناول الطعام، أكلات المناسبات، الوجبات اليومية، أكلات دورة الحياة، الهدايا الغذائية، وحتى القضاء العرفي المرتبط بالطعام”.

الدكتور مصطفى جاد : العميد الأسبق لمعهد الفنون الشعبية
أكلات دورة الحياة

واصل الدكتور مصطفى جاد حديثه قائلًا: “العادات والتقاليد هي جزء أساسي من الفولكلور، وهناك العديد من الموضوعات التي يمكن من خلالها دراسة الطعام”. وقدم مثالا عن أماكن تناول الطعام وأنها تختلف بشكل كبير حسب المكان؛ ففي الريف والواحات تختلف عن المدينة، لكن في النهاية يتجمع الكل حول المائدة. أما فيما يتعلق بوجبات الحياة اليومية، ففي محافظة مطروح، مثلًا، هناك خمس وجبات يومية تحمل أسماء مختلفة تمامًا. وأضاف: “تتعلق آداب المائدة بالكثير من التفاصيل، مثل دعوة الطعام، وجود اللحوم أو الطيور، ارتباط الطعام بالمناسبات الخاصة، وأيضًا آداب تناول الطعام مثل الأكل باليد اليمنى، وحتى تقبيل الطعام إذا وقع على الأرض”. وتابع حديثه عن أكلات دورة الحياة في الفولكلور، فهي تُقسم إلى ثلاث مراحل رئيسية: الميلاد، الزواج، والوفاة.

وأضاف: “في حالة ميلاد الطفل، هناك أطعمة ومشروبات خاصة مثل ‘المغات’ و’الفشار’. أما في الزواج، فتوجد طقوس وأكلات مثل ‘حلة الاتفاق’ التي تعدها أم العروس للعريس، وتحتوي على طيور ولحوم”. وفي حالة الوفاة، يتم إعداد ‘القرص’ لتوزيعها على المعزين، وتُعتبر عادات العزاء في الريف مرتبطة أيضًا بطعام يوم الوفاة، بالإضافة إلى طعام الخميس الأول والأربعين. وعلى حد وصفه، فإن أكلات المناسبات تعد جزء لا يتجزأ من الاحتفالات، مثل الكنافة في رمضان، والفسيخ في شم النسيم، والقلقاس والقصب في عيد الميلاد.

الدكتور مصطفى جاد : العميد الأسبق لمعهد الفنون الشعبية
الدكتور مصطفى جاد : العميد الأسبق لمعهد الفنون الشعبية
احتفالية صلح أهل واحة سيوة

أشار الدكتور مصطفى جاد إلى أن هناك العديد من الاحتفالات التي ترتبط بالطعام، بعضها يقتصر على مناطق معينة في مصر. مثال على ذلك، في واحة سيوة، هناك احتفالية تُسمى “احتفالية صلح أهل واحة سيوة”، وهي احتفالية تقام من خلال الطعام. وبحسب الرواية الشعبية، كانت القبائل الشرقية والغربية في سيوة في حالة خلاف، فطلب الشيخ مدني، أحد شيوخ القبائل الكبار، من شيوخ القبائل أن يلتقوا على قمة جبل الدكرور. وأثناء اللقاء، طلب منهم إحضار رغيف خبز من كل شخص، ثم قام بتقطيع الخبز وخلطه معًا، وطلب من الجميع أن يأخذوا لقمة منه، وقال لهم: “كل شخص يأكل قطعة خبز”. وبعد أن تناولوا الطعام، قال لهم: “ما أكلتموه من طعام بعضكم، فإنه يحرم عليكم الخصام”. وأضاف الدكتور مصطفى: “هذه الاحتفالية استمرت حتى اليوم في واحة سيوة، حيث يجتمع أهل سيوة في شهر أكتوبر، وفي نفس الأيام القمرية، لتجمع الطعام من بعضهم البعض ويصعدون إلى جبل الدكرور للمصالحة. هذه الفكرة تعتمد على الصلح من خلال الطعام”.

عادات الطعام في النوبة

انتقل الحديث في الجلسة الثالثة إلى عادات الطعام في النوبة، حيث تحدث عادل موسى، الكاتب الروائي والباحث في التراث الشعبي، عن خصوصية المائدة النوبية. وقال موسى إن اختيار النوبة لهذا الموضوع جاء لأن المطبخ النوبى يتميز بعادات وطقوس فريدة، وهو جزء لا يتجزأ من التراث الغني لمصر. وأضاف أن فكرة الاستدامة في ممارسات الطعام في النوبة تستمر من جيل إلى جيل، مما يعكس قدرة المجتمع على الحفاظ على تقاليده. افتتح عادل موسى حديثه مشيرًا إلى أن النوبة تمتلك تراثًا خاصًا وفريدًا، وأن الغذاء يعتبر عنصرًا أساسيًا في هذا التراث. وأوضح أن من يزور النوبة ويجرب طعامها في المطاعم هناك، سيلاحظ أن الأكلات ليست غريبة عليه، حيث أن الطعام النوبي ليس مقتصرًا على إعداد شخص نوبي فقط. وأشار إلى أن المطبخ النوبي يعرف في اللغة النوبية بـ”نولين دوكة”، وهو مصطلح يعني “بيت الدرج”، حيث يُعتبر المطبخ غرفة خاصة في المنزل، بل جزءًا أساسيًا من البيت، والـ”دوكة” تشير إلى نوع من الخبز.

وتحدث موسى عن أدوات الطعام في النوبة، قائلاً: “النوبين يستخدمون أدوات المطبخ المصنوعة من البيئة المحيطة، وهي غالبًا مصنوعة من الطين المحروق، سواء لتخزين الطعام أو لطهيه. حتى الفرن نفسه مصنوع من الطين المحروق”. وأضاف أن النوبين يستخدمون أيضًا “المصحن” لطحن الحبوب وتجهيز الأطعمة، بالإضافة إلى طحن العطور من الزهور والخامات الطبيعية. كما يستخدمون أطباقًا من الخوص، التي لها أسماء متعددة، لتقديم الطعام، سواء لتغطية الأطباق أو لوضع الخبز. وأشار موسى إلى صوامع التخزين التي يستخدمها النوبين لحفظ الحبوب، حيث يتم غلقها من الأعلى ولها فتحات من الأسفل لاستخدام الحبوب القديمة أولًا.

عادل موسى : باحث في التراث الشعبي
عادل موسى : باحث في التراث الشعبي
توثيق الأكلات النوبية

وأشار عادل موسى إلى بعض جوانب الطعام النوبي، مشيرًا إلى أن الثلاجة التقليدية في النوبة كانت تُسمى “الشعلوب”، وكانت تصنع من الخوص والحبال وتستخدم لحفظ الطعام بشكل طبيعي دون أن يفسد. وأضاف أنه قام بتوثيق الأكلات النوبية وتقسيمها، مثل “منيو” الطعام الذي يشمل الأطباق الرئيسية والحلويات وغيرها، ما أتاح له فهم مكانة الأطباق النوبية وتأثرها بالبيئة المحيطة. وأوضح موسى أن المخبوزات النوبية، مثل “الكلفتي” التي تُسمى أيضًا “الكابد”، تعد عنصرًا أساسيًا في البيت النوبي. ومن المخبوزات الأخرى الهامة “الشيلد”، التي تحتوي على قيمة غذائية كبيرة. وقد وثق موسى حوالي 40 طبقًا نوبيا، من بينها أشهر الأطباق مثل “الجاكود” أو “الآتر”، بالإضافة إلى “الكودبيه” التي تُعد من البامية الجافة.

كما تحدث عن الحلويات النوبية، مثل “مربى الكركديه”، التي تعتبر أكلة قديمة لا يعرفها الكثير من النوبين، حيث يتم استخراج المربى من زهرة الكركديه. وقد تمكن موسى من توثيق هذه الوصفة من سيدة مسنّة. وأشار موسى أيضًا إلى “أكلة كرم مديد”، التي تُعد من الحلبة وتُعتبر مهمة للسيدات بعد الولادة، حيث يُستخدم هذا الطعام في طقوس خاصة، مما يبرز ارتباط الأطعمة النوبية بالمناسبات والمعتقدات الشعبية. ووثق بعض مشروبات النوبة التقليدية، مثل “شاي اتشيكول” و”مشروب الابريه” الشهير في النوبة، الذي يعتمد في تحضيره على الليمون. كما ذكر مشروب “الأراديب”، الذي يشبه التمر هندي، و”مشروب البقنينة” الذي يتم تحضيره من التمر المجفف.

عادل موسى : باحث في التراث الشعبي
7 لُقَمٌ لملائكة النهر

ارتبط الطعام في النوبة بالاحتفالات، تحدث عادل موسى عن بعض العادات والطقوس المرتبطة بالمناسبات في النوبة، مشيرا إلى تقليد قديم في مناسبة “السبوع”، احتفالا بمولود جديد، يتم فيه عمل “زفة للنهر” وغسل وجه المولود ثم رمي 7 لُقَمٌ في النهر كهدية لملائكة النهر. كما تطرق موسى إلى طقوس الوفاة في النوبة، من بينها تقليد قديم في القرى النوبية، عبر اختيار الأيام القمرية بعد وفاة شخص من القرية. وفي تلك الأيام، كان يتم إرسال طعام لعابري السبيل كجزء من العزاء. وأشار أيضًا إلى أن في الأعياد، كان أهل القرية يتجمعون في مكان كبير، حيث يتم استقبال الضيوف من جميع القرية وتقديم الطعام لهم،  وأن مشروب “الأبريه” كان جزءًا من تقاليد رمضان في النوبة.

هدير أحمد: مدير المشروعات في مؤسسة نوايا
 أكلات الريف المنسية

انتقلت هدير أحمد، مدير المشروعات في مؤسسة نوايا، للحديث تجربة فريدة أطلقتها المؤسسة في الريف المصري، حيث عرضت مشروع “وصفات تقليدية من البدرشين” الذي تم إطلاقه العام الماضي. وأوضحت هدير أن مبادرة نوايا، وهي مبادرة شبابية تأسست في عام 2011، بدأت تركيزها على الزراعة، وركزت في البداية على العمل مع الفلاحين الرجال، لكن سرعان ما لاحظت غياب دور السيدات. حتى التقت لورا، مؤسسة المبادرة، بسيدة كانت تتسلق النخيل وتحصد البلح، ومن هنا بدأت أولى مشاريع المؤسسة المتعلقة بالطعام، مع السيدة “أم عبدالله” التي كانت نقطة الانطلاق لهذا المشروع. وأضافت هدير أن المؤسسة بدأت في التركيز على توثيق الأكلات التراثية من مصر، خصوصًا من منطقة البدرشين، حيث تم إطلاق مبادرة لتسليط الضوء على الأكلات التقليدية التي كانت مفقودة أو غير معروفة في المدينة، رغم أنها جزء من التراث المحلي.

أيام للتذوق

تحدثت هدير أحمد عن جهود مؤسسة نوايا في جمع الوصفات التقليدية من منطقة البدرشين، مشيرة إلى أنهم بدأوا في تنظيم “أيام للتذوق” في مطبخهم لتقديم الأطباق التقليدية، مثل “الشيش باللحمة الجملي” وأنواع مختلفة من البصارة، مثل بصارة العدس بالكوسا وبصارة الفول بالملوخية الناشفة، إلى جانب العديد من البصارات الأخرى التي لم تكن معروفة بشكل واسع. وهدف المبادرة السماح للسيدات بالطبخ خارج منازلهن، بل أيضًا جمع المجتمع المحلي حول هذه الأطباق لتجربتها معًا. وقالت إنهم تمكنوا من الوصول إلى عدد كبير من السيدات من خلال هذه الفعاليات، ونجحوا في تطوير وصفات وقوائم طعام تعكس مفهوم الموسمية، حيث قدموا الأكلات في أيام مجتمعية، كما في أحد الأيام عندما قدموا أكلة تسمى “الطُبيعة”، وأخبرهم أحد الحضور أنه لم يتناولها منذ 40 عامًا. كما أضافت هدير أنه كان من المهم بالنسبة لهم توثيق هذه الأكلات وتجربتهم من خلال تقديمها لمجتمعات محلية أخرى، ولخدمة هذا الهدف، تم جمع كل هذه الوصفات والمعلومات في دليل مشروع “سياحة الطعام” الذي يهدف إلى نشر التراث الغذائي المصري.

عادات أكل الأعيان في 100 عام

لم يقتصر المؤتمر على مناقشة موضوع توثيق الطعام من حيث ارتباطه بالمكان فقط، بل تضمن أيضاً جلسة مميزة تناولت توثيق عادات الطعام لفئة معينة من المجتمع على مدار 100 عام. وقدمت الباحثة م. شهيرة محرز، المعمارية والمتخصصة في توثيق التراث المصري خاصة الأزياء والحلي ودراسات عن الطعام، دراسة اجتماعية في جلسة بعنوان “توثيق أهم عادات الطعام في العاصمة من أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين”.

وقالت محرز خلال الجلسة: “مشاركتي تهدف إلى تسليط الضوء على أصول الطهي التي كانت سائدة في شبابي لدى فئة من المجتمع المصري التي تم تهميشها بعد عام 1952، وسميت بالعهد البائد أو الطبقات الرجعية”. وتحدثت عن جانبي الطهي “شعبي وفاخر” وقالت: “للأسف، لم يتم توثيق الجانب الفاخر بسبب تسميتنا بالعهد البائد، وطرحت في أعمالي العديد من الأساليب الحياتية التي كانت سائدة في مصر قبل أن تختفي، وتم تصويرها بشكل غير دقيق في الأفلام والمسلسلات المصرية، مما أدى إلى تشويه الواقع”. وأضافت: “على الرغم من أن دراستي ليست أكاديمية في مجال المأكولات، إلا أنني أعتبر نفسي شاهدة على عصر قد اختفى. ما أقدمه هو محاولة لتوثيق جزء من تاريخ المجتمع المصري الذي اندثر دون تنسيق أو اهتمام”.

أواني الطهي من “الدقية” لـ “الحلة”

بدأت الباحثة شهيرة محرز حديثها بالتركيز على ثلاث محاور رئيسية: أولاً، الأواني المستخدمة في الطهي في منازل الأعيان، التي كانت تختلف عن تلك الموجودة في قصور الأمراء. الأعيان كانوا طبقة قريبة من الحكام، لكنهم لم يكونوا من الطبقة الحاكمة. ثانيًا، تحدثت عن المائدة اليومية في منازل الأعيان في القاهرة. وأخيرًا، سلطت الضوء على مائدة المناسبات العائلية التي كانت تجمع بين عشرات الأفراد، ولكنها لم تكن مخصصة للمناسبات الكبرى. وتابعت: “فيما يخص الأواني، كانت تسمى “دقية” وليس “حلل”. كانت الأواني تتميز بتصميم يسمح برص الخضار داخلها، ثم يتم طهيها وتقليبها وتزينها”. عرضت أيضًا طبقًا اختفى من المائدة المصرية يُسمى “سبانخ بالروس” أو “دقية السبانخ”، وهو كان يتضمن طهي أعناق أوراق السبانخ، التي تُرص داخل الدقية وتُطهى، ثم تُقدم على مائدة أصحاب البيوت.

المساعدين في منازل الأعيان “العيلة”

أما بالنسبة للخضار، كان يتم تحضير “دقية” ثم يُطهى من نفس الخضار أكل يسمى “الخضار الواسع” يشبه طهي الطعام الآن وهي كانت تُصب في السلطانية وتُقدم للعاملين في المنزل. وأشارت إلى أن العاملين لم يكن يُطلق عليهم مصطلح “الخدم” أو “الشغالين”، بل كانوا يعتبرون جزءًا من العائلة، وكان الطعام الذي يُعد لهم يُسمى “أكل العيلة”.

وقالت: “من المهم هنا أن أشير إلى أن مصطلح “خادم” لم يكن يحمل المعنى الذي يحمله اليوم، بل كان يشير إلى فئة عالية من الناس”. وفيما يخص المائدة اليومية، كان يتم تقديم الخضار المطبوخ على مائدة الأعيان، وكذلك “أكل العيلة” الذي كان يتضمن اللحوم أربع مرات في الأسبوع. وأضافت: “في شبابنا، كانت اللحوم ما زالت رخيصة، وكنا ننادي المساعدين بالمنزل بلقب “يا عم فلان” أو “يا أسطى فلان”، وهو لقب كان يُستخدم بفخر ويعبر عن تقدير مهارات الناس. وفي رأيي، كان هذا اللقب أكثر احترامًا من مصطلح “الشيف” الذي أصبح شائعًا اليوم”.

م. شهيرة محرز معمارية ومتخصصة في توثيق التراث المصري
مائدة أكل الأعيان

تحدثت الباحثة عن طبق قديم من أكلات الأعيان اختفى مع مرور الزمن، وهو “القلقاس الأحمر” أو “القلقاس باللحم المفروم”. كان يتم تحضيره بتقطيع القلقاس إلى شرائح، ثم يُقلى ويُطهى مع اللحم المفروم، ليُقدم مزينًا على المائدة. وهذا يختلف عن “القلقاس الواسع” الذي نعرفه اليوم والمطهو مع صلصة خضراء. هذا الاختلاف يوضح كيف أن بعض أنواع الخضار التي ما زلنا نأكلها اليوم، اختفت وصفاتها الأصلية.

كما تحدثت عن طبق آخر اندثر وهو “دقية الفول الأخضر”، الذي كان يُطهى كدُقية ثم يُزين ويُقدم. وأشارت إلى أن جميع الأكلات اليومية كانت تُزين بشكل مميز، مثل “دقية الكوسة البيضاء”، التي كانت تُقطع وتُزين بطريقة خاصة. ومن الملفت أن الطماطم لم تكن جزءًا من هذه الأكلات، كما أن الكوسة كانت تُعد لأسرة “العيلة” وتُعَدد بزخرفة معينة. تحدثت الباحثة عن عنصر آخر غاب عن المائدة المصرية حينها، وهو الدجاج والطيور بشكل عام، حيث كان يتم تربيتها في المنازل لأغراض عائلية، ولم تكن تُباع كما يحدث اليوم. وأوضحت: “كان في المجتمع المصري استخدام مصطلح شعبي مثل “فرخة بكشك” للدلالة على شخص عزيز للغاية، لأن الدجاج كان من الرفاهيات وغاليًا في ذلك الوقت”.

كما تناولت بعض الأطباق التقليدية التي كانت تُعد في “الدقية”، مثل “الكرنب المحشي”. كان يتم حشو الكرنب بنفس الطريقة التي يتم بها حشو “العمة”، ثم يُلف بورق الرنب ويُطهى في الدقية حتى يُقطع مثل التورتة. وتحدثت عن كيفية تزيين البروتينات مثل الكشك، التي كانت تُزين أيضًا بالبصل المفروم بشكل دقيق. من الأطباق التي اختفت تمامًا من الموائد، ذكرت الحمام المخلي، الذي كان يُحشى باللحم البتلو ويُطهى على البخار. كان هذا الطبق جزءًا من تقاليد تناول الطعام التي تعود إلى العصور المملوكية والعثمانية، حيث كانت تتم تزيين الأواني بشكل مميز يعكس عراقة هذه الفترة.

الاندماج مع الغرب حتى منتصف القرن العشرين

تحدثت الباحثة شهيرة محرز عن فترة بدأ فيها الاندماج مع الغرب، حيث بدأت الفئات المميزة في المجتمع المصري بالتعاون مع دول مثل فرنسا وإنجلترا لتصنيع أواني حديثة، لكنها كانت تحمل طابعًا محليًا. وبينت أن هذا الاقتباس من الغرب كان وثيقًا حتى منتصف القرن العشرين، حيث كان هناك تبادل ثقافي بين تقاليدنا وحضارات الغرب، مما ساهم في نمو وتطور كل منهما.

وأضافت: “للأسف، لاحظت أنه في الوقت الحالي، لا يوجد احترام للهوية الثقافية في العديد من جوانب حياتنا، سواء في التراث أو المباني أو تخطيط المدن أو حتى الأطعمة، مما جعل الكثير من هذه الجوانب تفتقر إلى هويتها الأصلية”. وأشارت إلى أن بعض الأطباق الكبيرة كانت تُعد خلال المناسبات الخاصة، مثل دعوات منزل العروس، والتي كانت تستضيف بين 10 إلى 30 فردًا. وكانت الأواني الخاصة بتقديم الطعام لها شكل مميز يعكس التراث المصري. مقارنةً بين الأطباق الصغيرة والكبيرة. وحملت الأواني سمات تراثية خاصة، وتقديم أطباق معينة مثل طبق الديك وطبق الفخذ وطبق السمك وطبق الأوزي، بالإضافة إلى الأطباق المستديرة التي كانت تُعد للدقيات، والتي تعود جذورها إلى العصور الفاطمية وحتى أواخر المماليك، وكانت تتميز بالزخارف الفريدة. وأكدت محرز أنها ليست ضد الاقتباس من الغرب، بل على العكس، فإننا يجب أن نأخذ منهم كل ما هو مفيد. ولكن ما يعيب الأمر هو أن نصفي تراثنا ونتجاهل هويتنا الثقافية. كما تناولت التغيرات التي شهدتها الأكواب، حيث انتقلت من الأكواب المعدنية إلى الأكواب الزجاجية المزخرفة.

مفارش تزيين موائد الأعيان

تطرقت الباحثة شهيرة محرز لتطور طريقة تناول الطعام في مصر، مشيرة إلى أن المائدة اليومية في المنازل كانت تُفرش على طاولة، ومع بداية أواخر القرن 19 تغيرت أساليب تناول الطعام. ففي الريف، كان الأهالي يجتمعون حول “طبلية خشب”، بينما كانت الطبقات الرفيعة، من الفاطميين إلى أواخر المماليك، يتجمعون حول صينية نحاس أو فضة.

وعندما بدأنا نأكل على الترابيزة أو السفرة، بدأنا نستخدم المفارش التي كانت تُصنع من قماش بسيط، وكانت هذه المفارش تُغسل وتستخدم بشكل عملي دون القلق من قيمتها، على عكس المفارش الفاخرة. وأشارت محرز إلى أن هناك نوعًا آخر من السفرة كان يُستخدم لدعوات الأصدقاء أو المناسبات الرسمية، حيث كانت تُستخدم مفارش مطرزة تُستورد من الشام وتُسمى “مفارش الأغابان”. وكانت تلك المفارش تتميز بتطريز بسيط للغاية على خلفية بيضاء، وكان يطرز عليها خيوط ذهبية أو فضية، أو أحيانًا ألوان أخرى. وأضافت أن بداية القرن العشرين شهدت تقاربًا بين مصر ولبنان وسوريا، حيث كانت هذه الدول تشكل وحدة ثقافية واحدة، مما أدى إلى تشابه بعض الطقوس والأطعمة بين البلدان الأربعة. كما تحدثت عن المفارش التي كانت تتميز بالتطريز العثماني، وكذلك الفوط التي كانت تُزخرف وتوضع على السفرة بشكل مميز، مثل الزخارف التي تمثل العصافير أو المراكب، مما يعكس الذوق الفني والتقاليد الجميلة في إعداد وتقديم الطعام.

انتقلت إلى تطور الموائد من الحجم إلى الموائد الكبيرة التي كانت تُعد للمناسبات الكبرى، مثل الأفراح أو عندما يحصل صاحب البيت على لقب “الباشاوية”. وكانت هذه المناسبات تُنظم في السرادقات، حيث كانت الحدائق المحيطة بالمنازل، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تسهم في تهوية البيوت وتوفير جو صحي. وأوضحت محرز أن السرادق كانت تُجهز كأنها قاعات كبيرة، وكانت تُستخدم بشكل مميز في تلك الفترات. وعرضت صورًا تُظهر كبار الشخصيات في مناسبات تُقام في سرادقات خلال الستينات، مشيرة إلى أن بعضها كان يرتفع بشكل يعكس فترة المماليك، بينما كان هناك أيضًا سرادق خاص بثورة 1952.

وعقدت مقارنة بين تصميم السرادق وزخرفة الكسوة الرخامية الموجودة في المساجد المملوكية، مثل الزخارف الموجودة في مدخل جامع ومدرسة السلطان حسن من القرن الرابع عشر. وأضافت أن تطعيم الرخام أصبح جزءًا من قماش الخيامية الذي استمر حتى القرن العشرين، ولكن اليوم، للأسف، أصبحت السرادقات تُصمم بطرق بعيدة تمامًا عن تراثنا. كما استعرضت صورة أخرى تُظهر طريقة معاملة صاحب الاحتفالية للمساعدين في المنزل في الثلاثينات، حيث يظهرون أمام أطباق الفاكهة، بينما يتوسطهم صاحب الاحتفالية. وكانت هذه اللحظات تمثل تقديرًا خاصًا للعاملين في البيت، الذين كان يتم تجهيز موائد خاصة لهم للاحتفال مع العائلة والضيوف.

الدكتورة جيهان نبيل، مدير القسم التعليمي في المتحف المصري الكبير
الطعام والتراث الثقافي غير المادي

اختتمت الجلسة الأخيرة من المؤتمر عن الطعام والتراث الثقافي غير المادي، وتحدثت الدكتورة جيهان نبيل، مدير القسم التعليمي في المتحف المصري الكبير، وهي خبيرة في مجال التراث الثقافي، عن أهمية الطعام في حياة الإنسان وتاريخه. وأكدت أن الطعام ليس مجرد جزء من التراث، بل هو أسلوب حياة يندمج بشكل وثيق مع الممارسات الاجتماعية للإنسان. وأضافت أن الطعام يُعد من العناصر غير المادية للتراث، لأنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسلوك الإنسان وتفاعلاته، ويُعتبر جزءًا من الديناميكية المستمرة للتراث.

وأوضحت أن تصنيف التراث إلى مادي وغير مادي يعود إلى اتفاقية اليونسكو لعام 1972، التي خصصت التراث المادي للأشياء مثل المعابد والمقابر، ولكن الاتفاقية لم تغطِ كل جوانب التراث. لذلك، في عام 2003، تم وضع اتفاقية جديدة خاصة بالتراث الثقافي غير المادي، التي عرفت هذا النوع من التراث بأنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإنسان والممارسات الاجتماعية في كل زمان ومكان. وأكدت أن التراث الثقافي غير المادي له دور كبير في تعزيز الهوية الثقافية للمجتمعات المختلفة، وأنه لا يمكن الاعتراف به إلا إذا اعترفت به المجتمعات نفسها. وأضافت أن اتفاقية 2003 تناولت عدة مجالات للتراث الثقافي غير المادي، مثل أساليب التعبير الشفهي بما في ذلك اللغة كوسيلة لنقل التراث، وفنون الأداء، والممارسات الاجتماعية المتعلقة بالطقوس والاحتفالات، بالإضافة إلى المعرفة والممارسات المرتبطة بالطبيعة والكون، والحرف التقليدية.

اقرا أيضا: 

د.سامح حنا: «ترجمة الكتاب المقدس».. السفر إلى النص في زمنه واستدعاؤه في زمننا

 

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر