«تاريخ الغناء الشعبي».. التاريخ المنسي للأغنية المصرية

قليلة هي الكتب التي تتناول الغناء الشعبي في مصر بالنقد والتحليل، لكن جاء كتاب “تاريخ الغناء الشعبي” للدكتور ياسر ثابت ليسد العديد من الثغرات. صدر الكتاب عن دار دون في القاهرة. حدد المؤلف كتابه بأنه سيتناول الغناء من الموال إلى الراب. المؤلف ينطلق من أن أغاني المهرجانات نسفت الحد الفاصل ما بين الفن الرفيع والفن الشعبي، وانتقلت بالجمهور من الرغبة الواعية إلى الرغبة المكبوتة، بمختلف تمثلاتها. وعملت على إطلاق سراح الثقافة الشعبية من الحدود المفروضة عليها، فصار بوسع هذه الأغاني أن تتناول أية ظاهرة أو مسألة أو موضوع، بريئا كان أو لم يكن، مستبعدا ومهمشا ومحرما أيضا. لهذا، فإن قدرتها على التأثير، سواء من حيث سهولة تداولها وانتشارها، أو من حيث كونها قصيرة وقادرة على إيصال الرسالة بعبارات قليلة جدا، تجعلها أداة للتغيير بالغة التأثير.

لكني أتفق مع المؤلف في أن الغناء الشعبي هو مغامرة بالخيال، عابرة للمعاني المباشرة، تقف على جسور ممتدة الأمكنة والأزمنة، لتحتفي بالتناقضات البشرية، وهي تحال في الوقت نفسه امتلاك المائز في عالم الغناء.

***

نرى ياسر ثابت يقدم سمات عامة لما يسميه الغناء البلدي في مصر، فيحصر هذه السمات على النحو التالي:

الغناء البلدي هو الغناء المعبر عن البيئة المحلية، حيث ينسب لأصل البلد، فيقال غناء قبلي أو غناء بحري، ويغلب على هذا الغناء الصنعة والارتجال، ويؤديه مطرب محترف بالزي البلدي.

شكل الفرقة الموسيقية تغير نوعا ما، وذلك بإضافة بعض الآلات مثل الأكورديون والقانون والأورج.

هناك مقامات لم تستخدم مثل مقام السيكا، ومقامات نادرة الاستخدام، ومقامات تستخدم كثيرا مثل راست وبياتي.

بعض المطربين يستخدمون مقاما واحدا في الغناء.

تراوحت المساحة الصوتية للغناء بين درجتي العراف والسهم للرجال، ودرجتي البكاه والمحير للسيدات.

غالبية المطربين يغنون من تأليفهم وتلحينهم، ولديهم قدرة فائقة على الارتجال.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
ومن المطربين الذين تناولهم المؤلف:

بدرية السيد: (1930– 1989) ولدت في الإسكندرية، شجعها صوتها على التقدم لإذاعة الإسكندرية عام 1954 فأجازتها الإذاعة، لكن بتوصية بأن تغني اللون الريفي وليس الشعبي. لكن نجح الملحن محمد الحماقي في تهذيب صوتها وغير فرقتها الموسيقية، ولحن لها فانطلقت. من أشهر أغانيها: (إدلع يا رشيدي على وش المية)، (فاتو الحلوين)، (طلعت فوق السطوح)، (صعيدي ولا بحيري).

محمد طه: مطرب من طهطا ولد عام 1922، كان يرتجل على خشبة المسرح. تصادف أن استمع له الإذاعيان طاهر أبوزيد وإيهاب الأزهري وهو يغني في مقهى “المعلم علي الأعرج” بالحسين، واصطحباه إلى الإذاعة حيث سجل عددا من المواويل. لكن اعترض حسن الشجاعي عليه، وأعاد عارف الحجاوي فتح باب الأمل له حين ضمه لفرقة الفلاحين للفنون الشعبية، واصطحبه جلال معوض لغزة في حفلة “أضواء المدينة”، فاستحوذ على الجمهور. وغنى لأهل غزة ما يلي:

“يا رايح فلسطين حود على أهل غزة

تقعد مع أهل الكمال تكسب وتتغذى

وسلم على يوسف حاكم قطاع غزة

وقل له إحنا البواسل

سيوفنا في قلب اليهود غارزة”.

***

أحمد عدوية: يذهب البعض إلى أن أحمد عدوية المولود 1945 هو الأب المؤسس للغناء الشعبي في مصر، فقد شكل قطيعة مع أصحاب الذوق المحافظ المقولب سلفا. وفي الوقت نفسه، شكل قطيعة مع أشكال الغناء الشعبي التي كانت سائدة وقتها مثل المونولوج والزجل والملاحم والإنشاد الصوفي. حافظ عدوية على الموال كقالب. بدأ عدوية مشواره الفني بكلمات وألحان الريس بيرة، أحد رواد شارع محمد علي.

وهذه التجربة كانت تعبر عن الجانب العبثي في مصر في خلال الفترة ما بعد هزيمة 1967. اعتمدت تجربة عدوية الغنائية على كلمات كان وقعها السمعي جديدا وغريبا وخفيفا، تدعو إلى المرح مثل: “السح أدح إمبو” و”قرقشندي دبح كبشه” وغيرها.

يرجح المؤلف أن الواقع السياسي المصري في فترة ما بعد هزيمة يونيو 1967 ألقى بظلاله على المفهوم والمضمون الخاص بالأغنية الشعبية. دفع الواقع المؤلم البعض لتخريج فن يهدف إلى الترفية الخالي من المضمون. قدم أحمد عدوية في بداياته كلمات هوجمت من النقاد والصحافة، على الرغم من اعترافاتهم بأنه يتمتع بصوت مميز. لكنها لاقت قبولا لدى الجمهور، لأنها كانت نغماتها الحزينة والشجن في بعض الأحيان توائم الطابع الاجتماعي الحزين بعد الهزيمة، وفي أحيان أخرى كانت تضيف البهجة التي تُنسي واقع الهزيمة المرير.

***

كرس عدوية نجومية مطربي الكاسيت وصنع شرعيتها التي لم تكن موجودة من قبل. ومن أبرز الأغنيات التي قدمها عدوية في أثناء فترة هزيمة 1967 أغنية “سلامتها أم حسن م العين وم الحسد”، التي استوحت كلماتها من موروث المعتقد الشعبي. وحققت نجاحا استثنائيا إذ وصل توزيعها لمليون شريط كاسيت. كما عبرت أغنية “زحمة يا دنيا زحمة” عن واقع مصر بعد الانفتاح الاقتصادي.

وختاما لهذا الكتاب الشيق الذي يسرق قارئه، يرى المؤلف أن موسيقى الراب هي شكل من أشكال مقاومة أنظمة القهر التي خلفت تناقضات طبقية. وهو ما يراه ضرورة لدراسته لأنه كاشف لمشكلات عميقة في المجتمع.

اقرأ أيضا:

خالد عزب يكتب: «موسوعة القرافة».. التوثيق قبل الاندثار

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر