بين دمشق والقاهرة: أين دفنت السيدة زينب؟
أقيمت مؤخرا ندوة بدار المرايا تحت عنوان: «السيدة زينب: حي الأساطير والوقائع والتاريخ الملتبس»، والتي قدمتها الدكتورة زينب أبو المجد، أستاذة تاريخ الشرق الأوسط بجامعة أوبرلي. تهدف الندوة إلى استكشاف جوانب جديدة من حياة السيدة زينب، والبحث في الروايات المختلفة المتعلقة بمكان وفاتها ودفنها.
إشكاليات
وخلال الندوة، قالت أبو المجد إن هناك العديد من السرديات حول وفاة السيدة زينب، منها رواية تقول إنها دفنت في دمشق، وأخرى في القاهرة. فقد تعايشنا دائمًا مع التاريخ الملتبس والروايات الكثيرة التي زعمت وجود السيدة زينب في القاهرة ودمشق. لذلك أردت البحث عن إجابة حول هذا السؤال للتعرف على سبب الالتباس الذي يزعم أنها مدفونة هنا وهناك.
وتتابع: هناك إشكالية أخرى، وهي أن مصر دولة سنية، لكن عدد المنشآت التي تعود لآل البيت بداخلها كثير. ولذلك فإن تعاطي المسلمين السنة مع منشآت آل البيت لا يختلف كثيرًا عن تعاطي الشيعة معها، فيما عدا فكرة مجالس الحسينيات والزينبيات ومثل هذه الممارسات التي تتم في العراق ولبنان وإيران. فالألغاز والحكايات التي تحوم حول السيدة زينب تتجاوز تاريخ المسجد والمنطقة كلها. إذ أن قبر«زينب» يقع كبناية إشكالية في قلب صراع الماضي والحاضر.
ففي مصر يمكن دراسة المقام من مداخيل عدة كالعادات والثقافة الشعبية، أو من خلال التعرف على التاريخ المعماري للمقام والمسجد، أو تحليل المجتمع المحلي والسكان المجاورين للمقام. وهذه كلها مداخل مهمة، لكن بشكل شخصي، فأنا مهتمة بمدخل التاريخ السياسي للمقام، الذي يمد خيطًا بين أحداث جرت في سنة 62 هجريًا، أي تاريخ وفاة السيدة زينب، وأحداث تجري اليوم في عصرنا الحالي.
كتابات المقريزي
وتستطرد أبو المجد: لم يقم المقريزي في كتاباته بذكر مقام السيدة زينب ضمن المزارات التي كتب عنها في خططه. فقد جاء المقريزي بعد ثمانية قرون من وفاة «زينب». بينما تحدث عن مشاهد السيدة نفيسة والسيد زين العابدين. يخبرنا مثلًا عن قصة مقتل الحسين، لكنه لا يذكر أن «زينب» جاءت إلى مصر. وبالتالي لم تكن المنطقة الموجودة اليوم تعرف باسم «السيدة زينب»، بل كان اسمها هو «خط السباع». وقد أنشأ الظاهر بيبرس في هذه المنطقة قناطر منقوشة بسباع من الحجارة، لذلك سميت بهذا الاسم. وقبل ذلك، عرف الحي باسم «الحمراء القصوى». أي أن المقريزي لم يذكر عنها شيئًا، ولو كان الفاطميون يعرفون أنها في مصر لكان الأولى لهم بناء مقامًا لها.
أما بالنسبة للجبرتي، الذي عاصر فترة الحكم العثماني في مصر، فيخبرنا أن أول من فكر في بناء مقام خاص بالسيدة زينب كان الأمير المملوكي عبد الرحمن كتخدا سنة 1760 ميلاديًا؛ أي بعد ألف عام من وفاتها. وبعد ذلك، جرى ترميمه على مدار السنوات التالية. لكن الشاهد هنا أن المنطقة حتى وقت الجبرتي لم تعرف باسم السيدة زينب، إذ كان اسمها أيضًا قناطر السباع، تمامًا كما ذكر المقريزي.
وبعد مائة عام من ذكر الجبرتي، جاء علي باشا مبارك وأطلق على القناطر في كتاباته اسم قناطر «السيدة»، وعرف الشارع باسم السيدة زينب. لكن حين تحدث الجبرتي عن تاريخ إنشاء الضريح ذكر أنه قد تم تنفيذه في فترة لاحقة على وفاة المقريزي. بينما تحدث أيضًا علي مبارك عن محاولة الدولة خلال عهد أسرة محمد علي باشا في إدماج الحي مع الأحياء الأخرى الموجودة داخل القاهرة، وضبط سكان الحي بعد أن ازدات أهميته بالنسبة للدولة.
طقوس شعبية
وتضيف أبو المجد: بخصوص تاريخ بناء مسجد السيدة زينب في دمشق فهو على نفس الدرجة من الضبابية، فالمقام موجود في ريف دمشق. ويقال إنه جرى بناءه سنة 500 هجريًا، أي بعد أكثر من أربعة قرون من وفاتها. فإنشاء المقام جاء بعد زوال العصر الفاطمي، وبالتالي، فإن الفاطميين الذين حكموا دمشق والقاهرة لم يهتموا ببناء مقام لها في مصر أو الشام. وفي سنة 1367 ميلاديًا، أوقف نقيب الأشراف في الشام ما يملكه من أوقاف لتجديد المقام. وتمر خمسة قرون أخرى في الشام، ويأتي رجل اسمه السيد موسى، فيبني حائطًا حول المقام. ثم قرر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني إعادة بناء قبة المقام. إلى أن بدأ المسجد في خمسينيات وستينيات القرن الماضي يأخذ الشكل الذي هو عليه الآن؛ أي عندما قام الأثرياء والتجار الإيرانيون بإعادة ترميمه وزخرفته وتوسعة الصحن.
وتكمل: خلال الحكم البعثي العلماني لسوريا، توسع المقام بشكل أكبر، وتزايد عدد سكان المنطقة، وفتح حافظ الأسد المقام للحجاج الشيعة لزيارته سنويًا، وظهر ذلك جليًا عقب الثورة الإيرانية في الثمانينيات، وأيضًا خلال عهد بشار الأسد. وقد تطورت الطقوس الشيعية والاحتفالات في أعقاب الثورة السورية ومع استعانة بشار الأسد بالإيرانيين.
روايات مختلفة
وتستطرد أستاذة تاريخ الشرق الأوسط: لمعرفة أصل القصة حول مكان دفن السيدة زينب، سواء في الشام، أو القاهرة، أو غيرهما من المدن، يجب العودة أولًا لسنة الوفاة؛ أي سنة 62 هجريًا. فقد أصر الحسين على اصطحاب سيدات آل البيت إلى الكوفة، وخرجت معه أخته زينب بنت علي. وهناك حاصر عسكر يزيد الحسين وآل البيت في كربلاء وقتلوا كل الرجال، وأخذوا النساء والأطفال إلى قصر يزيد. أي أن هناك عاما كاملا عاشته السيدة زينب في ظل هذه الظروف ما بين عام 61 هجريًا وتاريخ وفاتها 62 هجريًا.
تختلف الروايات، فهناك من يقول أن مواجهة حادة حدثت بين «زينب» و«يزيد» بعد أن وصلت إلى بلاطه في دمشق، وأنها أرسلت لحريم القصر. وجرى تخصيص جنازة للحسين هناك وبكته هي وسيدات بني أمية. ثم ذهبت للمدينة أي وسط أهلها من الهاشميين، وتوفيت هناك وسط أهلها بالمدينة المنورة. وهذه الرواية تتفق مع المنطق، لكن المعضلة أن منطقة البقيع لم يكن معروفا بداخلها قبر للسيدة زينب.
أما بالنسبة للرواية الثانية، فهي تقول إن زوجها عبد الله بن جعفر كان على علاقة جيدة بالأمويين، وكان له بستان قرب دمشق، وأن زينب ذهبت معه هناك ودفنت بالقرب من البستان، أي في ريف دمشق. وربما يكون هو الموضع نفسه الذي بني فيه المقام بعد وفاتها بنحو ربعمائة عام بدمشق. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الدافع وراء عودة السيدة زينب مرة أخرى إلى دمشق التي حكمها يزيد؟ فهذه الرواية لا تتفق أبدًا مع المنطق.
مكانة «زينب» السياسية
وتكمل أبو المجد: هناك رواية أخرى ثالثة تقول إن السيدة زينب عندما عادت إلى المدينة مرة أخرى أخذت تحرض الناس على يزيد؛ وبناء عليه، طلب يزيد من والي المدينة أن يخلصه منها، فأرسلها إلى مصر في الفسطاط وأسكنها في منطقة الحمراء القصوى. ويقال إنها دفنت في بيت مسلمة بن مخلد، وهو أحد الأنصار لكنه انحاز لصف معاوية وكان واليًا على مصر. لكن المعضلة الأخرى هي: لماذا لم يوضع لها شاهد قبر يحمل اسمها إذا كانت قد توفيت بالقاهرة؟ ولماذا لم يبنٍ لها الفاطميون ضريحًا كما فعلوا مع أخيها الحسين؟ ولماذا انتظروا طيلة هذه القرون الطويلة لبناء ضريح لها؟ لذلك، فالإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن حلها أبدًا.
فضلًا عن وجود مسألة أخرى، وهي: ما الأهمية السياسية لزينب حتى يصبح مقامها مثارًا لهذا الجدل في دمشق، وبخاصة أن هناك اهتمامًا كبيرًا من شيعة إيران، ولبنان، والعراق؟ فمكانة السيدة زينب السياسية تنبع في الأساس من كونها قد اصطحبت أخاها الحسين في المسيرة التي انتهت بقتله. وقد صحبته بدون زوجها أو أولادها، رغم رفض زوجها عبد الرحمن بن جعفر لهذه المسيرة. ولمَا حملت أسيرة لدمشق، حاول رجل أخذ أخت لها غير شقيقة تدعى فاطمة كجارية. وهنا حدث سجال بين زينب ويزيد وفقًا لما ذكره الطبري في كتاباته. وقد ألمحت له أنه بهذه التصرفات قد خرج من الدين، وهنا غضب عليها وقال لها إن من خرج عن الدين هم أبوها وأخيها؛ أي عليَّ وحسين. لذلك، فهذه هي مكانة زينب السياسية. فنتيجة لهذا الحديث الذي أضاف له علماء الشيعة فيما بعد المزيد والمزيد من التفاصيل والحكايات. إذ حولوها في نهاية الأمر إلى خطبة عصماء.
وتختتم «أبو المجد» حديثها وتقول: “أكبر الألغاز حول السيدة زينب هو قبرها، لكن بالتأكيد هناك الكثير من الألغاز الأخرى والأساطير التي تخلط الواقع بالخيال. وهذا ما سأعمل على تفسيره خلال الفترة المقبلة”.
اقرأ أيضا:
«دوريس أبو سيف» في القاهرة.. عن الفن الضائع والمدينة التي تأكل نفسها