نزار الصياد: القاهرة انتهت ومن الظلم اتهام ثورة يناير بإفساد حالة العمران (2-2)

يصف د.نزار الصياد عمليات إزالة جبانات القاهرة التاريخية بالكارثة الحقيقية، مؤكدا أن غياب الشفافية في التعامل مع الأمور قادتنا لهذه النهاية المأساوية. يقول:«لو تم إخطارنا أن هدف الهدم هو ربط المحاور المرورية بالمدن الجديدة، لأصبح لدينا مرجعية لفهم وتقييم ما يحدث داخل القاهرة بشكل واضح وصريح ودون لبس». وأضاف أنه كان من الممكن تفادي عمليات الهدم إذا تم تقديم حلول حقيقية للتعامل مع المنطقة، لكن ذلك لم يحدث أيضا.

هنا نستكمل الحديث مع المؤرخ العمراني الدكتور نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ المدن بجامعة كاليفورنيا بيركلي. حيث يقدم لنا صورة أشمل حول تراث مدينة القاهرة والتحديات التي تواجهه خلال الفترة المقبلة.

  • كيف تقيم ما حدث داخل جبانات القاهرة التاريخية خلال السنوات الأخيرة؟

كان يمكن تفادي ما حدث في الجبانات من خلال تقديم حلول حقيقية. صحيح أن المحاور المرورية -ربما- يكون لها تأثير إيجابي من حيث تقصير المسافات. لكنها في نفس الوقت لم تأخذ في اعتبارها أهمية التراث. لم تؤخذ البدائل الحقيقية التي طرحت للتعامل مع هذه المحاور بعين الاعتبار. كان من الضروري وقف عمليات اختراق الجبانات، لكن ذلك لم يحدث. وهذه الحلول كان يمكن طرحها أمام الجميع، ولكن المشكلة الرئيسية هي أن الدولة لم تتعامل بشفافية مع الناس.

  • وماذا عن المهندسين الذي قاموا بتصميم هذه المحاور؟ هل يقع عليهم مسؤولية؟

المشكلة في مصر معقدة وتحتاج إلى تفكيك، فنحن بمرور الوقت أصبح  مشكلة في نوعية ولاءات المهنيين الذين يعملون مع هذه المشاريع. هؤلاء ولاؤهم فقط للمقاولين والجهات التي يعملون معها، وهم يفتقدون أي ولاء قد يكون لصالح التاريخ أو التراث. نحن نفتقد في مصر الحوارات المجتمعية والمهنية. عندما نسأل أصدقائنا المهندسين ممن شاركوا في هذه النوعية من المشروعات، يقولون لنا: «احمدوا ربنا إننا قدرنا نطلع بالنتيجة دي!» قد يكون ذلك صحيحًا بالمناسبة لكن ما حدث جريمة كاملة. جريمة لأنه تم اختراق وتجاهل كل القوانين المحلية.

مثلًا، جهاز التنسيق الحضاري لديه القوانين، لكنه لا يملك الضبطية القضائية ولا يملك أي سلطة لوقف هذه النوعية من المشروعات، فضلًا عن أن رأيه استشاريًا فقط. لذلك يرى البعض أن الجهاز موجود لاستكمال الصورة ليس أكثر ولا أقل. أما على أرض الواقع، فليس لديه أي سلطة حقيقية. فقد وضع الجهاز معايير للتعامل مع كل منطقة تحمل تراثًا، ولكن في نهاية الأمر ‏لم تُفعل أي من هذه المعايير على أرض الواقع.

  • كثيرون يلقون باللوم على الثورة وتبعاتها على العمران، خصوصًا مع إنتاج العشوائيات بصورة أكبر. هل تعتقد أن ثورة يناير يتم استخدامها كشماعة للإخفاقات المستمرة؟

ثورة يناير 2011 لم تكن سببًا رئيسيًا في وضع العمران الحالي، وإن كان البعض قد استغل حالة الانفلات للتمادي في البناء العشوائي، ولكن من الظلم توجيه الاتهام إليها. قبل الثورة، ‏كتب البعض عن القاهرة كمقبرة أو قنبلة على وشك الانفجار، وهناك آخرون اعتبروا أن القاهرة كمدينة قد انتهت تمامًا.

وأنا الآن لست متفائلًا أبدًا بمستقبل المدينة. ومع زياراتي الكثيرة لمصر خلال السنوات الأخيرة، اكتشفت أن كثيرا من المؤرخين والمهتمين بتراث المدينة هم أصحاب وعي حقيقي. بجانب اهتمامهم وإيمانهم بالأشياء التي يقومون بها. لكن رغم هذا كله، فإن تأثيرهم على أرض الواقع قليل. وأنا هنا لا أتحدث عن كبار المعماريين. لكن أقصد الشباب ومنهم مثلًا أعضاء “سيرة القاهرة” -مبادرة شعبية تجمع المهتمين بتراث القاهرة-. فالحالة الثقافية والمعلوماتية التي خلقوها داخل المدينة لم تكن موجودة في زمني، أي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. لكن ما دفعهم للتحدث عن المدينة بهذه الصورة هو إدراكهم أن تراثها أصبح مهددًا بصورة لم تحدث من قبل، لذلك أرادوا توثيقه والمحافظة عليه.

وهؤلاء لديهم وعي حقيقي، لكن المثقفين لم يهتموا بهذا النوع من الموضوعات في سبعينات القرن الماضي. لكن في نهاية الأمر ورغم هذا الوعي الذي خلقه هؤلاء الشباب، فإن تأثيرهم كان محدودًا. وأقول محدودًا لأنه كان من المفترض أن يتم استثماره بصورة أكبر، وأن يخلق رأيا عاما حقيقيا قادرا على إجبار الحكومة على المحافظة على تراث المدينة.

  • لماذا نجحت الكثير من التجارب الأوروبية في الحفاظ على المدن القديمة، ولماذا لم تنجح تجربتنا حتى الآن؟

الاهتمام بالتراث في أوروبا بدأ في القرنين الـ18 والـ19، وهو اهتمام لم يكن وليد اللحظة. كان معظم أعضاء لجنة حفظ الآثار العربية (أنشأت بأمر من الخديوي توفيق سنة 1881 بهدف الحفاظ على الآثار الإسلامية في مصر) من الأجانب. وكان لديهم إدراك بالتغيرات التي حدثت داخل أوروبا خلال نصف قرن من الزمان. هذه التغييرات أدت للحفاظ على تراث مدن كاملة مثل: فينيسيا وفلورنس وسيينا، وغيرها من المدن. لقد أعادوا صياغة هذه المدن بالصورة التي أصبحت عليها اليوم، ووضعوا قوانين صارمة للحفاظ على مدنهم والتزموا بالقوانين.

لكننا في المقابل، لم نلتزم بالقوانين التي وضعناها. وعندما رحلت لجنة حفظ الآثار العربية عن مصر، لم يلتفت أحد إلى قيمة التراث، ولم نكمل ما بدأته تلك اللجنة. ولكن نظرًا لتعاملهم مع الثقافة المصرية، لجأ أعضاء اللجنة لفرض قيم الحفاظ وطبقوها بشكل إجباري على السكان المحليين، لذلك قرروا إبعاد هؤلاء السكان عن محيط الآثار، وهذا الأمر بالمناسبة خلق حالة من العداء مع التراث من جانبهم. يجب أن ندرك أن اللجنة لم يتم تشكيلها بسبب وعي شعبي، كما حدث داخل أوروبا، بل كان تشكيلها بناء على قرار سياسي من جانب الخديوي، الذي أراد الحفاظ على تراث البلد التي يحكمها. وهو كان هدفا سياسيا أيضًا.

إذن فنحن أمام حالة مختلفة تمامًا عن الحالة الأوروبية، لأن الحاكم لم يكن لديه هدف شعبي، والشعب أيضًا لم يكن مهتمًا بالتراث، ولذلك لم نكن مهيئين لتقديم النموذج الأوروبي في الحفاظ على التراث القديم. ورغم ذلك، أرى أنه لولا لجنة حفظ الآثار العربية، لما أصبحت لدينا اليوم قاهرة العصور الوسطى، إذ أن أعضاء اللجنة أعادوا خلق هذه المدينة. ولولاهم، لكنا محاطين الآن بأطلال المدينة القديمة. وأرى أن أعضاء اللجنة عملوا في فترة مثالية، وحافظوا على القاهرة القديمة، ورغم اختلافنا معهم في بعض النقاط، إلا أننا مدينون لهم بالحفاظ على المدينة القديمة.

  • إذن كيف تنظر للترميمات الحديثة، خصوصًا ما حدث على سبيل المثال مع جامع الحاكم بالمعز؟

جامع الحاكم جرى ترميمه وفقًا لرؤية البهرة، وقد غيروا فيه الكثير من الأمور. وعندما جاء كريزويل إلى مصر كجندي في الجيش البريطاني، فتن بالتراث المصري وقام بالتدريس في الجامعة الأمريكية، حتى أصبح من أبرز من درسوا علم الآثار الإسلامية. وضع كريزويل تصورا للجامع الحاكم وفقًا للأنماط المعمارية التي تعود لنفس الفترة. وعندما أراد البهرة ترميم المسجد، رمموه وفقًا لهذا التصور. لذلك أرى أننا اليوم أصبح لدينا جامع «كريزويل» وليس «الحاكم». وأنا لست معترضًا على ما جرى مؤخرًا، لأن هذه هي سُنة تغيير المباني. فالبهرة أعطوا لجامع الحاكم حياة أخرى، فقد عاصرت الجامع عندما كان عبارة عن خرابة ومحاطًا بالقمامة من كل جانب. إعادة بناء جزء من المبنى الذي كان موجودًا من قبل، واستنباط الباقي منه أمر لا يمكن رفضه بأي حال من الأحوال.

  • ولكن وفقًا لهذا التحليل، ربما فُقد عنصر الأصالة في نهاية الأمر. هل تقبل مثلًا إعادة بناء قبة مستولدة محمد عليَّ التي هدمت مؤخرًا؟

لا، لست مع إعادة بنائها، وهناك نقطة يجب توضيحها. أنا لست مع إعادة بناء أشياء هدمت بالكامل، لكنني مع فكرة إعادة بناء أجزاء بعينها، واسترجاعها إذا كنا نملك جزءًا كبيرًا من المبنى الأصلي. وهو أمر حدث مع جامع الأقمر، حيث تم استكمال جزء منه، بهدف إرجاعه لحالته الأصلية.

وقد فعل صدام حسين الأمر ذاته في مدينة بابل بالعراق، لكن الفارق أن صدام حسين كان يمتلك فقط جزءًا بسيطًا من أطلال المدينة، فقام ببناء الجزء الأكبر منها بشكل متخيل، وهذا خطأ كبير. الحجارة الأصلية تم ختمها بختم نبوخذ نصر، ولكي يتم التفرقة بين القديم والجديد وضع صدام حسين ختمًا يحمل اسمه على الحجارة الجديدة. لكن اعتراضي الأساسي هو أن صدام أعاد بناء أجزاء مخترعة وغير حقيقية، وأظن أنها ستصبح في المستقبل جزءا من التراث.

  • هل تعتقد أننا ننتج اليوم في مصر عمارة جيدة؟

نحن لا ننتج عمارة جيدة. لكنني أظن أنه في المستقبل سيتم النظر لمكتبة الإسكندرية، والمتحف المصري الكبير، وربما المحكمة الدستورية الموجودة في المعادي، بنظرة من الاحترام والتقدير. أما بالنسبة للبيوت والأشكال السكنية الحالية، فلا أظن أن هذه المباني قادرة على التعبير عن أي قيمة حضارية. فأنماط السكن عادة ما تعكس ثقافة الشعب، وما ننتجه حاليًا لا يعكس أي ثقافة سواء كانت محلية أوقومية.

  • إذن هناك أزمة في التعامل مع التراث حاليًا؟

لا توجد أزمة فقط في التعامل مع التراث داخل مصر، بل هناك أيضا عدم اكتراث بالتراث، والمهتمون بهذه النوعية من القضايا لا يملكون السلطة، أو الوقت، أو الموارد التي تمكنهم من توسيع النقاش وتحويله إلى اهتمام شعبي. فالقاهرة القديمة أرى أنها انتهت بالفعل، وما حدث في الجبانات خير دليل على ذلك.

  • وما الحل؟

أرى أن دمج وزارة السياحة مع وزارة الآثار كان خطأ. كما أن تعيين شخص من قطاع السياحة ليكون المسؤول الرئيسي عن الآثار يعتبر تناقضًا كبيرًا. ‏فمهمة المسؤول عن الآثار يجب أن تكون الحفاظ على وصيانة الآثار ‏لخدمة الهوية الوطنية والتاريخ، بينما مهمة مسؤول السياحة هي تسليع الأثر لجلب السياح، والمهمتان قد لا تتوافقان في الكثير ‏من الأحيان، وخاصة في الظروف الاقتصادية الصعبة. لذلك، أتمنى دمج الآثار مع الثقافة مرة أخرى، لأن ذلك سيكون حلًا مناسبًا.

  • أخيرًا.. كثيرون يسألون أين هي اليونسكو مما يحدث؟ هل فقدت اليونسكو مصداقيتها؟

لم تعد للمنظمات الدولية أي سلطة على أرض الواقع. ‏فهذه المنظمات تخشى أن يكون لها رأي حقيقي. وبسبب سيطرة الدول الكبرى عليها، أصبح دورها محدودًا. وهذه أمور لم تكن لتحدث من قبل. فمصر في ستينيات القرن الماضي كانت دولة ذات ثقل محدود نوعًا ما على المستوى العالمي، لكنها لعبت دورًا مهمًا، ولولاها لما سمعنا عن اليونسكو. فقد وضعت مصر اليونسكو على خريطة التراث العالمي بسبب ما حدث في أبو سمبل. ولولا هذا المشروع لما عرف العالم اليونسكو. لكن الآن أصبح اليونسكو أشبه بجهاز التنسيق الحضاري. كلاهما عاجز عن الحفاظ على التراث تحت ضغوط التنمية والاستثمار.

اقرأ أيضا:

نزار الصياد: القاهرة تعيش مأساة (1-2)

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر