للحفاظ على الراحة الأبدية.. ما هي أخلاقيات دراسة المومياوات القديمة؟
خلال فعاليات النسخة الـ24 من مؤتمر الآثاريين العرب، الذي أقيم مؤخرًا بمدينة الشيخ زايد، تم التطرق إلى عدة قضايا حيوية تتعلق بالتراث العربي، وأبرزها ما طرحته الدكتورة سحر سليم، رئيس قسم الأشعة التشخيصية بكلية القصر العيني، إذ عرضت، رفقة الدكتور محمد الكحلاوي، رئيس اتحاد الآثاريين العرب، العديد من الممارسات التي يتبعها الغرب حاليًا لتفريغ الحضارات القديمة. كما تم استعراض التاريخ الطويل للدول الأوروبية في سرقة تراث المجتمعات خلال فترة الاستعمار، بالإضافة إلى محاولتهم المستمرة حتى وقتنا هذا لتقديم رؤيتهم الخاصة حول الحضارات القديمة، باعتبارهم حراسًا للهوية والتراث الإنساني!
ألقت الدكتورة سحر سليم ندوة بعنوان «الحفاظ على الراحة الأبدية.. مراعاة حقوق وكرامة المومياوات القديمة». وأشارت خلال ندوتها إلى أن هناك فرقًا بين المومياء والهيكل العظمي، فالمومياوات القديمة تحتفظ بالأنسجة الرخوة كما هي، وهو أمر لا يتوفر في الهياكل العظمية. وقد ظهرت فكرة التحنيط في العديد من الحضارات القديمة، في آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، وأمريكا اللاتينية، إذ إن هناك تحنيطا طبيعيا، وهو يعني أن الطبيعة هي من حفظت هذه المومياوات، وقد لعبت الصدفة في هذه الحالة الدور الأبرز. وهناك في المقابل عوامل بشرية للتحنيط، مثل ما فعلته الحضارة المصرية القديمة بأجساد المتوفين من خلال عمليات التحنيط المعقدة.
قدسية الرُفات القديمة
وأضافت سليم: لا يجب النظر أبدًا إلى المومياوات كونها قطعًا أثرية، أو كونها أشياء تباع وتشترى وتعرض للناس، إذ ينبغي الحفاظ على كرامة هؤلاء. فالحضارات الإنسانية تعاملت مع الرفات بشكل مختلف. والثقافة الأمريكية الأصلية القديمة، مثلًا، لم تكن تؤمن بالبعث، لكنهم كانوا ينظرون إلى أسلافهم باعتبارهم مرشدين روحانيين، لهذا اعتبروا أن حماية الرُفات جزء من ضمانة سلامة أرواحهم. وهذا الأمر ينطبق على حضارة الإنكا في بيرو، إذ اعتبروا أن للرفات سلطة روحية ودينية كبيرة. أما بالنسبة للحضارة المصرية القديمة فقد آمن المصريون القدماء بالبعث، وأرادوا تحنيط المومياوات لترسيخ عقيدتهم الدينية وتأكيدًا لارتباطهم بيوم البعث والخلود؛ لذلك أرادوا إتقان التحنيط لضمان أن يذهب المتوفي لعالمه الآخر على أكمل وجه وصورة. فقد اعتبروا الموت بمثابة مشروع للحياة وقد حنطوا أيضًا حيواناتهم الأليفة التي اعتبروا أن لها قدسية هي الأخرى.
صناعة الموت
وأكملت: استطاع المصريون القدماء توظيف قدراتهم ومهارتهم المتخصصة في كافة الجزئيات لإعداد المتوفي للعالم الآخر. فالتحنيط صناعة كاملة ويتطلب إتقانا كاملا لتوظيف المواد الكيميائية لمنع وصول البكتيريا والحشرات لجسد المتوفي. كما يتطلب التحنيط إتقان صناعة النسيج، والحلي، والنجارة التي تستخدم لصناعة التوابيت والتمائم. كما أن اختيار موقع الدفن كان يتم بعناية شديدة، وكان هذا الموقع لابد له أن يكون مقدسًا. فهؤلاء قرروا بمحض إرادتهم الدفن داخل هذه المواقع المقدسة؛ لذلك من المفترض احترام رغباتهم. فالمقابر القديمة بنيت لتظل مغلقة، بهدف الحفاظ على الراحة الأبدية للجسد. لكن للأسف التاريخ لم يراع هذه الجزئية، وهناك تاريخ طويل من عدم احترام المومياوات القديمة.
وتابعت «سليم»: ظهرت سرقات المقابر منذ العصور القديمة، لكن تظل السرقات الحديثة هي الأبشع كونها حدثت بشكل واسع خلال القرنين الـ18 والـ19، فقد راجت تجارة بيع المومياوات القديمة خلال هذه الفترة. وظهر اللصوص الأجانب من الدبلوماسيين وغيرهم من التجار. كما تم تحويل الكثير من المومياوات إلى بودرة وطحنها واستخدامها كوقود للبواخر والسفن! واستخدمت المومياوات في التلوين والرسم، وهذا حدث في القرن الـ20 إذ رسمت العديد من اللوحات باستخدام بودرة المومياوات المصرية بعد طحنها. وفي مدينة ليفربول الإنجليزية أرادوا بيع آلاف المومياوات، لكن محاولتهم لم تنجح؛ لذلك قاموا بجمع المومياوات وتحويلها إلى سماد للأراضي الزراعية! لذلك، فهذه الأمور يجب معالجتها والتراجع عنها.
أخلاقيات دراسة المومياوات
وأضافت سحر: تم استخراج بقايا الحضارات القديمة لعدة قرون دون مراعاة حقوق هذه الثقافات المحلية. فالمنقبون، والدبلوماسيون، مارسوا أدوارًا لسرقة الآثار القديمة دون أي موافقة من السكان المحليين والأحفاد. لذلك لابد من استرداد حقوق الحضارات القديمة. فدخول العلم في مسألة الدراسات الأثرية ساهم في عمليات النبش عن المقابر القديمة بشكل أوسع؛ لذلك يجب أن تكون هناك أخلاقيات موضوعة لدراسة المومياوات القديمة. ويجب أن يتم استشارة الدول المصدرة للرُفات حتى إن كانت هذه الرفات موجودة في الخارج. ويجب ألا تؤدي الفحوصات للتدمير، مع ضرورة أن يشارك عضو من البلد المصدرة للرفات الأصلية. وبالنسبة لحق عودة الآثار، يجب تحفيز المطالبات الشعبية وتكثيف الضغط على المتاحف الأجنبية لاسترداد هذه القطع الأثرية.
استخدامات خاطئة
الدكتور محمد الكحلاوي، رئيس المجلس العربي للآثاريين العرب، نوه بأن العالم العربي مستباح، إذ اعتبر أنه لا يوجد من يتصدى للاختراقات الكبيرة التي تتم في العالم العربي. يقول: “ما يحدث الآن هو تشويه للحضارات بهدف إخراجها من صورتها الأصلية وتقديم رؤى خاطئة عنها. فخطورة ما ذكرته الدكتورة سحر سليم، هو أن العمل، مثلًا، على الرُفات من قبل الأجانب والمستشرقين قد يقودهم لإعادة إنتاج رُفات حديثة بشكل مستنسخ وتقديمها لنا باعتبارها الأصل. وهو أمر خطير جدًا ويحدث بالفعل الآن بسبب تقدم التكنولوجيا. فنحن ننساق وراء الغرب من خلال التطبيقات الحديثة والرقمنة، وهي أشياء نتبناها الآن. لكن بالنسبة لعلم الآثار فهذه الأمور يمكن استخدامها في عمليات الحفظ والصيانة والبحث. لكننا للأسف نستخدمها بشكل خاطئ. فعندما نضع القطع الأثرية ضمن متاحف افتراضية، فهذا أعتبره خطأ. فالآثار يجب أن يتم وضعها في بيئتها الأصلية؛ لذلك لابد من إعادة التفكير في فكرة المتاحف الافتراضية. لأنه من العيب أن يتم عرض القطع الأثرية لتعرض في متاحف افتراضية!”.
وسائل مفسدة
وأضاف الكحلاوي: المتاحف الافتراضية تقودنا للإبهار بالتقدم التكنولوجي، لكنها وسائل مفسدة للتاريخ؛ لذلك أنا مهتم دائمًا بفكرة «حقوق الحضارة». لأنني أظن، ومع تراكم خبرتي، أن الغرب يتعمد تخريب عالمنا العربي بمنهجية طويلة النفس. كنت شاهدًا على إحدى المحاولات الخاصة بفتح منح أجنبية للدراسات المتعلقة بالنوبة. فالجامعات المصرية ليس لديها أقسام للدراسات النوبية، إذ يتم دراستها ضمن تخصص علم المصريات. لكن بمرور الوقت تنبهنا أن الجامعات الأجنبية تقدم تسهيلات غير طبيعية لدراسة هذا التخصص. وما أقصده هنا أن الغرب أرادوا فصل النوبة عن الحضارة المصرية.
أجندة الغرب
ويكمل الكحلاوي: الآثار العربية كلها تعيش حالة خطرة، وقد سبق ورفضنا طويلًا سياسة خروج القطع الأثرية لعرضها في الخارج، وحاربنا مرارًا لمنع هذه الأمور، لكن على الجانب الآخر كان البعض ممن يقدسون الدولار يصفوننا بأننا أناس رجعيون لا نفقه شيئًا وأننا بذلك نضيع الملايين على البلد. لكن ما حدث أنه في إحدى المعارض الخارجية تم إرسال قطع نادرة لليابان للعرض، ومنها كرسي الناصر محمد بن قلاوون. لسوء الحظ تعرض المتحف لزلزال، وتهشم الكرسي بشكل كامل. بعد هذه الكارثة وعدت اليابان بترميم هذه القطع الأثرية، وبالفعل أعادوا الكرسي لنا مرة أخرى. لكنني لست متأكدًا الآن من كونه النموذج الأصلي أم لا! وأتحدى أي إنسان أن يثبت أنه الكرسي الأصلي من عدمه. فنحن مستوردون للتكنولوجيا التي أنتجتها الحضارة الغربية، والغرب هم من يصنعون البصمة التي يتم من خلالها توثيق الأثر، وهذا الغرب يمكنه بكل سهولة تطويع هذه البصمة وفقًا لأجندته. لذلك علينا تثقيف الأجيال للتعامل مع هذه الممارسات التي تمثل خطورة داهمة على حضارتنا.
تزوير التاريخ
ويستطرد: الأفروسنتريك على سبيل المثال، يرفضون أي حديث من جانبنا حول النصوص القرآنية، لكن في المقابل، فإن العدو الإسرائيلي يتحدث أيضًا بالنص التوراتي ويفرضه علينا. فإسرائيل تحاسبنا اليوم على تراثنا العربي، وتنسبه لنفسها بناء على نصوص توراتية. ولو أراد أي عالم آثار إطلاق مصطلح «علم الآثار القرآني» لاتهموه بالجنون. فاليهود يعرفون جيدًا كيف يروجون لمعلوماتهم وتأصيلها حتى لو كانت مزورة، بينما نحن نعجز عن تسويق معلوماتنا حتى وإن كانت موثقة، وصحيحة.
اقرأ أيضا:
أعلنته اليابان ونفت مصر إقامته.. قصة معرض «توت عنخ آمون وملوك الشمس الذهبية»