«شنطة سفر»: الراهبة (1-2)

كنت مفتونة في طفولتي بمناظر لبنان في فيلم الراهبة 1965. منظر كافيتيريا والد هند رستم التي تعمل بها نادلة، الشوارع المنحدرة، التراسات الكاشفة للجبال والخضرة، أسماء الوجبات، أتوبيس الرحلات القديم، شلالات المياه وسط الغابة، شكل البيوت والكنائس. ومازالت الصورة الذهنية تترسم مع فيلم نار الشوق 1970 لصباح، واللي ظهرت فيه مناظر جميلة لعمارات بيروت السكنية على الكونتور (الطبوغرافيا)، وظهر فيه كمان مناظر الثلج في أغنية “سلموا لي على مصر”.

وكذلك الخضرة والكافيتريات والدبكة في فيلم نغم في حياتي 1975، وأغنية “حبينا” ورقص ميرفت أمين. وفيلم زمان يا حب 1973 لفريد الأطرش وزبيدة ثروت وأغاني “فوق غصنك يا لمونة” و”لأكتب ع أوراق الشجر”، وفيلم دمي ودموعي وابتسامتي 1973 لنجلاء فتحي وفيلم أجمل أيام حياتي 1974 أيضا لنجلاء فتحي. رسخت الأفلام دي لصورة ذهنية مبهجة عن لبنان، براح وجو مشمس جميل وخضرة وطبوغرافيا وشوارع بيروت المنحدرة إلى البحر. والدبكة اللبناني والشباب اللي بيرقص على طول، وصحون الأكل المتنوع، والشعر الأسود، والشوارب الكثيفة، والأجسام الحلوة. وتلاهم مناظر الشوارع والمحلات والأزياء في فيلم الحب الكبير 1968 لفاتن حمامة وفريد الأطرش ويوسف وهبي. ثم محلات ومكتبات شارع الحمرا والعمارات السكنية والحدائق العامة في فيلم حبيبتي 1974 لفاتن حمامة ومحمود ياسين، وموسيقى الأخوين رحباني.

كل دة مع أزياء السبعينيات، الياقات الكبيرة والبنطلونات الشارلستون والأحزمة العريضة والأحذية ذات البوز المربع والكعب التخين. ودوبل سيمي والبواريك والبيريه فوق الرأس والحواجب الرفيعة وظلال الجفون المبالغ فيها والإكسسوارات البلاستيكية الكبيرة. وأخيرا فيلم أبي فوق الشجرة 1969، ليضفي الجزء التاريخي ومشاهد المعابد مع أغنية عبد الحليم ونادية لطفي.

***

ومن المعروف أن فترة ما بعد هزيمة يونيو 1967 تم تصوير كتير من الأفلام المصرية في لبنان لحد منتصف السبعينيات. واللي رسخت مشاهد ذهنية عن لبنان. وبخاصة بيروت زي أفلام شهيدة الحب الإلهي وفتاة شاذة وقلب في الظلام وأعظم طفل في العالم وسيدة الأقمار السوداء وذئاب لا تأكل اللحم وأين المفر والضياع وامرأة لكل الرجال وأبناء للبيع والرغبة والضياع وباي باي يا حلوة ومن أجل الحياة وغيرها. نضيف على الأفلام دي كلها دي أغاني سبعيناتي بعينها زي يا دادة يا ختيارة لطروب. وبيني وبينك يا هالليل لهدى، ودلوني على عيونه السود لجورجيت صايغ. وقومي نرقص يا صبية لسامي كلارك وقبلهم كلهم فيروز اكتملت كده الصورة الذهنية عن لبنان اللي ما كنتش أعرف منه غير العاصمة بيروت.

وفي صيف 1982 كان مقتل بشير الجميل وتولي أخيه أمين الجميل الحكم خلفا له، وفهمت أن فيه حاجة أسمها حرب أهلية من سنة 1975 بين الطوائف المختلفة مسلمين سنة وشيعة ومسيحيين ومارون ودروز، وعرفت عن احتلال جنوب لبنان، ميليشيات وحزب الله حسن نصر الله، وغيره. وانقطعت الأخبار الفنية والمناظر اللبنانية الجميلة حتى لمعت ماجدة الرومي في ألبوم “خدني حبيبي ع الهنا” اللي كان طالع قبلها بعدة سنوات. وبعدها بشوية ذاعت أغاني راغب علامة ومن بعده نوال الزغبي ووائل كفوري وإليسا ونانسي عجرم و”كدهون”.

***

ودخلت الفضائيات بيوتنا في التسعينيات. كنت بتفرج على عالم الصباح على تليفزيون المستقبل، وكنت معجبة جدا بمذيعات البرنامج الأربعة اللي زي الورد. الإيقاع سريع ومشوق، وأهم فقرة كانت فقرة المطبخ مع الشيف رمزي شويري مدير مدرسة الكفاءات. كانت فقرة هايلة، وكان بيرد عالمتصلين بمنتهي الرقي والشياكة. استمر البرنامج 17 سنة (اشتريت كتابه من معرض الكتاب أواخر التسعينيات، ومازال أهم مرجع طبخ في مكتبتي) وللأسف توفي العام الماضي 2023 بأزمة قلبية. وتوقفت أنا عن متابعة تليفزيون المستقبل من عام 2005 حزنا على اغتيال رفيق الحريري بانفجار في وسط بيروت.

وجت لي سفرية لبنان كرحلة إجازة نصف السنة مع الجامعة التي أعمل بها في يناير 2018 مع مجموعة جميلة من الزملاء ومعيداتي الجميلات. نزلت أدور بعين خيالي على شارع الحمرا اللي شفته في الأفلام وقريت عنه. والحكايات حوالين الشارع كتيرة. بيقولوا إن الشارع ارتبط بعائلة الحمرا التي سكنته مطلع القرن الخامس عشر. وإنه بدأ كزقاق عرف باسم “زقاق الحمرا” في العام 1898. بعد أن كان اسمه “خندق ديبو” وسكنه مزارعون وصيادو أسماك، مكتسبا اسمه من عائلة الحمرا التي استوطنت المنطقة منذ مطلع القرن الخامس عشر. وأنه تأسيس الجامعة الأميركية عام 1866 رفع من وتيرة نموه.

***

وبيقولوا إن سكان الحمرا كانوا قبل العام 1918 يهتمون بالأشجار ويعملون على اصطياد العصافير وبيعها كمصدر عيش لهم، إلى أن أصبحت المنطقة سوق بيروت وبيقولوا إن الشارع قبل الحرب الأهلية 1975-1990 كان نخبوي،”ذاكرة المدينة وخزانها وروحها”. وبيقولوا إنه اكتسب شهرته من مقاهيه التي كانت منتشرة على جانبيه وأعطته طابعه الخاص. بالإضافة إلى المكتبات والمسارح والسينمات والكازينوهات والبوتيكات. زي مقهى “هورس شو” 1959 كأول مقهى رصيف في الشارع وتحول إلى أهم ملتقى للمثقفين اللبنانيين والعرب على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وأحلامهم. وسيدات المجتمع وأشهرهم سيّدة المسرح الأرستقراطي ومقدمة البرنامج الفكاهي إيفيت سرسق. وضم رواده العرب من كل الجنسيات يأتون إلى لبنان خصيصًا لزيارته، ليس مبالغة إن قلت إنّه كان أشهر مقهى في الشرق الأوسط.

في هذا المقهى وفي هذا المكان ذكريات هائلة للحركة المسرحية والفنية والتشكيلية التي انطلقت في بيروت والتي كانت في أوّج ازدهارها آنذاك. كان يتردد إلى هنا أبرز الكتاب والمسرحيين كأنطوان منتهى وأديب منتهى وجلال خوري ومادونا غازي وروجي عساف وأنطوان كرباج. وهنا كان قلب الصحافة اللبنانية، حيث كانت جريدة (النهار) على بعد 200 متر من (الهورس شو). ولكن مطبخها التحريري كان يتّم بين (النهار) و(الهورس شو) التي كانت مقرّا يوميًا لغسان التويني، وبعض السياسيين العرب الذي حاكوا المؤامرات والانقلابات ضدّ بعض الأنظمة العربية. وهناك أيضا الكافييه دو باري مقهى الذي كان يرتاده الشعراء منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى تسعينياته. وكانت تنطلق منه القصائد وتعبر من المحيط إلى الخليج. وأقفل المقهى إلى غير رجعة بعد أن تحول إلى محل تجاري. وهناك وسينما سارولا (واللي تأسست سنة 1961 وأهملت خلال الحرب الأهلية وفتحت مرة أخرى سنة 2005 كمسرح المدينة).

***

ومقهى “إكسبريس” و”مانهاتن” و”نيغرسكو” و”إلدورادو” و”ستراند” وأكشاك بائعي الصحف والكتب. وكان الشارع بيتا لمحمد الماغوط ومحمود درويش وعمر أبو ريشة وأنسي الحاج ومحمد الفيتوري ونزار قباني وبلند الحيدري وغيرهم المئات من الكتاب والشعراء والأدباء اللبنانيين والعرب. وفي رحاب شارع الحمرا احتفت بيروت بدرويش شاعرا للمقاومة. وفي الشارع مقاعد للجلوس تُتيح التأمل والكثير من الشجر. في شارع الحمرا كانت البداية، بداية الفنّ والمسرح والسينما والتلفزيون اللبناني، وعلى مقاهي الرصيف ومطاعمه كانت تحاك العلاقات الاجتماعية وتولد عناوين الصحف السياسية والفنية. الشارع نتاج للثقافات المتناقضة والأفكار السياسية.

نزلت أتمشى وأدور على شارع الحمرا بتاع “بيروت أفلامي”. يبدأ الشارع من تقاطع شارع روما وينتهي عند تقاطع شارع السادات ويمتد على طول 1300م كان ومازال من أبرز الأماكن السياحية في بيروت. فعلا لقيت ملامح كتير من بيروت خيالي. لقيت مباني مودرن من منتصف القرن وعليها بواقي إعلانات قديمة بالأبيض وأسود أو الألوان الباهتة لماركات ساعات وملابس وصورة للصبوحة الشحرورة.

ولقيت المكتبة اللي ظهرت في فيلمين فاتن حمامة. ولقيت بواقي سينمات ومسارح وكافيتريات وغيرها، زي سينما مونتريال اللي فتحت سنة 1978 مع فيلم “ولا عزاء للسيدات” وقفلت سنة 2009. والتياترو الكبير 1929 والأوتيل، بمحلاته وشققه، والمسرح بنفس مبنى البيضة نشأ سنة 1965 كجزء من أكبر مول بالشرق الأوسط اسمه “بيروت سيتي سنتر” واتدمر وقت الحرب الأهلية ورفضت كل المشاريع لإعادة تأهيله.

***

سينما ستراند اللي كانت واحدة من 14 موجودين بشارع الحمرا بالستينيات. وكانت أول سينما تعرض فيلم عمر الشريف “دكتور جيفاغو”. أما سينما الحمرا فتأسست 1958 وكانت واجهتها كلها من الزجاج. وكانت سبب لازدهار شارع الحمرا. مسرح بيكاديللي 1965 صمّمه وبناه المهندسان اللبناني وليم صيدناوي. والفرنسي روجيه كاشار واستوحي اسمه من أحد مسارح لندن الشهيرة “بيكاديللي سكوير”. واعتبر أول صرح فني ثقافي في شارع الحمرا، وأحد أهم المسارح البيروتية وأضخمها.

وكانت مساحة المسرح تزيد عن ألفي متر مربّع، كما تتسع القاعة لحوالي 800 شخص، تميّزت بمقاعدها المخملية الحمراء، وزيّنت جدرانه بصور لكبار الفنانين كفيروز، داليدا، شارل أزنافور، وعدد من الفرق الأوروبية والأميركية. وافتتحه وزير الداخلية آنذاك بيار الجميل بعروض” لفرقة أوبيرا فيينوار”. ومن أهم الفنانين اللي وقفوا عليه فيروز وداليدا. ومن أشهر ما عرض عليه أعمال فيروز والأخوين رحباني، حيث لعبوا على خشبة مسرحه عدة مسرحيات غنائية مثل: هالة والملك، الشخص، ويعيش يعيش، ناس من ورق، لولو، ميس الريم. وبتراو مدرسة المشاغبين والواد سيد الشغال وبودي جارد لعادل إمام وشارع محمد علي لشريهان. وبعد ما أغلق المسرح منتصف التسعينيات ظل بوصلة شارع الحمرا، “وصلني عالبيكاديللي” أو “بلاقيك بنزلة البيكاديللي”.

***

وحكى لي اللبنانيين كمان عن مسرح شوشو (حسن علاء الدين)، الفنان ذو الهيئة المميزة بشاربيه الطويلين وقامته الرفيعة. كان منذ صغره يهوى الكوميديا والضحك. سجّل في رصيده حوالي 24 مسرحية، وأسّس مسرحًا يشبهه، فكان على هيئته؛ عفويًا، بسيطًا، نقديًا، كوميديًا، خلّاقًا، متفرّدًا في المضمون والنتاج، لا يشبه غيره. واللي غيّر نظرةَ عامّةِ الشّعب إلى المسرح، وجعله في متناول الجميع على امتداد أيام الأسبوع. جعل الناس روادًا دائمين، ينتظرون أداءه البسيط الذكي المضحك، من دون تصنّع وفبركة. زي مسرحية “اللعب على الحبلين”، “كافيار وعدس” لوجيه رضوان، “جوّه وبرّه” لموليير، و”الدنيا دولاب”، وغيرها الكثير، وصولًا إلى “آخ يا بلدنا”، التي مُنعت من العرض بعد عدّة عروض.

وحكوا لي عالغراند تياترو (في وسط بيروت) أو “أوبرا بيروت” 1930 وتميّز بشكله الكلاسيكيّ، وأقفل أبوابه في الخمسينيات، وتحوَّل إلى صالة سينما لعرض الأفلام حتى بداية الحرب الأهلية اللبنانيَّة 1975. وبعد انتهاء الحرب الأهليّة، هدمت شركة سوليدير المبنى ما عدا صالة المسرح، الّتي لا تزال قائمة بدون ترميم. وكان فيه كمان مسرح أورلي في شارع بليس في السبعينيات، ولحد التسعينيات، أقفل المسرح أبوابه، واستمرت السينما في استقبال الرواد قبل إغلاقها في العام 1995.

وفيه مسرح بيروت (افتتح سعيد سنّو وزوجته مسرح بيروت في الستينيات من القرن الماضي في منطقة عين المريسة. وكان من المسارح النشيطة والواعدة. ومن بين القلّة التي استمرَّ نشاطها خلال الحرب الأهلية اللبنانية. وقد اعتصم الفنانون اللبنانيون أمام وزارة الثقافة في بيروت أواخر العام 2011، احتجاجًا على إقفال المسرح، مطالبين بحماية الفضاءات الثقافية والفنية في لبنان، لكن من دون جدوى!

اقرأ أيضا:

«شنطة سفر»: إلياذة أنطاليا

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر