دعوى قضائية من وزارة التضامن لإغلاق «أتيليه القاهرة»

يعيش «أتيليه القاهرة» أحد أبرز المعالم الثقافية في مصر، حالة من الغموض والقلق بعد تجدد الجدل حول مصيره بسبب نزاع قضائي قد يؤدي إلى إغلاقه. تأسس الأتيليه قبل أكثر من 70 عاما كمركز للفنانين والأدباء، وكان منبرا للإبداع والتميز الثقافي. إلا أن دعوى قضائية رفعتها وزارة التضامن الاجتماعي، مطالبة بنزع ملكية المكان لصالح ورثة مالكة العقار، تضع مصيره على المحك.

تهديد أقدم مركز ثقافي بالقاهرة

تفاجأ الفنانون والمثقفون الذين حضروا حفل تأبين الفنان الراحل كمال خليفة – المدير السابق لأتيليه القاهرة – الذي أقيم في الأتيليه، بإعلان مفاجئ مفاده أن هذا التجمع قد يكون الأخير في مقر الأتيليه الشهير في وسط القاهرة. ورغم مكانته الثقافية وانضمام 3000 فنان ومثقف لعضويته، إلا أنه يتبع وزارة التضامن وليس وزارة الثقافة.

حاول «باب مصر» التواصل مع د. أحمد الجنايني، رئيس مجلس إدارة أتيليه القاهرة، لكنه لم يرد.

وكشف كواليس الأزمة الدكتور محمد الصبان، أستاذ التصميم بجامعة القاهرة والوكيل العام لنقابة الفنانين التشكيليين. وقال: “موظفو وزارة التضامن الاجتماعي أقاموا دعوى قضائية لحل جمعية أتيليه القاهرة، وهو ما يهدد بإغلاق الأتيليه وعودة ملكيته إلى الورثة”.

تاريخ عريق

يعود تاريخ المكان إلى فترة ما قبل تأسيس الأتيليه، عندما كان العقار في منطقة وسط البلد ملكًا لأسرة يهودية، ثم انتزعت الدولة ملكيتها، وأُعطيت لجماعة الأدباء والفنانين كمقر للمؤسسة الثقافية بنظام الإيجار القديم. أسسه الفنان محمد ناجي تحت مسمى «أتيليه القاهرة» عام 1953 كمقر لجماعة الأدباء والفنانين المصريين، بعد 20 عاما من تجربة أتيليه الإسكندرية الناجحة وتم تأسيسه في عام 1932.

نجح أتيليه القاهرة، في أن يصبح من أبرز الجهات المكلفة بالترشيح لجوائز الدولة في مجالي الأدب والفن. وشهد أتيليه القاهرة في السابق لقاءات وإبداعات الكثير من الكُتاب والفنانين، مثل يحيى الطاهر عبدالله، وأمل دنقل، وغالي شكري، وإدوار الخراط، وصلاح عبدالصبور، ونجيب سرور وغيرهم من الكتاب والفنانين والمثقفين.

لكن مع مرور الوقت، دخل الأتيليه في العديد من الأزمات التي تهدد وجوده، والمستمرة على مدار 9 أعوام، كان آخرها النزاع القضائي الأخير الذي رفعته “وزارة التضامن الاجتماعي”، التي تتولى الإشراف الإداري عليه.

أتيليه القاهرة
أتيليه القاهرة
إغلاق أتيليه القاهرة

وأشار الصبان إلى سبب الأزمة، قائلا: “مجلس الإدارة الحالي للأتيليه كان يدير المكان لمدة 14 عامًا، ولكنه لم يُعلن عن الدعوى القضائية إلا مؤخراً، مما قد يؤدي إلى إغلاق الأتيليه بشكل نهائي، وسيحكم القضاء في الدعوة بالغلق الشهر المقبل”.

الأتيليه، الذي تأسس في منتصف القرن الماضي، لعب دورًا هاما في تاريخ الفن التشكيلي في مصر، وكان بمثابة ملاذ للفنانين والكتاب والمبدعين. احتضن العديد من الأجيال الفنية التي شكلت جزءًا أساسيًا من التاريخ الثقافي المصري المعاصر.

كشف الصبان عن تفاصيل القضية، مشيرا إلى أن الفترة الأخيرة شهدت صراعًا داخليًا حول هوية المكان وإدارته. واتهم أحد الأشخاص الذين تولوا إدارة الأتيليه في السنوات الأخيرة بالتمادي في سياساته التي أدت إلى تدهور حالة الأتيليه. وصرح الصبان قائلًا: “بدأنا نلاحظ مؤامرة لبيع المكان، ويبدو أن هدفه كان التربح على حساب تراث ثقافي عريق”.

سبب الأزمة

وفي تصريحات خاصة لـ«باب مصر»، قال طارق عبدالعزيز، الفنان التشكيلي والكاتب الصحفي، الذي شارك في العديد من المعارض التي أقيمت في الأتيليه، “إن الأزمة تتمثل غالبا في تأخير دفع الإيجار، فأتيليه القاهرة في مقره الحالي يتبع نظام الإيجار القديم. وأعتقد أن المبلغ زهيد، لكن الأمور تفاقمت حتى وصلت إلى القضاء”.

واستكمل: “أتيليه القاهرة كان شعلة من النشاط الثقافي والفني، ولكن في الفترة الأخيرة بدأ يظهر الإهمال من قبل المشرفين عليه. وأصبح الأتيليه أشبه بكافيتيريا يلتقي فيها الأدباء والفنانين دون أي نشاط حقيقي. ولم نعد نرى النشاط الذي كنا نفتخر به في وسط القاهرة. المعارض أصبحت غير مفعلة، والنشاط الثقافي أصبح شبه معدوما”.

بديل آخر

وفي ظل الصراعات القانونية على الملكية، يرى عبدالعزيز أن المشكلة الأساسية ليست في مكان الأتيليه نفسه أو ملكيته. بل في النشاط الثقافي والفني الذي كان يجب أن يقدمه.

وأوضح قائلاً: “المكان يجب أن يكون مركزًا حيًّا بالفنون والثقافة. وليس مكانا يُلقى فيه الحوارات التي تقتصر على الوجوه المعروفة فقط، والخلافات الشخصية والمصالح الخاصة يجب ألا تكون العامل الوحيد الذي يحكم على مصير هذا الصرح الثقافي”.

ويصف الناقد الفني إغلاق أتيليه القاهرة أو تدهور مكانته الثقافية بمثابة ضربة قاسية للفنون في مصر. واستكمل: “المحكمة ستحكم في قضية الملكية الشهر المقبل. ولا بد من احترام هذا الحكم من الجميع”. إلا أنه في نفس الوقت، شدد على أن الأمر لا ينبغي أن يقتصر على ملكية المبنى، بل يجب التركيز على إعادة إحياء النشاط الفني داخل الأتيليه حتى لو تغير مكانه الحالي إلى بديل آخر.

وأضاف: “عند الحديث عن الأتيليه بشكل شخصي، فإنني أتذكر أول تكريم لي في المكان قبل 7 سنوات على كتاب أصدرته. كان أتيليه القاهرة في تلك الفترة بمثابة مركز نابض بالحياة، مكانًا يتيح لك التواصل مع الفنانين والمبدعين من مختلف المجالات، وكانت النشاطات الثقافية والفنية في أوجها”.

حل الأزمة في عام 2019

تأسس “أتيليه القاهرة” في منتصف القرن العشرين، بنظام الإيجار. وجاء تأسيسه بالقاهرة، بعد عشرين عاما من انطلاق أتيليه الإسكندرية، في عام 1932. ويعد الحساب البنكي الخاص بالأتيليه لدفع الإيجار الشهري هو همزة الوصل بين الدعوى القضائية المتكررة التي ترفعها وزارة التضامن وحق أتيليه القاهرة في البقاء. إذ أغلقت وزارة التضامن هذا الحساب البنكي لمدة خمسة أعوام منذ عام 2014 حتى عام 2019.

وتفاقمت الأزمة في عام 2019 بعد دعوى قضائية طالبت فيها ورثة سيدة يهودية تدعى “ليندا كوهينكا” باسترداد مقر الأتيليه، وطالب الكثير من المثقفين والكتاب والفنانين حينها بعدم رد الأتيليه أو تهديده بالغلق أو الهدم حال استرداده من قبل الورثة. وتدخلت حينها وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي لحل أزمة الأتيليه، وقررت الإفراج عن الحساب البنكي الخاص بدفع الإيجار بعد خمسة سنوات من غلقه.

أوقفت الوزيرة كل أبعاد المشكلة وسحبت الدعوى القضائية. وتم الاتفاق مع المالك الأجنبي للمقر على التعاقد الملزم بدفع الإيجار وبقاء المكان تحت إشراف وزارة التضامن وإدارة مجلس إدارة الأتيليه.

أزمات مراكز الثقافة

لكن هذه ليست الأزمة الأولى التي يتعرض لها مركز ثقافي عريق. إذ تعرض “أتيليه الإسكندرية” لأزمة مشابهة أدت إلى فقدانه مكانه القديم. كذلك “نادي القصة” في شارع القصر العيني، الذي كان له مكانة هامة في الأدب المصري، وانتقل إلى مكان آخر بسبب الإهمال والصراعات. لكن لا يزال يواصل نشاطه بحيوية.

يرى الناقد الفني أن قيمة أتيليه القاهرة تتمثل في مكانه التاريخي. واختتم حديثه: “الدولة ستتدخل متمثلة في وزارة الثقافة لتوفير مكان بديل، لكنه لن يكون بنفس قيمة هذا المكان التاريخي. فحين نتحدث عن الأماكن التاريخية، فإن الأمر يتجاوز مجرد المكان المادي؛ فهو يرتبط بذكريات وتاريخ طويل من الأنشطة الثقافية. مثل جمعية الفنون الجميلة في جاردن سيتي التي مر عليها أكثر من 100 سنة”.

اقرأ أيضا:

مرة أخرى: عمارة البلد.. هوية لا تستحق الهدم

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر