تجارب متنوعة.. كيف يمكن إعادة استخدام المباني التراثية؟
أقيم مؤخرًا بمركز الهناجر للفنون معرض وندوة بعنوان «حياة جديدة لتراث قديم: توجهات لإعادة توظيف المباني التاريخية في مصر». نظمت الندوة لجنة الفنون التشكيلية والعمارة بالمجلس الأعلى للثقافة بالتعاون مع الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، حيث تم استعراض تجارب معاصرة لإعادة استخدام وتوظيف المباني التراثية وتأثيرها في تنمية المجتمع المحلي.
أدار الندوة الدكتور جلال عبادة، أستاذ العمارة والتصميم العمراني بكلية الهندسة جامعة عين شمس، الذي أشار إلى تعدد تعريفات التراث في مصر. وقال: “نملك داخل مصر الكثير من المباني الأُثرية التي تخضع لقانون الآثار، وأخرى تراثية تخضع لقوانين التنسيق الحضاري، ومبان تراثية غير مدرجة على قوائم التنسيق الحضاري، وأخرى قديمة أو منسية، وأخرى تخص العمارة الشعبية. جميع هذه التعريفات والمسميات تستدعي إعادة النظر في تعريف التراث الوطني أو القومي، والنظر إليها بشكل أوسع من القوانين واللوائح الحالية. نحن نستهدف إحياء الأماكن الميتة عبر توجهات تهدف في الأساس إلى دمج التاريخ في الحياة اليومية المعاصرة”.
محاولات دمج التراث
وأضاف عبادة: “من الضروري الحفاظ على القيمة التراثية والتاريخية والأثرية للمبنى التراثي مع ضمان استمرارية الحياة داخله. هذه الحياة تتطلب التجديد والإبداع، وتتطلب أيضًا تقديم نظرة مستقبلية للمبنى. لذلك، يجب طرح سؤال دائم:
كيف يمكن للتحديات التصميمية للمعماريين أصحاب الرؤى أن تتوازن مع القيمة الحفاظية لتلك المباني، خصوصًا أن كثيرا منها تخضع لقوانين الآثار واتفاقيات عالمية؟ كما يجب إعادة النظر في نواحي جديدة تخص دمج التراث ضمن الحياة المعاصرة. هناك نقطة مهمة وهي أن استمرار الحياة الجديدة يتطلب تجديدا وإبداعا تصميميا، لأن الأمر لا يقتصر على فكرة الحفظ أو تجميد التراث. فهناك فارق بين تجميل التراث ودمجه في الحياة المعاصرة”.
بيت يكن والرزاز
من جانبه، تحدث الدكتور علاء حبشي، أستاذ الهندسة بجامعة المنوفية ومدير بيت يكن، عن محاولات لإعادة تأهيل وترميم بيت الرزاز وبيت يكن الواقعين في القاهرة التاريخية. حيث أوضح أنه خلال العمل على ترميم بيت الرزاز، وجدوا العديد من الطبقات التاريخية التي مرت على المنزل، وعثروا مثلًا على مقابر للفاطميين، نتيجة وقوع المنزل خارج أسوار القاهرة الفاطمية؛ وبالتالي استخدمت في الماضي أرضه كمقابر للمسلمين الفاطميين. لذلك، قرروا إعادة دفن هذه المقابر وحفظها أثناء الترميم.
وأضاف حبشي: “مرت القاهرة بالعديد من التحولات بسبب أزمة المباني الآيلة للسقوط والتي ظهرت عقب زلزال 1992، ونتيجة للتطور الكبير الذي حدث، ومع ظهور مواثيق الاستدامة، ظهرت ممارسات جديدة للتعامل مع المباني التراثية. وهو الأمر الذي حاولنا مراعاته عند إعادة استخدام بيت يكن على سبيل المثال، إذ قمنا بمراعاة القيمة البيئية والاجتماعية للمنزل مع إعادة استخدامه بما يخدم تلك القيم”.
توظيف مباني البريد
المهندس المعماري معاذ أبوزيد تحدث عن تجربته الخاصة بإعادة تأهيل وتوظيف مباني البريد، وقال: “بدأنا المشروع سنة 2022. وأردنا من خلاله فهم رمزية اللون الأخضر الذي يمثل البريد المصري مثل مكتب البريد السريع في العتبة، ومكتب بريد مغاغة، وأسيوط، والأقصر”.
واستطرد حديثه: “مبنى البريد السريع بمنطقة العتبة يحمل قيمة تاريخية عالية؛ لذلك أردنا الاحتفاظ به من الخارج. مع مراعاة صياغته بشكل كامل من الداخل لمواكبة المستقبل من خلال التصميم. رجعنا مثلًا للخرائط القديمة وتتبعناها، فنحن لم نرد أصلًا خسارة أي متر داخل المبنى، وفي المقابل أردنا تطبيق احتياجات البريد، وهو الأمر الذي نحاول دائمًا وضعه في اعتبارنا خلال إعادة استخدام المباني القديمة”.
يضيف: “قمنا بمراعاة حركة الشوارع وسبل استغلالها في المستقبل، فالمنطقة لديها مشكلة الباعة الجائلين، لكننا راعينا وجودهم داخلها، وتفادينا فكرة تضييق الخناق عليهم، لأننا ندرك أنه من الضروري مراعاة هؤلاء في أي مشروع داخل المدن”.
واستكمل أبوزيد: “بالنسبة لمشروع مغاغة، كان المبنى مبنيًا بالطوب الأحمر، وقد صدر له قرار إزالة، لكننا وجدناه يحكي الكثير من الحكايات المرتبطة بالمدينة؛ لذلك قررنا ترميمه، وقد وضعنا العديد من الإضافات داخله، لكننا ربطناه بالماضي، فالزائر يستطيع التفرقة بين الجزء الجديد والقديم، وهذا يعطي للزائر مساحة لفهم العلاقات التي تربط الماضي بالحاضر”.
إسنا ومحاولات الإحياء
تحدث المعماري والمخطط كريم إبراهيم، رئيس مجلس إدارة شركة تكوين لتنمية المجتمعات المحلية، عن تجربته داخل مدينة إسنا، التي حاول من خلالها إعادة إحياء تراثها المادي وغير المادي. ويقول: “لا يوجد منهجية واضحة حتى الآن بالنسبة للتعامل مع إعادة الاستخدام والتوظيف. فهناك منهجيات ونقاط واضحة تخص الترميم وإدارة المواقع.
لكن مع الخبرة المتراكمة، لاحظنا وجود عدة جوانب للمبنى، ومنها قيم التميز والقيم التراثية للمبنى. أحد الإشكاليات التي تواجهنا هي إعادة الاستخدام. ما يهمنا هو الحفاظ على قيم المبنى التراثية؛ وبالتالي نحاول دائمًا سد الفجوة، خصوصًا تلك الخاصة بفكرة إعادة استخدام المباني التراثية أو التاريخية”.
ويضيف إبراهيم: “واجهنا العديد من التحديات داخل مشروع إسنا. فهي مدينة بداخلها تراكم تاريخي نادر لا يوجد له شبيه داخل مصر. فقد حافظت إسنا على نسيجها العمراني وتقاليدها بصورة مستمرة حتى الآن. لذلك، لم نعتمد على فكرة إعادة الاستخدام فقط، بل قمنا بعمل دراسة تعرف باسم «سلاسل القيمة للسياحة الثقافية». وقد أردنا خلالها فهم جوانب الطلب بالنسبة لقطاع السياحة داخل المدينة. وبالتالي حاولنا التوفيق بين ما تتيحه مباني إسنا لخلق تجربة مختلفة”.
واستطرد: “مبنى وكالة الجداوي على سبيل المثال، كان شاهدًا على الدور التجاري الذي لعبته إسنا منذ العصر المصري القديم، وحتى وقتنا هذا. إسنا مركز إقليمي مهم للتجارة باعتبارها البوابة الجنوبية نحو إفريقيا. من التحديات التي واجهتنا هي رغبتنا في جذب الزيارات السياحية للمدينة. لأن السياح كانوا يأتون إليها لمدة نصف ساعة فقط، بهدف زيارة معبد إسنا؛ لذلك أردنا جذب السياحة بشكل أكبر”.
إعادة توظيف المباني
وعن المشروع يقول المعماري إبراهيم كريم: “رممنا ما يقرب من 20 موقعًا داخل إسنا وطورنا 17 منشأة اقتصادية داخل المدينة. ومنها بيت «يونان» الذي يمثل طرازا خاصا ظهر داخل إسنا في بدايات القرن الـ20 لكنه اندثر في أربعينيات القرن الماضي. وقد أعدنا تطوير واجهة المنزل. أما الدور الأرضي فقد جهزناه ليصبح مطعمًا للأكلات التراثية داخل المدينة. لأننا لاحظنا غياب هذا النوع من المطاعم.
كما نفذنا مسابقة بين سيدات المدينة استطعنا خلالها التوصل إلى 25 وصفة أصلية تخص مأكولات مدينة إسنا وحدها. وقد دربنا السيدات لإنتاج هذه الوصفات؛ لذلك قررنا في النهاية استخدام المكان كأول مطعم يدار من جانب سيدات إسنا. وهو يعتبر أول منشأة اقتصادية داخل المدينة”.
اقرأ أيضا:
بعد هدم مقابرها.. هل تخرج «القاهرة» من قائمة التراث العالمي لليونسكو؟