«المسارح العائمة» في العالم: تاريخ موجز

«ظاهرة فريدة تجمع بين الفنون ومياه الأنهار، لتقديم تجربة فنية لا تُنسى، مُحطمة الحواجز التقليدية المرتبطة بمواقع العروض الفنية»، بهذه الكلمات وصف المؤرخ بلاند سيمبسون المسارح العائمة التي بدأت في الانتشار حول العالم منذ بداية القرن العشرين حتى الآن. ورغم انتشار التكنولوجيا، إلا أنها لا تزال تحظى باهتمام أكثر من دولة حول العالم.

جذور المسرح العائم

يستكمل سيمبسون وصف المسارح العائمة وأهميتها، في كتابه “إلى بلاد الصوت”، حيث يشير إلى أن فكرة المسارح العائمة تعود جذورها إلى الحضارة المصرية القديمة، إذ كانت تُستخدم القوارب كجزء من عروض الممثلين والمطربين والراقصات في مياه النيل. وكانت هذه العروض جزءًا من الاحتفالات الدينية والطقوس الاجتماعية.

ويضيف أن العلاقة الوثيقة بين الفن ومياه الأنهار في الثقافة المصرية القديمة، انتقلت من مصر إلى العالم. مع مرور الزمن، تطورت وظهرت مسارح عائمة في دول مختلفة. وصولا إلى القرن التاسع عشر، حيث كانت تُستخدم كمنصات لتقديم العروض في مناطق قريبة من المياه.

القوارب الترفيهية.. تمثيل ورقص في مياه الأنهار

ترجع فكرة تطوير المسارح العائمة إلى القرن التاسع عشر، وكانت عبارة عن قوارب خشبية مملوكة لعائلات تفتقر إلى المسارح التقليدية. وسجلت أول محاولة ناجحة لتنفيذ مسرح عائم في عام 1831 على يد “ويليام تشابمان” الممثل البريطاني الذي نجح في بناء أول قارب استعراضي في بيتسبرج، وكان يعرف باسم “المسرح العائم” .

كانت القوارب الاستعراضية التي تبحر على طول نهري المسيسيبي وأوهايو جزءًا من التراث الثقافي حينها، لتوفير الترفيه لسكان المناطق النائية. كان قارب تشابمان بحجم (4×32 مترًا)، وكان يتجول مع عائلته بين المراسي لتقيم عروض مسرحية لويليام شكسبير، مع إضافة فقرات موسيقية ورقصات.

عندما يصلوا إلى “نيو أورليانز” في أواخر الشتاء، كانوا يقومون بتفكيك القارب وإعادته بالباخرة إلى بيتسبرج لتكرار هذه التجربة في العام التالي. ومن الأمثلة المميزة على القوارب الاستعراضية في تلك الفترة كان “قصر السيرك العائم”. الذي بُني عام 1851، وكان يستضيف عروضًا ضخمة لرياضة الفروسية.

ومع منتصف القرن التاسع عشر، تطورت القوارب لتستوعب ما يصل إلى 3400 شخص، وبدأت تستضيف عروضًا متنوعة، بما في ذلك متاحف الشمع وعروض الفروسية، لكن الحرب الأهلية الأمريكية أدت إلى اختفائها.

عاد الاهتمام بعروض القوارب الاستعراضية في عام 1878، مع التركيز على الفودفيل والميلودراما. وساهمت قاطرات البخار والقوارب البخارية في زيادة الجمهور، وكانت قوارب مثل “New Sensation” و”Water Queen” تستوعب بين 100 و300 شخص. ومع تقدم القرن العشرين وتطور وسائل النقل، كان قارب “Golden Rod” يستوعب 1400 شخص، بينما كانت “Cotton Blossom” و”Sunny South” تمثل قصورًا مسرحية عائمة.

عرض فيديليو عام 1995 بالمسرح العائم في النمسا
عرض فيديليو عام 1995 بالمسرح العائم في النمسا
جيمس آدامز.. رائد المسرح العائم

تطورت فكرة المسارح العائمة بصورتها الحالية، على يد الأمريكي جيمس آدامز في بدايات القرن العشرين. نجح آدامز في تنفيذ فكرته لإنشاء مسرح عائم أسطوري في عام 1913، عندما قام هو وزوجته جيرتي بشراء قارب ضخم لصنع مسرح عائم بمبلغ 8941 دولارا، بالتعاون مع المخرج تشارلز هانتر.

بدأ رحلته الأسطورية في عام 1914، بعدما نجح في بناء المسرح العملاق المتحرك في ولاية كارولينا الشمالية، الذي كان يتسع لـ700 مقعد، وكأنه منزل عائم عملاق. انطلقوا في رحلة تجريبية في نهاية فبراير، وقدموا عروضهم في مدن مثل هيرتفورد وبليموث، ووصلوا إلى العديد من الأماكن.

كانت تستمر الإعلانات طوال الأسابيع لترتيب زيارات المسرح العائم الضخم. وألهم المسرح العائم لجيمس آدامز الكثير من الكُتاب، مثل “إيدنا فيربير” التي زارته وألهمتها العروض أثناء كتابة رواية عام 1926.

عودة المسرح العائم: إحياء الفنون على الأنهار

بحسب كتاب “سي ريتشارد جيليسبي: مسرح جيمس آدامز العائم” الصادر عن دار نشر تايدووتر، شكل وصول مسرح آدامز العائم حدثًا مثيرًا للمقيمين في المجتمعات المعزولة. كانت العروض تستمر عادةً لمدة ست ليالٍ في كل موقع. حيث تقدم مجموعة متنوعة من المسرحيات والترفيه لجذب الجماهير. مما يضمن عودتهم كل ليلة. وفي اليوم السابع، كانت السفينة تتجه إلى وجهتها التالية.

مع بداية الصيف والخريف، كانت تتجه جنوبًا نحو إليزابيث سيتي، شمال كارولينا، حيث كانت تقضي الشتاء. وخلال الفترة من عام 1914 إلى عام 1941، قدم مسرح جيمس آدامز العائم أكثر من 200 مسرحية مختلفة. تراجع عمل المسرح العائم في ثلاثينيات القرن العشرين، وفي عام 1941، دمر حريق المسرح أثناء نقله، ويعمل حاليا مجموعة من المتطوعين على بناء نسخة طبق الأصل الآن من هذا المسرح التاريخي.

أشهر مسرح عائم في العالم

من الولايات المتحدة إلى النمسا، كانت فكرة المسارح العائمة حاضرة بقوة في الدول الإسكندنافية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والاستقرار النسبي الذي شهدته عدد من البلاد في أوروبا. تم تنفيذ الفكرة من جديد في عام 1946 لكن على ضفاف بحيرة كونستانس في النمسا، وحمل اسم “Seebühne”.

تم تصنيف المسرح العائم “Seebühne” كأكبر مسرح عائم في العالم، وتم بناءه على مساحة ضخمة ليقدم مشاهد وعروض فريدة يمتزج فيها المسرح مع السماء والمياه. أصبح المسرح العائم في بحيرة كونستانس مشهدًا فريدًا من نوعه، إذ يقدم أوبرا كجزء من مهرجان بريجينز الصيفي. يجذب هذا الحدث أكثر من 10 آلاف زائر من جميع أنحاء أوروبا، حسبما ذكر موقع Culture Trip.

يتغير تصميم المسرح مع كل عرض، ليعكس روح العمل الفني. تارة يُقدم العرض مع تصميم “الهولندي الطائر” لريتشارد فاجنر، وفي عرض آخر يتحول الديكور ليصبح العين العملاقة المخصصة لأوبرا “توسكا” لجياكومو بوتشيني.

في أغسطس 1946، بعد عام واحد فقط من نهاية الحرب العالمية الثانية، أقيم مهرجان بريجينز الأول. وبدأ موسيقى موزارت على مسرح متواضع بمركب فخم. كانت مدينة بريجينز تفتقر إلى مسرح في ذلك الوقت، لذلك تم اختيار (بحيرة كونستانس) كمسرح. في البداية كحل مؤقت، لكن تبين أن اختيار المكان كان سببا لنجاحه. وبعدها تأسست جمعية مهرجان بريجينز في عام 1950، لتصبح هيئة دائمة من المنظمين الذين يواصلون تطوير المهرجان حتى اليوم.

يعد الديكور واحدا من العوامل التي ضمنت استمرارية المهرجان السنوي حتى الآن. وفي كل عام يتم تصميم ديكور جديد يكون أكثر سريالية. وعادة ما يستغرق بناؤه حوالي 215 يوما ويتم تجديده كل عامين على أخشاب يتم وضعها على جزء خرساني.

أنيس منصور بالمسرح العائم في فيرساي

بسبب نجاح المهرجان والمسرح العائم بالنمسا، حرص المليونير المصري النمساوي فوزي متولي على تأسيس مسرح عائم لكن على بحيرة صناعية في فرساي الفرنسية في مطلع القرن الحادي والعشرين. ودعا الكاتب المصري الراحل أنيس منصور لحضور واحدة من المسرحيات التي تم عرضها.

وكتب منصور كواليس حضور هذه المسرحية في كتابه “في تلك السنة هؤلاء العظماء ولدوا معا” الصادر عن دار نهضة مصر للنشر. قال: “في عام 2003، ذهبت مع المليونير المصري النمساوي فوزي متولي، أتفرج على المسرح العائم الذي أقامه على بحيرة صناعية في فرساي، وفوزي متولي هو منتج أوبرا عايدة في الأقصر، باعتباره أروع عرض في القرن العشرين. وتم تقديم بالمسرح العائم في فرساي، أوبرا أندريه شينيه، من تأليف الشاعر الإيطالي لويجي إليكا ومن موسيقى وألحان الموسيقار الإيطالي أوبرتو جورانو. وقد ظهرت لأول مرة على مسرح لاسكالا بمدينة ميلانو في مارس عام 1896”.

مسرح L’Île Ô: أول مسرح عائم بفرنسا

يرجع سبب تدشين المليونير المصري لمسرح عائم على بحيرة صناعية في فرنسا إلى تعارض قوانين بعض الدول، مثل فرنسا، مع تنفيذ المسارح العائمة بسبب اللوائح الخاصة بالمباني والقوارب. ورغم هذا التعارض، نجح مهندس هولندي في تنفيذ أول مسرح عائم بفرنسا في عام 2022.

يقع هذا المسرح في مدينة ليون الفرنسية، ويحمل اسم “L’Île Ô”.يعد هذا المسرح الأول من نوعه في فرنسا ويُرسو بشكل دائم على نهر الرون. ويتميز بتصميمه الداخلي الخشبي. تم تدشينه ليكون منصة فنية وتعليمية تُلهم الشباب والأطفال في عالم الفنون المسرحية.

يتألف المسرح من ست وحدات، مما يوفر مساحة إجمالية تصل إلى 245 مترًا مربعًا موزعة على ثلاثة مستويات. يضم المسرح قاعتين للعروض، تتسع إحداهما لـ78 مقعدًا والأخرى لـ244 مقعدًا. ولم يقتصر المسرح على تقديم العروض التمثيلية فقط، بل يقدم أيضا عروض صوت وضوء تجمع بين الأداء العالي والتكلفة المتوسطة.

المباني العائمة وتحديات المناخ

صمم المهندس المعماري الهولندي كوين أولثيوس المسرح العائم في نهر الرون، يعتبر أولثويس من أبرز الأسماء في مجال تصميم الهياكل العائمة. حيث درس الهندسة المعمارية والتصميم الصناعي في جامعة دلفت للتكنولوجيا. اكتسب أساسياته المعرفية التي ساعدته على تطوير رؤية فريدة لمواجهة التحديات المرتبطة بالفيضانات وارتفاع مستويات سطح البحر.

في عام 2005، تعاون أولثويس لتأسيس شركة تركز على تطوير حلول مبتكرة لتعزيز قدرة المدن على التكيف مع التغيرات المناخية. في عام 2007، تم تكريمه باحتلاله المرتبة 122 في استطلاع رأي قراء مجلة “تايم” حول “أكثر الأشخاص تأثيرًا في العام”.

كواليس المسرح العائم: إلهام أدبي يجسد التاريخ

تعتبر كواليس الرحلات على “المسرح العائم” مصدر إلهام للكثير من الكُتاب والأدباء. ومن بينهم الكاتبة البريطانية مارثا كونواي، التي أصدرت روايتها “المسرح العائم” عام 2017. تدور أحداث الرواية في القرن التاسع عشر، تحديدًا عام 1838. حيث تتناول قصة ماي بيدلو، خياطة ساذجة تعمل لابنة عمها، الممثلة الشهيرة كومفورت فيرتيو.

تتغير مجريات الأحداث عندما يغرق قاربهما البخاري في نهر أوهايو، فتعمل ماي على متن “مسرح هوجو وهيلينا” العائم، الذي يجوب الحدود بين الولايات الشمالية والجنوبية. حيث لا يزال هناك نظام العبيد. تدور أحداث الرواية حول قصة ماي التي تُواجه الابتزاز في محاولتها لإنقاذ الهاربين عبر السكك الحديدية.

اقرأ أيضا:

«المسرح العائم» في خطر.. ووزير الثقافة: «قرارات دولة»

«المسرح العائم»: شهد بدايات العندليب.. ولقاءات عبدالناصر السرية بعد النكسة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر