«شنطة سفر»: يا حضرة مولانا

لم أكن أعلم عن الصوفية إلا ما قرأته لأحمد بهجت في كتاب “بحار الحب عند الصوفية”، وكان بالنسبة لي كتاب هادي (من الهداية). إلى أن كانت المناقشات مع صديقتي الدكتورة مي حواس عن “تأثير المذاهب على عمارة المساجد”، والتي نبهتني لمولانا جلال الدين الرومي وابن عربي وابن قيم والإمام الغزالي وغيرهم. فاقتنيت بعض الكتب البسيطة العامة في هذا المجال، إلى أن قرأت رواية قواعد العشق الأربعون للكاتبة التركية أليف شافاق.

ومن لحظتها وقد فتنت بالرومي والتبريزي، فأخذت القراءة عنهما وعن الصوفية منعطفا مختلفا تماما. “قواعد العشق الأربعون”، رواية للكاتبة التركية إليف شافاق، وضمّنتها الكثير من الأفكار الصوفية التي وجدت طريقها إلى قلوب الشباب. وتدور حول امرأة أمريكية اسمها إيلا، تعمل كناقدة أدبية، وقعت يدها على قصة اسمها ”الكُفر الحلو”، كتبها رجل صوفي تركي اسمه “عزيز زهار”، يتحدث فيها عن القصة التاريخية الشهيرة لعلاقة جلال الرومي وشمس التبريزي. فتعجب إيلا بالرواية، خاصة وأنها تلامس جوانب روحية وعاطفية عندها، في الوقت الذي تمر فيه بمنعطف حرج في حياتها العائلية، فما يكون منها إلا أن تتواصل مع عزيز وتنشأ بينها وبين الكاتب علاقة حب عبر البريد الإلكتروني. ثم تقع في حبه، وتسافر معه في ترحاله الصوفي.

***

الرواية عبارة عن قصتين في زمنين مختلفين: قصة إيلا وعزيز وهي قصة معاصرة، وقصة شمس التبريزي وجلال الدين الرومي من القرن الثالث عشر، والتي من خلالها يضع شمس لتابعه جلال قواعد العشق من خلال حوار وأحداث تمر بها الشخصيتين. وحصيلة الرواية 40 قاعدة أو فكرة عن العشق الإلهي والتقرب من الله والتدبر في مخلوقات الله تعالى وكونه العظيم حتى يزيد من حب القارئ لهذا الخالق المبدع ويبتعد طواعية عن المعاصي والذنوب. والرواية لا تتطرق كثيرا للرومي وكتاباته وأشعاره بقدر ما تسهب في الحديث عن شمس التبريزي وأفكاره. وقد أجادت الكاتبة -من وجهة نظري- في وصف شخصياتها وصورتهم بطريقة فنية جميلة، وكذلك في وصفها للطبيعة ووصف رقصة السماع “المولوية” للرومي وشمس التبريزي في أكناف الطبيعة الساحرة، وغيرها.

أثرت فيّ الرواية جدا، وغيرتني 180 درجة. وعلى مدار عشرة سنوات، كنت محتارة إزاي أنقل الرواية وحلاوتها ودروسها لغيري. لحد ما أنشأت نادي الونس، اللي بدعو فيه أصدقائي مرة شهريا لمشاركة أفكارهم حول موضوعات ممكن تغير طريقة تفكيرهم ومنظورهم للدنيا، ودة بيكون من خلال قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم أو مسلسل أو تمثيلية أو حتى أغنية أو أي عمل فني بيدور حول موضوع إنساني مهم ومؤثر. تناقشنا في المفاهيم الأساسية المستفادة من الرواية وأهمها التغيير والرضا وتقبل الآخر والتخلص من الغضب والبحث عن الذات والتعلم والتخلص من التعلق بالماضي والتخلص من القلق بشأن المستقبل والتخلص من الخوف والتدريب على رؤية الأمور بمنظور مختلف وجهاد الـ”أنا”. كل واحد في القعدة بيقول رأيه أو بيحكي موقف حصل له في نقطة محددة، بنستريح بالمشاركة، وبنتعلم من خبرات بعض. حسيت إني استريحت لما وصلت الرسالة، رسالة الرواية تحققت من خلال هدف نادي الونس.

***

وبدأت رحلتي مع الرومي ووجدت في كتاباته ومحاورات التبريزي له منهجا لي في علاقتي بنفسي وبالله وبديني ودنيتي (لا أدعي الالتزام به، ولكني مطمئنة إلى وجوده والرجوع إليه، ومحاولة الأخذ به). وجت لي الفرصة سنة 2020 دعوة عمل كام يوم في أنقرة، قلت لنفسي أما آخد لي يومين في قونية، وأرجع وفق البرنامج. المسافة بين مدينة أنقرة وقونية هي ثلاث ساعات بالسيارة. وتاريخنا الحديث مرتبط بقونية، فقد قامت معركة هناك بين الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي والي مصر وبين الجيش العثماني بقيادة السلطان محمود الثاني عام 1832، وانتصرنا وانتزع محمد على باشا بلاد الشام وسيطر عليها، وتلت هذه المعركة اتفاقية كوتاهية. لا أتذكر معالم مميزة في الطريق، لكني أتذكر الرهبة التي كانت عليها نفسي. أنا في طريقي لجلال الدين الرومي في المشهد المُذهَّب. وسبت نفسي خالص، أختبر إحساسي.

ودخلت حرم المجموعة التي تنتمي إلى القرن الثالث عشر ميلادي وتضم متحف مولانا جلال الدين الرومي، والضريح والمسجد، بالإضافة إلى مجموعة من المقابر. خلافا، يضم المكان مكتبة وكافيتيريا وخدمات وكثير من أماكن الجلوس. كان يوما مشمسا، باردا لكن مشمسا. المكان يكتنفه الهدوء بالرغم من كم الزوار وأغلبهم من الأتراك، والكثير من الأطفال – أسر كاملة. لم أسمع إلا أصوات الحمام، وصوت عقلي يردد “يا حضرة مولانا… يا حضرة مولانا”.

***

بدأت بالتكية التي تضم وحداتها متحفا لمقتنيات مولانا، ومشاهد من الحياة اليومية، أدوات ومُعدات وملابس وأيقونات ولوحات وصور. وفي الحيزات الأكبر تماثيل ومؤثرات صوتية وبصرية لمواقف وأناس ممن نقرأ عنهم ضمن سيرة الرومي. وهذا النوع من المتاحف “التمثيلية” جنة لمحبي التاريخ عامة مثلي ولمريدي الرومي خاصة مثلي أيضا. ومثل هذه المتاحف هي رحلة في الزمن، وبالرغم من أنها لا تعتبر تفاعلية، إلا أن وجود الجو التاريخي يضفي “امتزاج وجداني” غريب. مثل تماثيل متحفنا الزراعي بالدقي ومتحفنا للشمع بحلوان لمن يتذكرهما، وكذلك متحف النوبة لمن يعرفه. المكان كله رخام أبيض، ومحاط بالقباب والمآذن العثمانية على مدد الشوف إلا القبة السلجوقية ذات الرقبة والمزدانة بالخزف الفيروزي. صفااااااااء.. هدووووووووء.. سكيييييييينة تحتاجها كل نفس حائرة.

تنقلت بين خلايا التكية بهدوء وقضيت لحظات أتأمل ما حولي في الفناء الواسع وعلى جنباته بعض أشعار وكلمات الرومي عن الحب والتسامح والغفران. وكيف أنهم مثل شروق الشمس: يضيئوا الحياة وينوروا البصيرة. مئات من عشاق الرومي ومريديه من جنسيات مختلفة أشبه بالدراويش ينتشرون هنا وهناك أو يشربون من صنابير المياه أو يتوضؤون. منهم الطاعنين في السن ومنهم النساء ممسكات بأيدي أبنائهن وأحفادهن. ثم واجهت مدخل الضريح ذو اللافتة الكبيرة باللغة العربية “يا حضرة مولانا” وأخدت نفس عميق ودخلت.

***

وكلما خطوت خطوة شعرت بأن روحي تصعد إلى السماء. درجة مع كل خطوة. وعند ضريح مولانا، وبالنظر إلى جلبابه وعمامته، رأيتني أتسمر وأنا أنظر إليه وأسأله: ما سرك يا رومي؟؟؟؟ ورأيتني محلقة وكأني أنظر إلى الناس تحتي وأحاول تفسير همهماتهم، ترى بماذا يفكرون؟ ماذا يقولون لبعضهم البعض؟ وبماذا يهمسون للرومي؟ هل يقرؤون له الفاتحة؟ ولماذا يبكون؟ هل يطلبون منه شفاعة كما يفعل المصريون في أضرحة آل البيت بمصر؟ هل يعترفون له مثلما رأيت في أماكن وثقافات أخرى؟ ماذا؟؟؟ ويجاور ضريح الرومي أضرحة صغيرة تضم قبور أبنائه وبعض مريديه ويوجد بداخل الضريح كذلك مخطوطاته ومصاحف وسجاد الصلاة وآلات موسيقية.

وتجدر الإشارة هنا إلى ما قرأته عن ديوانه الشعري عن رفيقه شمس التبريزي بعد اختفائه/قتله، والذي تحول إلى طقوس”السماع” القائمة على الذكر والدوران بطريقة ودلالات ما، في رحلة روحية تتخطى حدود المكان والزمان. لا أنصح بمغادرة تركيا أبدا بدون حضور “سماع”. أبدا أبدا (تقدمها المولوية أحيانا في القاهرة والإسكندرية). العطاء بلا حدود، الحب والغفران هو ما يجب أن أكون عليه، وهذا ما شعرت بحصولي عليه من هذه الزيارة.

***

وفي قونية أيضا العديد من المزارات السياحية واجبة الزيارة، مثل القلعة الموجودة فوق تل علاء الدين والتي كانت تستقبل أهم الزوار قديما. وقد كان يقيم بها العديد من الملوك، ومسجد علاء الدين وهو أحد أقدم المساجد الموجودة بالمدينة وحولهما منتزه عام وعدد كبير من الأشجار. حيث الجلوس في الحدائق الطبيعية (ومزارع الشاي التي يعود تاريخها للقرن الثالث عشر). وذلك بدون أي مقابل وقضاء وقت ممتع أو النزول إلى العديد من المطاعم والمقاهي المنتشرة. (وقد ذكر اسم علاء الدين كيكوباك كثيرا في المسلسل التركي أرطغرل).

وفي القلعة صادفت وصادقت العديد من الناس والعديد من الأسر أثناء الصلاة في المسجد وفي الحدائق المحيطة. ولاحظت في قونية أن غالبية المقاهي مخصصة للرجال فقط، حيث يتجمعون لشرب الشاي ولعب الألعاب. ويوجد العديد من حدائق الشاي للعائلات والإناث. وبالرغم من عدم وجود من يتحدث الإنجليزية، إلا أن الجميع بلا استثناء كانوا في منتهى الود معي. وخاصة حينما أقول إنني من مِصِر كما ينطقوها ويرحبوا بتصويري والتصوير معي. والناس في قونية رايقين جدا جدا جدا وإيقاعهم بطيء. ووجدت العديد من الجرافيتي لكتابات وأسماء مصرية. ولم أجد ورقة مرمية في الأرض ولا كيس شيبسى ولا أي عنصر زبالة في أي مكان في قونية.

***

ومن الجدير بالزيارة في قونية حديقة الفراشات الاستوائية وهي موطن للفراشات يضم مسارًا باتجاه واحد عبر النباتات الاستوائية. مما يسمح بتجارب تفاعلية مع العديد من الفراشات، ومعرضًا للببغاء يتضمن متجر هدايا ومقهى. وجنوب شرق قونية مواقع كاتالهويوك أو شاتالتويوك، وهي مستوطنة من العصر الحجري الحديث اكتشفها علماء الآثار والتي تقدم نظرة رائعة على كيفية عيش الناس قبل 9000 عام. وهناك قرية سيل، التي تقع بالقرب من مركز قونية، ويعود تاريخها إلى 5000 عام. وكانت موطنا للمتحدثين باللغة اليونانية في القرن الماضي ــ ويُنسب الفضل إلى تعاليم الرومي في التسامح في الحفاظ على الانسجام بين المجتمعات المحلية اليونانية والتركية. وعلى قمة جبل شمال غرب قونية، توجد قلعة جيفالي، وهي عبارة عن هيكل قديم يعود تاريخها إلى ما هو أبعد من العصر الروماني وما زالت تفاجئنا باكتشافات غير متوقعة. وتم العثور على نفق سري يعتقد أن الحيتيتين قد بنوه قبل حوالي 4000 عام.

وأثناء وجودي في قونية حضرت جنازة. كنت ماشية في حديقة جميلة وسمعت القرآن بلسان “رومي”. اتجهت إلى مصدر الصوت فاكتشفت أن الحديقة دي منطقة مقابر ولقيت أسرة ملتفة حول تابوت شيك محطوط على ترابيزة، وحواليه شمعدانات. وعرفت أنهم يفضلون الدفن وقت الظهيرة. وشفت السيدات لابسين أسود في منتهى الاحتشام، والرجال ما كانش فيهم حد لابس بنطلون جينز، كله لابس بنطلونات وقمصان. وبعد الدفن قاموا بتوزيع بعض المعجنات والحلوى التركية التقليدية وحاجة زي شربات ورد. وعرفت أنه من العادات التي مازالوا يمارسونها هو التخلص من حذاء المتوفي، والتبرع لجمعية خيرية أو للفقراء باسم المتوفي. بس ما شوفتش شحاتين ولا عيال وأسر كاملة بتشحت من عائلة المتوفي ولا تلزيق في الناس والعربيات ولا مسكنة ولا صعبانيات ولا أي حاجة. قرأت الفاتحة ومشيت.

اقرأ أيضا:

«شنطة سفر»: الحج مع باولو كويلو

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر