«شنطة سفر»: الحج مع باولو كويلو

كنت قد تعرفت على صديقتي الهندية سونا ناميبار سنة 2000 تقريبا، والتي كانت تعمل محررة في مدينة دبي الإعلامية. لما بعتت لي دعوة عشان أكتب مقال عن مكتبة الإسكندرية قبل افتتاحها في مجلة معمارية معروفة ومهمة جدا وقتها، ونجح المقال واشتغلنا مع بعض كتير بعدها، وبعدين بقينا أصحاب عالميل.

وبعت لها هدية مع زوجي في إحدى سفرياته لدبي (كانت رواية نجيب محفوظ “زقاق المدق” مترجمة للإنجليزية) وهي بعتت لي رواية “الحاج” لباولو كويلو – وما كنتش قريت له قبل كدة. وزادت صداقتنا وتوطدت لحد ما قابلتها وجها لوجه لأول مرة في دبي سنة 2013. مش متأكدة إزاي جت الصدفة مع سونا إنها تنبهني من خلال الرواية لمغزاها، اللي فرق معايا كتير في حياتي بعدها واللي من خلالها قريت ومتتبعة كل ما ينشر باولو كويلو وأصبح من كتابي المفضلين.

يروي كويلو قصة رحلة سعي يبحث بطلها عن سيفه المفقود على طريق “مار يعقوب” في إسبانيا. وحسب تعاليم مرشده، سلك طريق حجاج القرون الوسطى بغية الوصول إلى سانتياجو دي كومبوستيلا، وخلال رحلته قام بتمارين وطقوس تساعد الإنسان على اكتشاف طريق خاصة به، وتمده بالطاقة والشجاعة، معمقة حدسه الشخصي الذي يصله بالحقيقة.

***

تعرض هذا “الحاج” لتجارب روحية كثيرة تتمثل في اكتشاف معان جديدة للحب والورع والموت والألم، والأهم من ذلك كله، تبين له أن التوصل إلى مرحلة المصالحة مع النفس والإشراق متاح أمام كل إنسان يسير على طريقه الخاصة به، كما سار هو-بطل القصة وراويها الخارق موجود على طريق الناس العاديين. المهم الطريق، واكتشافنا لأنفسنا من خلال السفر والمغامرة والسعي. وأمام هذا الاكتشاف احتمال يصبح الهدف الأساسي أمراً ثانوياً.

فالراوي، بعد أن سار على الدرب بغية اكتشاف سر سيفه، يكتشف ذلك السر، لكنه لا يعلنه، فالسر هو ما يكتشف ولا يعلن. وأثناء الطريق يقوم المرشد بتروس بتلقين الراوي باولو تمارين وطقوس «رام» (جمعية روحانية قديمة)، وهي ممارسات بسيطة تساعد الإنسان على اكتشاف طريق خاصة به، وتمده بالطاقة والشجاعة، معمقة حدسه الشخصي الذي يصله بالحقيقة. وفي الحقيقة كل روايات باولو كويلو فيها دروس للارتقاء بالنفس. ودة اللي ربطني وربط ناس كتير بباولو كويلو، عشان كدة كان لازم تكون رواياته وخاصة رواية “الحاج” هي من ركائز حلقات نقاش نادي الونس (بعد قراءة الرواية بأكثر من 22 سنة). واكتشفت أن الواحد فعلا بيتعلم من اللي بيقراه وما بينساش، وبيطبق، وبيفضل شايل هم إزاي ينقل للي حواليه. ودة اللي حاولت أعمله في أنشطتي من بعد ما تميت 50 سنة. إن كان عندي حاجة تستاهل، لازم أنقلها لغيري، وإن دي رسالة.

***

وبالفعل دارت إحدى حلقات نادي الونس حول مفهوم “الكنز” اللي بنقعد ندور عليه طوال حياتنا، وبعد سنين معافرة مع الدنيا بنكتشف إننا على مدار رحلتنا بنتعلم من بعض ومن كل واحد بيقابلنا (زي الحرامي والكلب والطفل في بداية الرواية) وبنتدرب على المواجهة حتى لو ماكانش دة في طبعنا، وبنقوم بمغامرات فيها مخاطرة، وبندرب حواسنا على الملاحظة والتأمل والتفكر، وبنختزن ذكريات الحواس دي. وبنتدرب كمان من خلال الصعوبات اللي بنمر بيها على المثابرة والتريث، وبالتالي بتتفتح لنا أبواب الحكمة. وبتزيد مرونتنا مع الوقت، وبنقدر نستوعب إننا لازم نغير طرق تعلمنا، وكل دة بيفتح لنا قنوات أكتر لتواصلنا مع الخالق سبحانه وتعالى. وساعتها بندوق حلاوة التخلي والتواضع وبتزيد قدرتنا على التمييز وبتزيد خبرتنا وحكمتنا وقدرتنا على استشراف المستقبل، وبندرك ساعتها إن هو دة الكنز اللي كنا بندور عليه: “الكنز في الرحلة”.

ونرجع لسنتياجو دي كومبوستيلا (وبالعربي شنت ياقب أو ياقو أو ياقوه أو ياقوب أو ياق أو ياقة) هي “بلدة” صغيرة في مقاطعة لاكورونيا في منطقة جاليسيا شمال غرب إسبانيا. وهي محج لكثير من المسيحيين الكاثوليك. إذ ترمز إلى نضال المسيحيين ضد الإسلام، فقد هدم المسلمون المدينة في القرن العاشر الميلادي، وبنيت بأكملها في القرن التالي.

ويسمى الطريق إليها الكامينو دي سانتياجو (طريق سانت جيمس) وهو شبكة واسعة من طرق الحج القديمة الممتدة عبر أوروبا. وتجتمع عند قبر القديس جيمس (سانتياغو بالإسبانية) في تلك المدينة. تقول الأسطورة إن الحواري المبشر بالمسيحية يعقوب بن زبدي قتل في أورشليم قرابة سنة 44م. وأن رفاته نقلت فيما بعد إلى جليقية (جليسيا) بإسبانيا، غير أن قبره هُجر وطُمس في أعقاب اضطهاد الرومان لمسيحيي إسبانيا في القرن الثالث الميلادي. ولم يُكشف عنه ثانية إلا سنة 814م، وزعم أنه بيخرج منه أضواءً غريبة في السماء أثناء الليل. وأعتبر الإسبان دي معجزة وبنوا كنيسة صغيرة على موقع القبر. وجذبت الكنيسة الحجاج المسيحيين إلى المدينة وحولتها إلى مقصد مهم للحج الكاثوليكي.

***

وجاء الحاكم الأندلسي المنصور بن أبي عامر عام 1002 وسوى الكنيسة بالأرض. لكنه لم يمس القبر بسوء وأمر بحمل بوابات الكنيسة وأجراسها الضخمة إلى قرطبة لاستخدامها في المسجد الجامع. وحين استعاد الإسبان الأندلس، نقل الملك فرناندو الثالث البوابات والأجراس من المسجد الجامع في قرطبة إلى كاتدرائية سانتا ماريا في طليطلة.

أما كاتدرائيتنا في كومبوستيلا، فألحقت بها جامعة سنة 1495. وتوسعت الكاتدرائية كذا مرة وأضيفت إليها عدة أجزاء وخضعت للترميم والـ”تطوير” في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر. وأُدرجت مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا القديمة على بعضها كدة بكاتدرائيتها وسلطاتها وبابا غنوجها ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي سنة 1985. كما أدرجت سنة 2007 ضمن قائمة كنوز إسبانيا الإثنا عشر، في استفتاء صوّت فيه ألوف مؤلفة من الناس.

وبالصدفة وكالعادة كانت سانتياجو دي كومبوستيلا محطة في طريقي من مدينة بونتِ فيدرا شمال غرب إسبانيا. حيث كنت أحضر مهرجان لودانتيا للعمارة والأطفال، وبين فسحة مرتقبة في مدينة برشلونة. كنت بصحبة صديقتي الجميلة ماجداليناراجيفا من بلغاريا. اتمشينا نستكشف الطريق في البلدة القديمة، طول الطريق كنت حاسة إني في مكان سحري، وأضفى الجو الضبابي والمطر الخفيف حالة من الغموض. فعلا هي من أجمل المدن التاريخية القديمة التي زرتها في أوروبا، وتظهر بها آثار أيادي الحفاظ حتى في أضيق حاراتها. المباني من عصور الرومانيسك، النهضة، الباروك والنيوكلاسيك.

***

فيه أماكن حلوة كتير في المدينة، زي (هوستال دي لوس رييسكاتوليكوس) أو نزل الحجاج الكاثوليك. اتبنى سنة 1499 وحاليا فندق جميل، وكازا (منزل) دو كابيلدو، اتبنى سنة 11758 على الطراز الباروكي ومركز الفن الجاليكي المعاصر (CGAC) اللي هو أصلا مزار في حد ذاته. تطل شرفاته على المدينة القديمة وفيه مجموعة متنوعة من المعارض المؤقتة للحركات الفنية المعاصرة. وفيه كمان متحف الشعب اللي بيعرض الثقافة الجاليكية، العلاقة بالبحر والتجارة والأرض والملابس والموسيقى والبيئة المعيشية والعمارة. ودير سان لورينزو من القرن الثالث عشر واللي اتحول إلى قصر سكني. وتتميز حدائق الدير (بازو) الخارجية بتصميمات غير معتادة ونباتات فريدة.

ساحة اوبرادويرو
ساحة اوبرادويرو

وهناك أيضا قصر راكسوي أمام الكاتدرائية، واتبنى سنة 1766 كمدرسة قديمة للمعترفين وله واجهة كلاسيكية أنيقة على أعمدة من الجرانيت مع أربعة عشر قوسًا نصف قمري. وهو الآن مقر قاعة المدينة والحكومة الجاليكية. ومن أهم المزارات متحف كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا اللي بيضم منحوتات ولوحات فنية ومفروشات، سجاد، وملابس رجال الدين، والسيراميك اللي اشتهرت به المنطقة، وأثاث ومجلدات ومخطوطات. (قريتوا قصة “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو؟).

***

وبعد مشي ساعات في حارات ضيقة مليانة مباني قديمة وحوانيت تذكارية وألوف البشر، وصلنا إحدى أجمل الساحات العمرانية في العالم: ساحة اوبرادويرو، وطالعتنا الكاتدرائية الموجودة على الطراز الرومانسكي مع تأثيرات قوطية وباروكية متأخرة. (اتبنت كاتدرائية كومبوستيلا عام 1168 وتجمع بين التأثيرات الفرنسية والإيطالية والإسبانية). وبها بورتيكو دي لا جلوريا  (رواق المجد)، وقطعة النحت العظيمة في مقدمتها من الجرانيت الملون شاهدة على الزائرين.

كل ما أتذكره من الساعات القليلة داخل الكاتدرائية اللي دخلتها كالمندوهة أو كالمشدودة بمغناطيس هو كتب وأحاديث الدكتور عبد الوهاب المسيري وفلسفته عن تفكيك الإنسان. والمظاهر الكثيرة اللي بيعيشها الغرب من الاستهلاك المادي والإلحاد والجريمة والشذوذ وغيرها من مفاهيم أتصدرت لنا واترستئت في مجتمعاتنا. وكان نفسي أناقشه في اللي أنا شايفاه حواليا. فيه ناس كتيرة كانوا حواليا أتصورهم مؤمنين بربهم وملتزمين بدينهم. وجايين هنا بيدوروا على نفسهم، والدين بيشكل لهم حاجة روحية. ألوف مؤلفة من الناس (540000 زائر يوميا). لم أكن أدرى هل أنظر حولي في مستوى نظري ولا تحت رجلي ولا فوق عالجدران العالية والسقف.

***

وافتكر إني وقفت متسمرة أمام المذبح الذهب في نهاية محور الكاتدرائية، والمشكاوات الذهبية المدلاة والتي تملأ المكان برائحة البخور. لم أسمع ولم أفهم شيئا من همهمات الـ”حجاج” سوى صوت بكاء. نظرت إلى مصدر البكاء فوجدت أكشاك اعتراف خشبية بطول الحائط إلى يساري. ولا أتذكر ما الذي شدني لأحد هذه الأكشاك، هل هو الفضول، أم قوة المغناطيس، أم ذبت في الحالة العامة. وجلست على ركبتي، وسلمت على من بالداخل من خلف الساتر الخشبي المشغول. ولم أفهم كلمة بعد كلمة بوينوس دياس أو صباح الخير.

تحدثت إلى نفسي كثيرا بالعربية الدارجة، داعية الله أن يهديني ويطمن روحي. وشكرته على إتاحة تلك الفرصة لزيارة تلك الأماكن الملهمة، ووضعي في الخبرات الحياتية المتنوعة التي ساعدتني على اكتشاف نفسي. وأمدتني بالطاقة والشجاعة، وأوصلتني سنة وراء الأخرى إلى المصالحة مع نفسي في نهاية طريق سانتياجو. وشكرت القسيس بالإسبانية جراسياس (شكرا) ومشيت وابتسمت لنفسي. فقد كنت أنا في تلك اللحظة “الحاجة” بطلة رواية كويلو.

اقرأ أيضا:

«شنطة سفر»: في مراكش.. المدينة الحمراء

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر