هكذا تحدث إلياس خوري
في عام 1948، نشأ إلياس خوري في جينو «اللد» – قريته المطوقة بالأسلاك الشائكة، حيث شهد النكبات والمآسي الدامية. غير أنه كان بمقدوره أن ينسف تلك الوحدة والعزلة ليشيد عالماً شاهقاً من الصلات والتقاطعات مع مشاهد ووقائع جرت آنذاك، وألمت بواقع اتسع لكل ضروب العذاب الإنساني. تأججت مشاعره وانفعالاته ليكون جزءا من حياة الآخرين، يكتبها ويعبر عنها بصورة موحية وبالغة العمق؛ عبر ذاكرة مفتوحة تسرب كافة تفاصيل الحياة التي عاشها، حيث قرر أن يملأ الفراغ بالفراغ، ولم يكن هذا ممكناً من دون الإطار المصنوع من ذكريات الآخرين وخيالهم. “أنا مجرد راوٍ لما شاهدته وعشته، إن عالم الحكايات هو العالم الحقيقي، والحكاية لدي ليست بديلاً للحياة، بل هي الحياة نفسها”.
فذاكرته لا تسعفه لوصف مآلات المدينة؛ وإن ما كتبه كان مجرد محاولة لفهم أول الأشياء، وهو نهايتها، التي تخص الأغلبية الساحقة من أهل “اللد” الذين مضوا في رحلة تيه لا تزال مستمرة. والحكايات لديه أيضاً تصحو الآن، حيث ظن أن آفة النسيان طالتها، حكايات تبدو كأشباح هائمة في ليل الذاكرة، تصير كلمات، وأراد لهذه الكلمات أن تنام هي أيضاً “فأنا مرهق” وهي “مرهقة”.
***
لقد انتوى أن يكتب حكاية سقوط “اللد” لأنه يجب أن تكون هناك بداية ما للحكاية. لقد سقطت المدينة في 12/تموز/ 1948 “يوم الخراب” لأن الحكاية تبدأ بالسقوط. سقوط آدم من الجنة والتحول من شبيه للآلهة يهنأ بالخلود إلى إنسان عليه أن يعبر الحياة في انتظار موته. كان آدم صورة خلقها الله من الطين، والصورة لا ظل لها؛ عاش آدم في الجنة بلا ظلال ولم يكن يعرف الموت أو ينتظره. سقوطه حوله إلى إنسان، أي إلى كائن يموت ويعي أن الموت هو سر الحياة. هكذا بدأت قصة البشرية، “وأن حين أبدأ بالسقوط، فإنني أتبنى من دون أن أدرى الافتراض أن فلسطين كانت جنة قبل سقوطها فى أيدي الإسرائيليين”.
والجريمة أعقبت السقوط، فمع الجريمة بدأ التاريخ. لا يبدأ التاريخ الإنساني بآدم بل بقابيل. وأولاد نوح ورثوا هم أيضاً ذاكرة الدم، نهاية بالمسيح. لم تتوقف أرض فلسطين منذ حكاية موسى الهارب من فرعون مصر عن تأليف حكايات الأنبياء، بحيث صار الناس مجرد رواه لها؛ أولياء وأنبياء، نعرفهم ولا نعرفهم، أقاموا في “اللد” كي يستقبلوا دموع أبنائها ويساعدوهم في مواجهة الشدائد، من الجراد الذي اجتاح المدينة عام 1916، مروراً بزلزال 1923 والكوليرا 1927؛ لكن كل هؤلاء عجزوا عن منع الكارثة عام 1948، بقوا في قبورهم في انتظار المدد الإلهي.
وتركوا دموع نساء “اللد” تتحجر على أعتاب مقاماتهم التي اندثر معظمها. لم يروقه العودة إلى الماضي؛ لأنها تبدو شكلاً من أشكال الهروب في مواجهة الحاضر. أثارت فكرة الانبعاث خوفه. من قال إن الأحياء يقدرون على احتمال قيامة الموتى؟ الانبعاث أسطورة تصلح للأدب أو للدين، لكنها لا تصلح كمشروع تاريخي.
***
من قال إن ماضي العرب الذهبي كان ذهبياً؟ من قال إن بغداد العباسية كانت مدينة للعدل؟ مؤسس الدولة العباسية ارتبط اسمه بلقب السفاح فسمى أبو العباس السفاح وهارون الرشيد هو بطل نكبة البرامكة حتى مذابح صلاح الدين ضد مسلمين آخرين. فنحن ضحية تقديس الماضي. فإلياس خوري لا يكتب شهادة بل يكتب حكاية مأخوذة من مزق الحكايات، يرتقها بصمغ الألم ويؤلفها باحتمالات الذاكرة. فالجيتو الذي وُلد فيه، واعتقده حيلته وجواز مروره للهرب من قدره في يفاعته، صار في نهاية حياته، هو قدره وأصل وفصل حكايته.
فهو يكتب الحكاية لكي يستعيد ذاكرته ويحفرها في ذاكرة قارئ متخيل لن تصله هذه الكلمات. أننا لا نذكر سوى الموت، لأن الموت أيضاً هو كتاب؛ لا نذكر سوى حالات من الغموض، كالألم الذي صار ذكرى ممحوة؛ نتلذذ استرجاعها؛ هي كلمة مرسومة على ورق الذاكرة. والحفر في الذاكرة هو شكل النسيان، نتذكر في سياق النسيان فتطفو الذاكرة على حياتنا ككلمات متقطعة.
لذا كان معنى سقوط المدينة يعني نهاية العالم؛ فأخبار المذابح والجثث المتحللة والأشلاء، صارت في قاموس أهل الجينو رمزاً لنهاية لا عالم؛ فالمدينة صارت مقطعة الأوصال وسكانها واللاجئون إليها صاروا كالأيتام. ظلت حيرته، هي العجز عن فهم كيف استطاع الناس أن يستخرجوا من هذا الموت واليأس القدرة على اختراع الحياة من العفن الذي عاشوا في وسطه. ما هذه القدرة العجيبة التي تجعل ابن الإنسان قادراً على التأقلم مع الموت، بل على الحياة داخل الموت ذاته؟
***
ربما غريزة الحياة، لأن الحياة تقاوم الموت حتى النهاية؛ وإن ما نسميه غريزة الحياة هو اسم آخر لقدرة الإنسان على التوحش إلى ما لا نهاية. القاتل يتوحش بالعطش إلى الدم والضحية تتوحش برفض الموت. عندما صرخ الأهالي سنموت من الجوع والعطش؛ كانت قد فرغت بركة الوضوء ولم يعد هناك سوى بئر المستشفى، الذي كانت مياهه ملوثة وتصدر روائح كريهة. وصار الأهالي على حافة الموت؛ ومن ثم الكد في البحث عن بيارات الأشخاص. فالجيتو “نشَّف دموع العيون وحليب الأثداء”، تلك صورة من مأساة فادحة؛ ينهض الشباب في السادسة صباحاً، يملأون البراميل ويدحرجونها؛ وفي الخامسة مساءً، يأخذون البراميل إلى البيارة من أجل تعبئتها من جديد.
لقد غادرنا إلياس خوري، ولم تفارقه رائحة الموت ورقصة الموت عبر إجبار الضحايا على الرقص قبل قتلهم؛ ولم تمح ذاكرته من ماتوا اختناقاً وهو يقرعون جدار خزان الشاحنة في رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني وفيلم “المخدعون” لتوفيق صالح؛ ولم يغب عنه الجلاد والضحية؛ فنحن الضحايا.