«لم يقطعوا شجرة».. هكذا تعامل قدماء المصريين مع الطبيعة في بحث صيني

«كيف تعامل المصريون القدماء مع الأشجار للحصول على الأخشاب» من هذا التساؤل قدمت باحثة صينية دراسة في علم الآثار البيئي، مستعينة بقطع خشبية محترقة من قرى مصرية تقع بالقرب من صعيد مصر. حيث كشفت عن كيفية تعامل المصريين القدماء مع الأشجار، وتعد أول باحثة تقوم بهذا النوع من الدراسة المعقدة عن تاريخ مصر، إذ يتطلب البحث استخدام مجاهر متطورة وفهمًا عميقًا للتشريح الخلوي.

كيف تعامل المصريون مع الأشجار؟

نجحت الباحثة الصينية أنجيلا تشانج في كشف جزء من تاريخ مصر ما قبل الأسرات، خلال دراستها في قسم علم الآثار البيئي بجامعة بوسطن الأمريكية، ضمن مشروع مختبر الآثار البيئية الذي يهدف لدراسة تفاعل البشر مع البيئة قديما وفحص هذه العينات القديمة.

يستند المشروع إلى تحليل الفحم الخشبي لفهم كيفية استخدام المجتمعات القديمة للنباتات والأشجار على ضفاف نهر النيل. تناولت الدراسة استخدام الخشب في صعيد مصر ما قبل الأسرات، وسعت “تشانج” إلى تحديد أنواع الأخشاب التي استخدمها المصريون القدماء في هذه الفترة، ومعرفة كيفية تفاعلهم مع بيئتهم وحياتهم اليومية. كما سعت إلى فهم نوعية الأخشاب المتاحة في ذلك الوقت، وكيفية جمعها واستخدامها، واستكشاف الحياة في صعيد مصر والقرى المطلة على نهر النيل.

الباحثة الصينية أنجيلا تشانج خلال مناقشة الدراسة عن الأخشاب المصرية
الباحثة الصينية أنجيلا تشانج خلال مناقشة الدراسة عن الأخشاب المصرية
الحياة اليومية في مصر القديمة 

في حوار خاص مع «باب مصر» تكشف الباحثة الصينية أنجيلا تشانج كواليس الدراسة. وتقول: “من خلال هذه الدراسة أقدم رؤى جديدة حول كيفية تعايش المصريين القدماء مع بيئتهم وكيف تأثروا بالموارد الطبيعية في تلك الفترة”. وتتابع عن البحث المقرر نشره في إحدى المجلات الأكاديمية قريبا. أنها نجحت في فتح فصل جديد ومختلف لفهم حياة مصر القديمة من خلال تفاصيل صغيرة لم تُكتَشف من قبل.

بدأت أنجيلا الدراسة متبعة شغفها بالبحث الذي يمكنها من استكشاف العلاقة بين البشر والنباتات في مصر القديمة. وتضيف لـ”باب مصر”: “أشعر بالسعادة لأنني قادرة على استكشاف تفاصيل حياة المصريين العادية التي لم تُكتَب من قبل على جدران المعابد أو المقابر. وما كانوا يأكلونه أو يستخدمونه، وإعادة التعرف على أنشطتهم اليومية”.

تفسر أنجيلا سبب بدء الدراسة من خلال مختبر الآثار البيئية بجامعة بوسطن، باعتباره مخصصا لدراسة التفاعلات البشرية مع البيئات القديمة، وتحليل بقايا النباتات والحيوانات الأثرية من المواقع في جميع أنحاء العالم. والتي تمتد من العصر الحجري القديم إلى الفترة التاريخية الحديثة.

الباحثة الصينية أنجيلا تشانج
الباحثة الصينية أنجيلا تشانج
رحلة استكشافية عبر الزمن

عندما لا يتم احتراق الخشب بالكامل في المواقد والأفران، يتحول إلى فحم غير عضوي. يوضح هذا الفحم يمكن أن يبقى محفوظا لآلاف السنين. لأن الميكروبات والفطريات لا تتخلص منه بسهولة. مما يجعله دليلاً على تفاعل البشر مع بيئتهم. ترى أنجيلا أن هذا النوع من البحث لم يحظ باهتمام كبير. إذ يركز على الأنشطة اليومية للمصريين العاديين، لكنها وجدت في العينات استكشاف فرصة نادرة للأخشاب المصرية القديمة.

تروي أنجيلا كواليس بداية دراستها في جامعة بوسطن، وتقول إنها بدأت الدراسة بهدف التخصص في علم المصريات، وشعرت أن حلمها يواجه تحديات كبيرة، لكن عندما رأت صندوق الأخشاب الفحمية شعرت أنها فرصتها المثالية للعمل على المواد المصرية النادرة.

تقول: “يوفر الفحم فرصة لفهم النباتات التي كانت تنمو في هذه البيئة. وكذلك الطرق التي تفاعل بها الناس مع هذه الموارد. ويمكن استخدام تحليل الفحم لفحص كيفية استخدامها، وإذا كانت وقودا فقط أم مواد لأغراض أخرى”.

أخشاب مصرية

في مختبر علم الآثار، تدرس أنجيلا العينات باستخدام مجهر مجسم لتحديد أنواع الأشجار التي أنشأت بقايا الفحم. يُعرف هذا التخصص بعلم “الأنثراسكولوجي”. واستعانت بأطالس أخشاب وأدلة أخرى لمساعدتها في التعرف على الهياكل التشريحية للخشب والتفاصيل الدقيقة. ومن خلال هذا التحليل المتعمق، استطاعت تحديد أربعة أنواع مختلفة من الأشجار في المواقع الأثرية التي درستها: الطرفاء، السنط (الأكاسيا)، السنط النيلي (أو السنط المصري)، والفيديربيا البيضاء (أو السنط الأبيض).

بدأت بتحليل درجة انحناء كل قطعة من الفحم لتحديد ما إذا كان الخشب يأتي من فروع صغيرة أم جذوع كبيرة. كما بحثت في وجود أي خيوط فطرية، وهي ألياف طويلة متفرعة من الفطريات، لمساعدتها على معرفة ما إذا كان الخشب قد قُطع حديثًا من الشجرة أو كان موجودًا على الأرض قبل جمعه للحرق.

من خلال دمج بيانات الانحناء والخيوط الفطرية، تمكنت هي وزملاؤها، جون مارستون وطالب الدكتوراه بيتر آر كوفاتشيك، من طرح فرضية مثيرة. تفيد بأن المصريين القدماء لم يقطعوا الأشجار قديما. بل كانوا يجمعون فروعًا ذات قطر صغير، كأخشاب من الأرض. التي تتساقط في مواسم الخريف والربيع، ويخزنونها بدلاً من قطع الأشجار الكبيرة.

وتقول الباحثة الصينية: “كان المصريون القدماء حريصين على بقاء الطبيعة دون تعديل. ولم يقطعوا الأشجار لحرق أخشابها، بل كانوا يستغلون كل الموارد من حولهم والتي كانت وفيرة في عصرهم”. واستنتجت أنجيلا أن المصريين القدماء عاشوا قرب صعيد مصر في أوقات موسمية، وكانوا يترددون على المدن الكبرى خلال أوقات في العام. بعد الانتهاء من تحليلها، أدخلت “تشانج” نتائجها في قواعد بيانات يمكن للعلماء الأثريين من جميع أنحاء العالم الاستفادة منها في أبحاثهم المستقبلية.

صندوق عينات من الخشب الفحمي من مصر المحفو في جامعة بوسطن الأمريكية
صندوق عينات من الخشب الفحمي من مصر المحفو في جامعة بوسطن الأمريكية
كيف وصلت قطع الفحم الخشبي إلى جامعة بوسطن؟

تعود القصة إلى أواخر الثمانينيات، عندما قامت عالمة المصريات كاثرين بارد، أستاذة الآثار والدراسات الكلاسيكية، بزيارة مصر لإجراء مسح استطلاعي. وخلال رحلاتها، زارت منطقتين في صعيد مصر بالقرب من مدينة نجع حمادي الحديثة من عصر ما قبل الأسرات. ووجدت “بارد” العديد من الاكتشافات المهمة، مثل أدوات زراعية وفرن يحتوي على بقايا من الخبز والفخار والخشب.

جمعت “بارد” عينات من الفحم الخشبي من هذه المواقع لتأريخها بالكربون المشع، لكن هذه العينات ظلت دون تحليل لسنوات طويلة بسبب تحديات العمل الأثري، مثل نقص الموظفين والوقت اللازم لكل مشروع. عندما تقاعدت “بارد” في عام 2022، قدمت العينات إلى جون مارستون، أستاذ علم الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة بوسطن، الذي يقود مختبر علم الآثار البيئي ويهتم بالتحليل الأثري.

أشرف مارستون على دراسة أنجيلا، وتستكمل: “هناك أهمية أخرى للبحث، وهي إجراء الدراسة خارج أراضي مصر. لأنه منذ أوائل التسعينيات أصبحت القوانين متشددة في مصر بسبب تصدير المواد الأثرية. أما عينات الفحم الخشبي فهي توجد في الخارج قبل إقرار هذه القوانين، وتطالب الحكومة المصرية الآن باستعادتها”.

الباحثة الصينية أنجيلا تشانج مع زملاؤها
الباحثة الصينية أنجيلا تشانج مع زملاؤها
دراسات قادمة 

بعد الانتهاء من هذه الدراسة، قررت أنجيلا توسيع نطاق بحثها ليشمل استخدام البيانات الجغرافية في مصر القديمة. وتقول “تشانج” إن هذه البيانات قد تساعد في تحديد المواقع التي جمع فيها الناس عينات الأخشاب والفحم.

تطمح الباحثة في علم الآثار البيئية وعلم الآثار النباتية لدراسة إشكالية أخرى، وهي ما إذا كانت هناك غابات في مصر قديما وكيف كان مصيرها. وتضيف: “سأتطرق إلى قضية الغابات المصرية في الدراسة القادمة، واستخدام علم الآثار لإيجاد طرق جديدة للمحافظة على البيئة مثل القدماء”.

اقرأ أيضا:

فضيحة مالية تهدد معرض «توت عنخ آمون» في اليابان

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر