«شنطة سفر»: ليالي الأنس في فيينا (2-2)
فيينا هي معقل «الآرت نوفو» وهو توجه من الفنون والتصميم يتميز بالديناميكية والحركة والميل إلى أشكال الأزهار والأشكال المستوحاة من النباتات المتَمَوُّجة، والخطوط المتَدَفُّقة، وبالأقواس المختلفة، والخطوط ذات الإيقاعاتِ المتغيرةِ. بدأ في أواخر القرن العشرين، واشتهر في مطلع القرن العشرين. وإذا ذكرت فيينا و”الأرنوفو” ذكر “جوستاف كليمت” واللي عاش مآسي في حياته. أثّرت على رؤيته الفنية وسَرَعان ما اتجه نحو أسلوب شخصيٍّ جديد وهو إدراج الحقيقة المجردة كشخصية رمزية في بعض أعماله ودي العلامة المميزة لأسلوبه.
نزلت مرة من الفندق آخد المترو الخشب القديم من المحطة عشان أزور منزل هوندرتفاسر. ركبت خط مترو غلط، ونزلت معايا سيدتين يركبوني المترو الصح، وفاتهم المترو بتاعهم، قالوا لي مش مشكلة، اللي بعده جاي كمان 3 دقايق. ووصوا السواق ينزلني عند البيت. وفعلا لما قربنا لقيت المترو بيزمر والراجل بينده عليا في المايكروفون: “الست اللي عايزة تنزل عند منزل هوندرتفاسر تحضر نفسها”. “الست اللي عايزة تنزل عند منزل هوندرتفاسر تحضر نفسها” “الست اللي عايزة تنزل عند منزل هوندرتفاسر تحضر نفسها”. وفجأة لقيت كل الناس في المترو بيندهوا لحد ما فهمت ورحت له أشكره ونزلت.
***
هوندرتفاسر عمارة سكنية صممها الفنان النمساوي فريدنسريتش هوندرتفاسر وفقًا لأفكاره الخاصة عن العمارة الخضرا وقتها -فقد كان ينتمي إلى حزب الخضر- وتعتمد على الطبيعة والمهندس جوزيف كراوينا. وكان هوندرتفاسر رسام ونحات ومعماري ومصمم جرافيكي وعالم بيئة. وغير أنه ملون وجدرانه ملتوية، فتبدو وكأنها تتدفق داخل وخارج بعضها البعض وتتميز بأرضيات متموجة وأسقف مغطاة بالتراب والعشب، وأشجار كبيرة تنمو من داخل الغرف، وتمتد أطرافها من النوافذ يوجد داخل المنزل 53 شقة وأربعة مكاتب و16 شرفة خاصة وثلاثة شرفات مشتركة وما مجموعه 250 شجرة وشجيرة. ولم يتقاض المعماري أي أجر، وأصبح المنزل مزارا وجزءا من التراث الثقافي للبلاد.
وفي الجهة المقابلة للمبنى تم تصميم مدينة ترفيهية ومنطقة تسوق وألعاب تحتوي على مطاعم وكافيتريات مستوحاة ومكملة لهذا المعلم. وبالقرب من البيت تم بناء متحف بيت الفنون فيينا وهو المكان الرسمي الوحيد الذي يحافظ على عرض دائم لأعمال هوندرتفاسر المبنى نفسه صُمم ليكون قادرًا على عرض الأعمال بطريقة مبهجة. يستقبل الموقع أكثر من 170 ألف زائر كل عام، مما يجعله وجهة سياحية شهيرة للغاية في فيينا.
كما ذكرت قبلا، قبل زيارة أي مدينة أشاهد على الأقل فيلم سينمائي تم تصويره في المدينة، وأكثر ما تم التركيز عليه في الفيلم هي ساقية الملاهي. مشي 20 دقيقة من شارع إقامتي، ونتنقل لعالم السحر. افتتحت الملاهي سنة 1897 وهي من أفضل الأماكن الترفيهية في فيينا. فيها كل ما يمكن تخيله ولكل الأعمار. وفيها حاجات كثيرة غير اعتيادية ومرعبة فعلا، ومجموعة كبيرة من الألعاب المائية وصالة بولينج، وصالة تزلج على الجليد، وعدد كبير من ألعاب الفيديو والسينما خماسية الأبعاد، ومتحف مدام توسو في فيينا، ومتحف الشوكولاتة (موظفي التذاكر في مدام توسو ميزوا رائحة بارفان النارسيسو رودريجز الوردي الفاتح-برافو). مش كمية الألعاب بس اللي بهرتني، لكن المتحف اللي يحكي تاريخ النمسا وفيينا بالبانورامات والمجسمات، والذوق العام المبهج بدون بهرجة، والأكل اللي في متناول الجميع، والنظافة، ومعاملتهم لأمينة لما كانت معايا وبالمناسبة إحنا شفنا الويل في بيت الرعب.
***
مش محتاجة برضه أقول إن في فيننا بيشجعونا نشرب من الحنفية، وأن الشوارع كلها حنفيات، والأعمدة فيها أكياس لروث الكلاب عشان الناس اللي بتمشي كلابها ينظفوا وراهم، وفيه صناديق لوضع الروث دة وكثير من الحدائق فيها مشاتل الناس بتروح تأخذ الروث دة وتشغله سماد عضوي في ساعتها. في فيينا معظم الأماكن العامة فيها واي فاي. في فيينا رحلات وفسح العجل لازم تشتمل على فسحة في المقابر.
آه، بمناسبة المقابر، فمقابر فيينا المركزية مبنية على طراز الآرت نوفو. فضلا عن المساحات الخضراء المورقة الوفيرة التي تجعل المقبرة منطقة ترفيهية محلية شهيرة. تعد إحدى أكبر مناطق المقابر في العالم، وأكبر مقابر أوروبا من حيث عدد المدفونين فيها، وأشهر مقابر فيينا. تم افتتاحها في عام 1874 وتبلغ مساحتها حوالي 2 كيلومتر مربع وهي ثاني أكبر مقبرة في أوروبا. تضم المقبرة شواهد على تاريخ النمسا الحديث من مشاهير وأحداث تاريخية. فإلى جانب كبار مشاهير نهايات الحقبة الإمبراطورية تضم المقبرة رفات قتلى الحربين العالميتين والثورات التي شهدتها النمسا.
بالإضافة إلى ضحايا الإعدامات التي قام بها النازيون ولم يقتصر الدفن فيها على طائفة دينية دون أخرى. فتشتمل كذلك على جزء يهودي تأسس عام 1877 يضم رفات أبناء الجالية اليهودية التي كانت كبيرة في ذلك الحين. وجزء إسلامي صغير افتتح عام 1890. من أشهر المدفونين بها الموسيقيين الكبار سالييري وبيتهوفن وشوبرت وبرامز وشتراوس الأب والابن والمعماري أدولف لوس وغيرهم. وعدد من الشخصيات التاريخية من رؤساء وكتاب وأطباء وسياسيين وعلماء.
وفيها كذلك كنيسة/مقبرة القديس كارل بوروماوس من أجمل النماذج المعمارية الآرت نوفو. وقد خلد الموسيقي النمساوي فولفغانغ أمبروس ذكرى افتتاح المقبرة بأغنية بعنوان «تحيا المقبرة المركزية» سنة 1975. في ذكرى مرور قرن على افتتاح المقبرة. المقبرة هي جنة من صنع الإنسان ومكان مثالي للمشي لمسافات طويلة والجري للعدائين وركوب الدراجات. وهي موطن للغزلان، الهامستر، السناجب، والعديد من الأنواع الأخرى من الحيوانات والطيور النادرة.
***
من الحاجات المهمة المشهورة في فيينا هي الأكل. الوجبة الرئيسية وهي الـ”فينر شنيتزل” من البيف (لحم بقري، عجل بالذات) وهي زي البانيه بتاعنا. لكن لازم القطعية تكون كبيرة ولازم “البانيه” يكون منفوش ع الآخر. ويتم تقديمها مع الليمون أو البطاطس المقلية أو سلطة البطاطس أو الخيار. وهي منتشرة في مختلف أكشاك بيع الأطعمة وكذلك في المطاعم الراقية في مدن النمسا. وشترودل التفاح (زي الآبل باي) بالزبيب والقرفة والسكر. ويتم تغليفها في النهاية بطبقة عجين رقيقة وخالية من الخميرة. وغالبا بتتقدم مع صوص الفانيليا أو الآيس كريم أو الكريمة.
وفيه كمان نقانق فيينا وهي جزء لا يتجزأ من مطبخ النمسا الرائع، ومن أهم ما يميز هذه النقانق أنها سهلة التحضير وتتم صناعتها من اللحم البقري أو لحم الخنزير، وتكون مغطاة بأمعاء أغنام، وهي عبارة عن نقانق مسلوقة ورقيقة. وتختلف قليلاً عن النقانق التقليدية الألمانية. وهي غالبا ضمن الأطباق الرئيسية وبتتقدم مع مخلل الكرنب وسلطة البطاطس والفجل مع الكاتشاب والمسطردة، وتقدم كذلك في سندوتشات في الشوارع. آخر حاجة هي البرتزل، زي السميط بس محمص أكثر من برة، وبيكون على أشكال فيونكات بكل المقاسات. اختتم كلامي عن الأكل ببسكوت الويفر الأشهر ماركة فانرو، الشيكولاتة ماركة موتزارت، واللي لازم نخلي بالنا عشان غالبا فيها أنواع بالكحول. والاثنين بيتباعوا في علب صاج جميلة جدا جدا صالحة لأدوات الخياطة بعد كدة.
وزي ما أتعودت وذكرت قبل كده، فأي مدينة بيكون نفسي أحس بيها مش بكتفي بالبحث عن معالمها ومزاراتها. سواء كمعلومات متاحة للسياحة أو صور وفيديوهات. لكن بدور ع الأفلام السينمائية المتصورة فيها. وقبل ما أزور فيينا لأول مرة أتفرجت على عدد من الأفلام. لكن اللي أثر فيا كان فيلم “قبل شروق الشمس 1995”. واللي برضه ما إداش المدينة حقها. ولما نكون في النمسا، أكيد ما ينفعش نفوت فرصة لقضاء يوم في سالزبورج، مدينة موتزارت ألفا الموسيقى الكلاسيك ومدينة فيلم صوت الموسيقى. وزي ما في كذا فصل من فصول الكتاب.
***
في أوروبا والدول المتقدمة لما بينجح فيلم أو مسلسل، مكان التصوير بيكون مزار. وبيعملوا رحلات سياحية مخصوص، ودة من ضمن طقوسي في السفر. فعلا، حجزت عن طريق الفندق رحلة سالزبورج. كان المرشد بيتكلم إنجليزي وإسباني (ولغة الإرشاد بتكون موضوعة في الاعتبار طبعا). وكان الأمريكان يستمعوا باهتمام ويسألوا، ولما ييجي وقت الشرح بالإسباني يقوموا الأمريكان يتكلموا ويضحكوا ويغنوا بصوت عالي للحد اللي خلق خناقة بينهم وبين سياح أمريكا اللاتينية الموجودين. المهم، بيكون لينا وقفتين، واحدة فيهم عند بحر الشمال، واللي فاجأتني نقاءه وطعم مياهه. والوقفة التانية في كافيتريا، وكأنها كمان بلاتوه تصوير، الديكورات من الخشب الغامق والغشيم، والمضيفات سيدات بدينات ذوات وجوه حمراء، مرتديات مرايل المطبخ الكاروهات أحمر في أبيض زي مفارش الترابيزات الخشب، وعاملين شعرهم الأصفر ضفيرتين، زي إعلانات المراعي والجبنة واللبن وخيرات الطبيعة والحاجات دي.
ماجات شرب القهوة فخار كبيرة، والبيرة الدرافت بتنزل من أجهزة نحاسية عتيقة في شوبات زجاجية نص لتر مضلعة. من ضمن المعلومات اللي قالها المرشد هو عدد الشجر اللي في الغابة واللي بالملايين، وأنا لحد دلوقتي حتجنن أعرف بيعدوه إزاي! المهم، بعد نص السكة توقف الشرح واشتغلت موسيقى فيلم “صوت الموسيقى” وابتدينا نغني بكل حماس.
ولما وصلنا زالزبورج، أخدنا المرشد في الجولة وكل ما نكون في حتة تم فيها التصوير، يورينا صورة من الفيلم ويعزم علينا يساعدنا نأخذ صورة زيها. ومن أهم الصور بوابات الحديقة اللي الأطفال اتشعبطوا فيها وكانوا لابسين ملابس اللعب اللي صممتهالهم ماريا من قماش الستاير. والنافورة، وكشك الحديقة اللي غنت فيه البنت الكبيرة مع صديقها ساعي البريد. والمقبرة اللي استخبوا فيها من النازية ودي بالذات كان عليها طوابير.
***
بعد كدة زرنا البيت اللي أتولد فيه موتزارت واللي بيبص على سوق، وواحد من أكتر متاحف الشخصيات زيارة في العالم كله. والسوق تحت البيت من أجمل وأروع وأرخص أسواق “الكل حاجة وأي حاجة”. أهم معالم سالزبورج قصر وحدائق ميرابل والكاتدرائية وميدان المدينة والقلعة، والشوارع الضيقة والمحلات المحلية واللي مشترط تكون لافتاتها وديكوراتها متناسقة مع عراقة وفخامة وكلاسيكية المدينة. برضه فيه رحلات بالحنطور زي فيينا في عربات وملابس على طراز الباروك. وفيه أكتر من مكان للأكل على موسيقى موتزارت بملابس القرن الثامن عشر. وأخيرا، أشهد بصدق تعبير أحمد رامي لما كتب يوصفها: “دي ڤييننا روضه م الجنة – يسعد لياليكى يا ڤيينا – نغم ف الجوّ له رنّة – سمعها الطير بكا وغنّا”.
اقرأ أيضا:
«شنطة سفر»: ليالي الأنس في فيينا (1-2)