«شنطة سفر»: ليالي الأنس في فيينا (1-2)
كانت أستاذتي وأختي، أ.د إيمان النشار، دايما تحكي لي عن المدن اللي بتسافرها. أفتكر دايما كلامها عن فيينا، إنها زي الجنينة الكبيرة، اللي مليانة تماثيل مع خلفية موسيقى كلاسيك في الودن في أي مكان. إيه المبالغة دي! أول مرة زرت فيينا كانت مع مؤتمر، وكنت أتعلمت أحجز لنفسي مكان إقامة إما جنب مكان الفعالية اللي أنا رايحاها، أو في القلب التاريخي لو مسافرة سياحة.
حجزت حجرة في فندق اسمه إيرزيريس بورغ راينر ويقع في شارع فيدنرهاوبتستراس. الشارع دة من محطة المترو كارل بلاتز المركزية مباشرة، وبيعدي فيه الأتوبيس والترام القديم الخشب والمترو. لما بنوصل مطار فيينا، بنركب القطر للمحطة ونطلع نلاقي نفسنا في جنينة كبيرة، فيها كافيريات صغيرة وهادية وأمامنا جامعة “فيينا التقنية”، اللي حاجي لها مرة تانية فيينا، أشارك فيها في معرض، ومرة ثالثة أشارك في مؤتمر وتكون بنتي أمينة بتحضر معايا.
الفندق كلاسيكي عمره أكتر من 100 سنة. قريب جدا من كل حاجة حلوة في فيينا. في الأوتيل قاعة متحف صغير لصوره وديكوراته زمان قبل ما يتدمر في الحرب العالمية الثانية، وبيعرض إزاى الأسرة المالكة للفندق أعادت بنائه على ما كان عليه بعد الحرب. الشارع مليان كافيتريات جميلة ومحلات لكل شيء خاص بالبيت، ومحلات تجميل وكذا مكتبة ومحلات أدوات مكتبية جديدة ومستعملة ومحلات ملابس وأدوات بيت مستعملة وكانت أول مرة أعرف إن دة عادي جدا في أوروبا. كل مرة أزور فيها فيينا يكون الشارع دة عنواني.
***
بعد التعويم في 2016 قعدت في فندق تاني في نفس الشارع لكن ما انبسطت، وبعدها اليورو غلي علينا تاني وكنت تعودت على حجز الإقامة عن طريق الإير بي إن بي. في المرة اللي جت أمينة معايا فيها أجرنا استديو في نفس الشارع من واحدة فنانة بوهيمية وكانت تجربة ثرية جدا. كانت الشقة في الدور الثالث أو الرابع، وبتبص على الفناء الخلفي اللي كله شجر عالي وجميل. والست عندها كمية مقتنيات من دول العالم على رأسها الهند. ندخل، على شمالنا صندوق الجزامة ومراية وشماعة وعلى يميننا التواليت والحمام اللي فيه الحوض والدش والغسالة. وبعدين نلاقي المكان المفتوح اللي فيه مكتب زجاج كبير، وسفرة صغيرة يفصل بينها وبين المطبخ أرفف مفتوحة من الناحيتين. يعني حاجة السفرة من ناحية وحاجة المطبخ من ناحية.
ندخل على أوضة النوم اللي فيها مكتبة كبيرة وكنبة وتليفزيون وكل الإكسسوارات اللي في المكان ده هندي. كانت أمينة بتحب أحضر لها أكل اليوم اللي بناخده معانا واللي بيشتمل على (ساندوتش + فاكهة + عصير + بسكوت الويفر النمساوي المشهور الجميل)، ولازم نحط الأكل في أكياس ورق بنى قبل ما ترجع تنتشر في مصر ويبقى لها تصميمات حلوة زي دلوقتي. الحقيقة الاستديو كان يشرح القلب وفيه كل حاجة الواحد محتاجها وفرشه كان جميل جدا. عيبه الوحيد هو رائحته. كانت رائحته هي رائحة الكلب رفيق الفنانة واللي كان كلب كبير وحاولنا نغير ريحة المكان بكل الطرق وما عرفناش. لكن جمال الاستديو يجب النقطة دي.
وغير حكاية الست صاحبة الاستديو فيه كذا حكاية معلمة معايا عن ناس فيينا أحب أكتبها عشان أفتكرها دايما. فيه مثلا حكاية الكوافير اللي كان في الشارع اللي كنت ساكنة فيه، راجل تركي لما عرف إني مصرية مسلمة عرفني بنفسه إنه تركي ساب تركيا من زمان وخرج من الدين وقعد يبرر لي ليه هو مش مقتنع بالإسلام. ودي كانت من المرات الأولي اللي أسمع فيها كلام زي ده وأحاول أفهم.
***
فيه كمان حكاية صاحبتي المعمارية باربرا فللر وصاحبتها الألبانية الأصل ماري هيلين. باربرا زميلتي من برنامج العمارة والأطفال بالاتحاد الدولي للمعماريين وكانت خايفة تيجي مصر عشان اللي كان في الإعلام بعد الثورة واستمر لكذا سنة، وكل ما أروح فيينا نتقابل وتعزمني على قهوة وحلوى فيينا الشهيرة في أجمل كافيتيريات فيينا. المهم، مرة بعتت لي قالت لي جارتي جاية مصر وياريت تقابليها. وقابلت ماري هيلين لأول مرة في كافيتيريا الهناجر، والكلام جاب بعضه.
اكتشفت أن ماري هيلين ألبانية عاشت أول 10 سنين من حياتها في مصر، وبتحب مصر جدا، وكل يوم تأكل أكلة من نفسها: فول، ملوخية، محشي، باذنجان مخلل، فتة، وكله أكل شارع لدرجة إن أنا قاولوني تعبني، وهي ما شاء الله، عارفة كل حتة وكل محل ومين أكله أحلى. وقالت لي إن بيوت مصر نظيفة زي الفل نقدر نأكل فيها من عالأرض، ودة مش موجودة في أي بلد تانية.
وحكت لي حكايات كتير عن حياتها في مصر وهي صغيرة. وطلبت منها تحكي الكلام دة لباربرا، وتقول لها إن مصر أمان، وتشجعها تيجي. لفيت مع ماري هيلين لما جت مصر، وزارت بيت المعمار وحضرت ورشة عمل من بتوع الأطفال، وتبرعت لشراء خامات. ومرة تانية جابت لأمينة هدية وكارت وأدتها فلوس بمناسبة عيد ميلادها. وأصبحنا ماري هيلين وأنا على تواصل دائم من خلال الرسائل، ولما أزور فيينا، ولما هي تيجي القاهرة.
***
أول مرة ليا في فيينا كان المفروض أقابل الناس بتوع المؤتمر في كافيتريا على الدانوب. نزلت قبل الميعاد بمدة كافية عشان “أتسنكح” وأحس بالمدينة. ولما شفت فرع الدانوب لقيته صغير وضيق، لكن شفت عليه حاجات جميلة محفورة في بالي كل ما بشوف نيل القاهرة. إتاحة النهر لسكان المدينة هي كلمة السر. إتاحة النهر يعني المدرجات اللي الناس كلها بتقعد عليها تبص عالنهر، يعني المشايات اللي الناس تقدر تجري وتركب عليها عجل وتقدر تتسابق على ألواح التزلج أو الأطفال اللي تجري بسكوتر أو الكلاب اللي بتتمشى مع أصحابها.
يعني الكافيتريات الرخيصة اللي بدون حد أدني للطلبات. علاوة على منظر كنت أول مرة أشوفه، وهو عمل شواطئ رملية عامة ووضع شماسي قماش وكراسي بلاج قماش زى بتاع مصايفنا القديمة متاحة لكل الناس!!! مناطق مفتوحة أخرى بها حوائط متروكة للناس ترسم وتلون جرافيتي وتعبر عن نفسها، بالإضافة الى المراكب النهرية المتحركة واللي بعضها يا إما كافيتريات لطيفة يا إما مطاعم أنيقة.
فعلا فيينا هي مدينة الموسيقى الكلاسيك، من المطار للقطر للأتوبيس السياحي. موتزارت وشتراوس مقررين على المدينة زي الخضرة والتماثيل والعجل. أماكن الموسيقى هي العلامات الأساسية على الخريطة وبالتالي كل يوم مساء حضور عرض موسيقي في مكان. أنا ابتديت بالميوزيك فيرين وحديقة المدينة (وتليتها بكاتدرائية سان ستيفن) ولما أمينة كانت معايا حضرنا في أماكن أكتر. ودي مجرد ثلاث أربع أماكن من كتير جدا.
***
الميوسيكا فيرين هو “هيئة موسيقى فيينا” أو “مجتمع محبي الموسيقى في فيينا” والمنطقة الوسطى في فيينا كلها أماكن موسيقية لكن المبنى ده عريق وفخم جدا ومبني على الطراز النيو كلاسيك ويبدو كمعبد إغريقي. وتزين سور سطحه تماثيل كبيرة لموسيقيي النمسا.
القاعة الكبرى “الذهبية” تسع لحوالي 2000 شخص. أسامي بقية القاعات الست زجاج ومعدن وحجر وخشب. بالقرب جدا وفي قلب فيينا فيه حديقة المدينة أو الشتاد بارك المصممة على طراز الحدائق الإنجليزي واللي مقسومة لقسمين بسبب أن نهر فيينا بيعدي فيها (فيه حكاية مرتبطة بمصر خاصة بالجنينة والكوبري اللي عالنهر مش فاكراها للأسف). الدخول زي أي حتة مجاني، والناس بتستمتع بالخضرة، وكل شوية نلاقي تمثال لفنان أو كاتب أو موسيقي وأهمهم يوهان شتراوس الابن.
وفيه مبني “كورصالون” له تراس كبير، تقام فيه العروض اللي فيها فقرات متنوعة واللي تشتمل برضه على مقتطفات أوبرا أو باليه، واللي بتكون بالأزياء والرقصات وممكن مع العشاء. يوهان شتراوس بجلالة قدره عمل فيه كونسرت سنة 1868. والحمد لله إني أول مرة زرت فيينا كان اليورو بسعر معقول وقدرت أحضر حفلة في أوبرا فيينا. وما أدراك ما أوبرا فيينا؟ واحدة من أجمل دور الأوبرا في العالم. وهي على طراز معماري كلاسيكي يشرح القلب وكمية رخام وتماثيل وفخامة وعراقة. وتتسع لأكتر من2000 زائر وعدد كبير من الموسيقيين.
***
الحكاية الملهمة المرتبطة بالأوبرا أن بعد تعويم الجنيه أصبح من المحرمات عليا شراء ولو حتى أرخص تذكرة. إدارة الأوبرا مثبتة شاشة عملاقة على جانب الأوبرا اللي بيطل على رصيف عريض وبتعرض عليه إعلانات الحفلات. بعض العروض التي تقدم بالداخل يتم عرضها على الشاشة، مع وجود كراسي بلاستيك بالخارج على الرصيف، والكثير من أكشاك المشروبات والمأكولات. يعني الناس حتتثقف حتتثقف. أحب أشير برضه للشتيفن دوم أو كاتدرائية سان ستيفن اللي بتمزج بين طرازي الرومانسك والقوطي وبيرجع تاريخها للقرن الثاني عشر. وشهدت أهم أحداث الإمبراطورية المجرية النمساوية وسقفها كله بلاطات ملونة. ويقام فيها حفلات موسيقية يومية، وكمان حفلات غنائية لأهم الموسيقيين المعاصرين في العالم لتشجيع السياحة زي سارة برايتمان. وعلى مدار زياراتي لفيينا، دايما الكاتدرائية فيها شغل ترميم، لكنها عمرها ما كانت قافلة ولا “منزوعة” الأنشطة.
بالنسبة لي هو أهم حاجة تتعمل في فيينا هي الأتوبيس السياحي، واللي منها بننزل ندخل المتاحف في حي الفنون ونتفرج على حي اليهود والحي اللي عاش فيه سيجموند فرويد ونزور بيته والقهوة اللي كان بيقعد فيها، وكمان بنروح الجنينة الكبيرة (حديقة المدينة). أما بخصوص العالم النفسي الأشهر سيجموند فرويد، ففي شارع برجاسة رقم 19. أقام واشتغل في المكان دة لمدة 47 سنة. المكان زي ما يكون سايبه إمبارح. فيه الورق والصور وكل متعلقات الراجل. ومن خلال الرحلة، بنتعرف على معاناته اللي شكلت دماغه، وبنسمع حكايات أصدقاؤه وزملاؤه وأهمهم كارل يونج، وجيرانه. وفيه كمان قهوة باسمه ممكن نقعد فيها شوية. وكنت قريت قصة حياته الملهمة في كتاب/رواية “شغف العقل” أهداه لي الله يرحمه أنكل سامي والدي الثاني قبل زيارتي لبيت فرويد.
اقرأ أيضا:
«شنطة سفر»: في سلوفينيا بصحبة السيدة مونيكا كوزنار(2-2)