زهدي في السجن: رحلة شيخ رسامي الكاريكاتير

كان والد زهدي العدوي يمتلك استوديو للتصوير في مدينة الزقازيق وكان زهدي يمضي أوقاتًا طويلة يقلب في مجلدات الصور يتأمل الوجوه والملامح. ومن العجيب أن الصور الفوتوغرافية لم تشد انتباهه بقدر ما شدت انتباهه الرسوم الكاريكاتورية التي كان يراها الصبي الصغير في مجلة الكشكول، ومجلة خيال الظل. فقد لاحظ أن ملامح سعد زغلول التي كان يرسمها الفنان رفقي أكثر إقناعا في التعبير عن شخصيته من الصور الفوتوغرافية. وهكذا أحب الرسم وبدأ يزاوله وفي عام 1933 جاء إلى القاهرة بمفرده وقتها كان طالبا في الكفاءة، لكنه آثر أن يترك دراسته لكي يأتي للقاهرة.

كمساري سياسي

وفي شارع رمسيس قادته قدماه إلى محل لرجل أرمني كانت وظيفته كتابة اللافتات وطلب من زهدي أن يعمل معه. وذات يوم لمح إعلانا في الجريدة عن طلب وظيفة “كمساري” فذهب فورا إلى الشركة. وحصل على الوظيفة براتب 4 جنيهات ونصف، وفي هذه الإثناء كان يداوم على الذهاب كل مساء إلى حديقة الخديو أمام كوبري قصر النيل. وهناك تعرف على مجموعة من الشبان اكتشف أنهم يتكلمون في السياسة.

ومن هنا بدأ يشارك نشاطهم السياسي وعرض عليهم بعضا من رسوماته وأعجب بها شابا اسمه أحمد رفعت واصطحبه إلى منزل عائلته ليرسم جده. وبدأ يرسم ويكسب سواء من عمله في شركة الأتوبيس أو من الرسم، وفي تلك الفترة وقعت أحداث كوبري عباس وانتشرت المظاهرات. وكانت تعليمات شركة الأتوبيس ألا يخبر أحد عن خط سير الأتوبيسات، ولكن زهدي أخبر رفاقه السياسيين فاصطادوا الأتوبيس في المنيل، وعندما عرف رئيس الشركة الحكاية فصلوه من الشركة.

وكان زهدي أحد شهود واقعة كوبري عباس. فقد شاهد الأحداث كاملة، شاهد مقتل عبدالحكم الجراحي وعبدالمجيد مرسي. ورسم تلك الأحداث وشاهد رسوماته محمد زكي عبدالقادر، صاحب مجلة الفصول، ونشر لها بعضا من رسوماته في المجلة وبعدها عمل في مجلة “غريب” ونشر بها رسوماته عن حادث كوبري عباس. واستمر في العمل حتى جاء يوما قال له صاحب المجلة إن الفنان رخا قد خرج من السجن وسيعود للعمل في المجلة، وفهم زهدي الرسالة وترك المجلة.

مدرسة الفنون بدلا من مدرسة البوليس

قرأ زهدي ذات يوم إعلانا عن مدرسة البوليس المخصوص وذهب للالتحاق بها. وطلب منه الموظف المسؤول بعد أن أدى كل الاختبارات “شلن” لكي يزكيه ووعده بإحضار الشلن في صباح اليوم التالي. لكنه وهو عائد لمنزله دخل معرضا للفنان عبدالقادر رزق وأعجبه تمثال له، فأخذ يرسمه وجاء فنان آخر وهو عبدالسلام الشريف. وسأله إن كان طالبا في مدرسة الفنون الجميلة. فقال له: لا، فنصحه بالالتحاق بها وبدلا من مدرسة البوليس المخصوص التحق زهدي بمدرسة الفنون وبدأ مشوار الدراسة والعمل. وتخرج فيها عام 1942 وكان من زملائه جمال السجيني.

رسومات زهدي المصاحبة لقصيدة بيرم التونسي
رسومات زهدي المصاحبة لقصيدة بيرم التونسي
فلفل وشطة

كانت هناك مسابقة أقامتها سينما “ديانا” لرسم شخصيات لوريل وهاردي ومونتجمري بالكاريكاتير. وكان الحكم هو جمهور السينما ورسمهم زهدي وحصل على الجائزة الأولى، وحقق له هذا الفوز شهرة كبيرة داخل مدرسة الفنون الجميلة. ووقتها أراد جوان سانتوس، رسام دار الهلال، أن يسافر في إجازة فبعثت المجلة إلى مدرسة الفنون تطلب منها ترشيح بديل.

وهكذا عمل زهدي في مجلة المصور وبدأت رسوماته تتصدر أغلفة المجلة. ثم رسم في مجلة “الإثنين” وعمل أيضا في مجلة روزاليوسف، في ذلك الوقت كانت رسومات زهدي قاسما مشتركا في كل الجرائد والمجلات. والتقى بأدجار جلاد صاحب جريدة الزمان وعرض عليه العمل براتب 40 جنيها بشرط ألا يعمل في أي جريدة أخرى. وابتكر شخصية ولد فلاح اسمه فلفل وشاهدها أدجار جلاد ووقع معه عقدا لاحتكار هذه الشخصية.

ثم ابتكر شخصية بنت اسمها شطة وبعدها ابتكر شخصية مالك الأرض. ورسم رسومات استفزت السرايا، منها رسم لمالك الأرض يكلم طبيبا بيطريا. ويقول له بعد أن تفحص البهائم أرجوك اكشف على هذا الفلاح. واستمر في الرسم في جريدة الزمان حتى استدعاه جلال الدين الحمامصي. وكان رئيسا لتحرير الجريدة وطلب منه تخفيف هذه النبرة التي تستفز السرايا. ثم بدأ يغير من التعليقات التي كان زهدي ومأمون الشناوي يكتبانها معا. ولم يعجبه ذلك وطرد من المجلة بل من الصحافة كلها بعد أن غضبت عليه السرايا.

بداية المعركة

تعرف زهدي على صلاح حافظ وبعض من جماعة حدتو، وأثمر هذا التعاون قبيل ثورة يوليو على كتاب مشترك بين زهدي وصلاح حافظ بعنوان “بعد المعركة”. وقد نشر عن طريق “دار الفن الحديث” الذي أسسته منظمة حدتو عام 1950. والكتاب يستعرض بالكلمة والرسم تاريخ مصر وكفاح الشعب المصري منذ عهد محمد علي حتى الملك فاروق.

وفي يوم 26 يناير سنة 1952 كانت المطبعة تدور محتضنة صفحات هذا الكتاب ثم فجأة اندلعت في القاهرة النيران. وأعلنت الأحكام العرفية فامتدت مخالب الرقابة إلى دار الفن الحديث ومزقت الصفحات التي تم طبعها. واضطر الكتاب أن ينام برغم أنفه معتقلا ستة أشهر، حتى جاءت ثورة يوليو وأصبح في استطاعة صفحاته أن تخرج مرة أخرى للناس. وكان العزاء الوحيد عن شهور سجن الكتاب هو أنه استطاع أن يضيف إلى صفحاته مشاهد جديدة من 26 يناير حتى 26 يوليو.

بعد الثورة والسجن

عمل زهدي في مجلة الغد عام 1953 وهي تجربة رائدة بعد الثورة أسسها حسن فؤاد وعمره لم يتجاوز 25 عاما. وجعل شعارها “الفن في سبيل الحياة”. وبرغم قصر مدة التجربة التي لم تتجاوز الثلاثة أعداد ثم أغلقت، إلا أنها تركت بصمة واضحة في الحياة الثقافية وقتها. فقد كتب فيها حسن فؤاد وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ ولطفي الخولي وأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس وفتحي غانم وكامل الشناوي وثروت عكاشة وعبدالقادر التلمساني ورخا وغيرهم. وكان للفنان زهدي بابا بعنوان “مجلة كاريكاتير” وتعاون مع بيرم التونسي في النشر  فقد كان يترجم أزجال بيرم إلى رسومات.

زهدي العدوي- 1986
زهدي العدوي- 1986

اعتقل الفنان زهدي العدوي في عام 1953 بعد أن رسم عدة رسومات لشهداء الطلبة، وهي رسومات رفعها المتظاهرون أثناء تظاهراتهم، ليقبض عليه، ويقضي في السجن عاما كاملا. وبعد أن يخرج ويعمل في جريدة الجمهورية فترة من الزمن. وينتقل إلى روزاليوسف وصباح الخير وكان هو صاحب غلاف العدد الأول من مجلة صباح الخير عام 1956. حتى حدث الصدام الكبير بين نظام عبدالناصر والشيوعيين. وبدأت الاعتقالات الرهيبة منذ اليوم الأول من عام 1959 وكان نصيب زهدي الاعتقال في 27 مارس 1959 ضمن 436 شخصا. واستمر في السجن حتى عام 1964 في نفس الزنزانة مع الشاعر الكبير فؤاد حداد.

مواقف طريفة

ويروي فؤاد حداد مواقف طريفة عن زهدي حين استطاع زهدي أن يهدئ الجو ويكسر شوكة الضباط المشرفين على عمليات الضرب والتعذيب. بأن يقنعهم أنه في استطاعته أن يصنع لهم تماثيل لو كانت لديه كميات كافية من الجبس. فقد كان زهدي يهوي النحت كما الرسم تماما، فتولى الضباط إحضار جوال من الجبس ليقوم زهدي بهذه المهمة. وبطبيعة الحال كان نحت التمثال يقتضي أن يجلس الضابط صامتا لا يتحرك بينما يقوم زهدي بتشكيل عجينته. وكان زهدي ينتهز الفرصة ليعرّف الضباط بأقدار وشخصيات المعتقلين. وفي أحد الأيام قدّم أحد الضباط زجاجة بيبسي لزهدي. وكان ذلك ترف ما بعده ترف بالنسبة لمعتقل سياسي. وقد ألف فؤاد حداد قصيدة في هذا الموقف قال فيها:

لو أنحت جبس

كنت أشرب ببس

في العنبر

وفؤاد حداد القاسي

يكسر سبع كراسي

ولا يشرب ببس

في العنبر

ولم تكن تلك التجربة هي آخر عهد زهدي العدوي بالسجن. فقد سجن مرة أخيرة عام 1977 على إثر أحداث انتفاضة يناير 1977 وخرج من السجن ليمارس عمله في الصحف والمجلات حتى توفي في يوليو 1994.

اقرأ أيضا:

رخا سجينا: الكاريكاتير في الزنزانة

عندما أنقذ أحمد بهاء الدين «صلاح جاهين» من السجن

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر