قاهرة يوليو (2): قاهرتان من جديد
تناولنا في الحلقة الأولى من قاهرة يوليو كتاب جمال عبدالناصر فلسفة الثورة كوثيقة مهمة وملهمة معتبرين إياها مدخلا لفهم التطورات التي طرأت على القاهرة عمرانيًا ومجتمعيًا خلال عصر جمهورية يوليو. من خلال قراءة فلسفة الثورة تبدت لنا نظرية الدوائر الثلاث: أن تكون مصر قلب ثلاث عوالم: العربي الإفريقي والإسلامي. إذ أنه -والكلام لعبدالناصر- “لا نستطيع أن نتصرف على أننا قطعة من ألاسكا المتعلقة بأقصى أصقاع الشمال. أو على أننا جزيرة «ويك» النائية المهجورة في تيه الباسفيك”. بدت نظرية عبدالناصر بديهية في الزمان وفي المكان: “الزمان إذن يفرض علينا تطوره، والمكان أيضا يفرض علينا حقيقته”. ومن هنا تحتم دور جديد على العاصمة المصرية أن تلعبه في زمن الضباط الأحرار، زمن جمهورية يوليو.
** **
لا يمكن أن نعتمد على فهمنا في القرن الحادي والعشرين لوثيقة فلسفة الثورة دون التطرق لآراء النخبة المثقفة التي استقبلت الكتاب في زمانه. وذلك تجنبًا لأن نقع في خطأ سوء إسقاط أفكار الكتاب أو لوي عنقها لصالحنا. من هؤلاء الذين قرأوا الكتاب المفكر والسياسي عباس محمود العقاد. نشر العقاد كتابه «فلسفة الثورة في الميزان» عام 1954 ونشرته المطابع الرسمية في مصر بنفس غلاف فلسفة الثورة. ولكن مع إضافة رسم للميزان ـ ميزان العدالة – في فراغ علوي أعلى الجهة اليمنى للغلاف.
يبتدأ العقاد كتابه بـ«تحليل مقارن» لظروف ونتائج الثورات الكبرى في العالم: الفرنسية والتركية والصينية. ثم لاحقًا يتناول بالتحليل كتاب عبدالناصر، ولكن على استحياء. ومن خلال التأكيد على أن أهمية أن يكون الشعار الجديد للثورة المصرية “الاتحاد والنظام والعمل” مدروسًا ومختارًا بعناية. إذ أنه يمثل رواسم الطريق الذي ينبغي على الشعب أن يسلكه. ومن ثم يرى العقاد ضرورة أن يكون شعار الثورة أصيلًا غير مستعار من شعارات ثورية أخرى. يظهر العقاد في نهاية كتابه أن كل ثورة يجب أن تنطلق من حقائق واقعها. فلا ينبغي لها تقليد الثورات الأخرى التي حدثت في مجتمعات أو ظروف مختلفة.
بذلك حذر العقاد ضمنيًا من استخدام أي إشارة تاريخية لتأطير الثورة المصرية. لأن إسقاط الأحداث والشخصيات التاريخية، ذات السياقات المكانية الزمنية الخاصة بها. على الواقع يؤدي في كثير من الأحيان إلى ما لا تحمد عقباه. نرى أن تحذير العقاد جاء متسقًا تمامًا مع ما كتبه عبدالناصر. إذ أن الأخير لم ينفك أن يسقط الأحداث السياسية التي مرت بها مصر. كالثورة العرابية وثورة 1919، على واقعه البلاد وقت قيام الحركة المباركة. وفي ذلك الخصوص، يؤكد المؤرخ توفيق إكليمندوس أن ناصر ورفاقه كان لديهم ولع بالإسقاط التاريخي. “حتى أنهم كانوا يبحثون في التاريخ عن نماذج سلوكية مماثلة لأسلوبهم في الحكم. وهذا يعني أنهم غالبًا ما كانوا يتساءلون عما كان يمكن أن يفعله رجل عظيم من التاريخ في موقف مماثل” للمواقف التي يتعرضون لها.
** **
أما القاهرة فكانت كما قلنا في الحلقة السابقة الانعكاس العمراني للتحولات التي ارتأت الطبقة الحاكمة الجديدة أن تقوم بها. وهي التحولات الكبرى التي غيرت حياة القاهريين مثلما غيرت تاريخ البلاد. في عام 1953 – عام جمهورية يوليو – كانت القاهرة على موعد مع بداية حضرية جديدة. تدعم دورها في نظرية الدوائر الثلاث كمركز مستقل وحيوي ومهم. في سبيل تحقيق ذلك كانت جمهورية يوليو أن تحمي نفسها أولًا بتحقيق الاستقرار الأمني المهدد بالعديد من التحديات خارجيا وداخليا.
لذلك كان من المنطقي بالنسبة لهم أن ينظروا ببداهة إلى فكرة المركزية الحضرية Urban Centrality. على أنه السبيل الوحيد لضمان الاستقرار للنظام الجديد من دون النظر لعواقب التجربة على عدد سكان العاصمة وخدماتها وبنيتها التحتية. أو على الأقل دراسة تجارب سابقة للمركزية الحضرية. هذه النظرة الأحادية التي تهتم بتحقيق الهدف دون حساب للعواقب لها عدة تفسيرات. نتبنى منها ما كتبته رضوى عاشور على لسان راوي «قطعة من أوروبا»: «على طريقة الضباط الذين لم يتح لهم بعد إنهاء تعليمهم الثانوي سوى عامين أو ثلاثة من دراسة لا تخرج مقرراتها عن حدود العلوم العسكرية. لم يشغلهم كثيرا التفكير في المعاني والدلالات».
** **
كان من أهم هذه التغييرات الكبيرة التي مرت بها العاصمة المصرية منذ سقوط النظام الملكي وإعلان الجمهورية هي نقل مقر الحكم من قصر عابدين إلى منطقتي القبة ومصر الجديدة. وهو ما سيكون له الأثر في تغيير الأنماط السكنية والوظيفية بالمدينة. ورغم أن مسألة نقل مقر الحكم في حد ذاتها هو تصرف طبيعي حال الانتقال غير السلس للسلطة. لكن لا ينبغي لنا أن ننسى أن الضباط الأحرار في الأصل تنظيم عسكري وسري. ومن ثم فمسألة التأمين هي رأس الأولويات بالنسبة لهم. لا ينبغي أيضًا أن نغفل أن أغلب أعضاء التنظيم شاهدوا وشاركوا في الصراعات السياسية. التي دارت خلال مرحلة الأربعينيات وأوائل الخمسينيات قبيل الثورة. والتي أسفرت عن عدد من الاضطرابات منها الإضرابات والتفجيرات والاغتيالات التي طالت بعض رجال الدولة. ثم اختتمت المرحلة بحريق القاهرة الكبير في يناير 1952.
كما أن بين عامي 1952 و1956، نشبت صراعات بين الضباط الأحرار وأعضاء الأحزاب والقوى السياسية التي تعرضت لها الثورة بالحل. والتي تقع مقراتها في وسط المدينة أيضًا. حدثت كل هذه القلاقل في وسط المدينة تحت سمع وبصر جمال عبدالناصر ورفاقه. فأدركوا خطورة موقع مقر الحكم في مركز المدينة الحديثة (قاهرة إسماعيل). وعليه توجب عليهم تأمينه ومن ثم نقله. أما موقعه الجديد فهو فريد لأنه بمعزل عن القلاقل كلها لبعده عن مركز المدينة أولًا ولقربه من ثكنات العباسية ومن المدرسة الحربية ثانيا. ومن ثم فتحقق فيه شرطا التأمين والانعزال عن أي تهديدات قد تودي بالسلطة الجديدة.
** **
وبحسب بعض المؤرخين فقد شجع تحول مركز السلطة الطبقة الحاكمة الجديدة على الاستقرار في ضاحية مصر الجديدة. بالإضافة إلى كبار موظفي الحكومة والضباط. أما مساكن الطبقة الحاكمة القديمة والأثرياء والأجانب في وسط المدينة، فقد غادرها هؤلاء إلى خارج البلاد أو على الأقل إلى ضواحي أبعد لتحل محلهم برجوازية جديدة قوامها أساسا من الطبقة الوسطى. ومن ثم تغيرت المورفولوجيا الاجتماعية للمدينة الحديثة (قاهرة إسماعيل) مثلما تغيرت في ضاحية مصر الجديدة وغيرها من ضواحي العاصمة.
وبالتالي مرة أخرى تكررت قصة “القاهرتين” – تناولناها في سلسلة حلقات بنفس الاسم نشرت في 2022 على “باب مصر”– التي دارت فصولها منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر ولكن هذه المرة ابتداءًا من النصف الثاني من القرن العشرين، وفي ظل نظام جديد للسلطة. إلا أن وجود القاهرتين – وسط البلد ومصر الجديدة ونقل مقر الحكم من هنا لهناك لم يمنع القادة الجدد – محمد نجيب وجمال عبدالناصر من تنظيم مؤتمرات شعبية ضخمة في وسط المدينة ومخاطبة الجماهير من شرفات بعض مباني قصر عابدين، أو استخدامهم لهذه الأخيرة كمبنى الحرس الملكي الذي أصبح مقر لجنة التحرير. نخلص من ذلك إلى أنه – وعلى الرغم من انتقال مقر السلطة رسميًا في عصر الجمهورية- لم يزل الرمز الذي يمثله قصر عابدين كرمز للسلطة هو المهيمن في العلاقة بين الحكام الجدد وبين المصريين.