جماليات الأزرق في شوارع القاهرة

يدهشنا الصديق والفنان التشكيلي الرائع محمد عبلة من وقت لآخر باهتماماته المتجددة، ومؤخرا وضع على صفحته في الفيسبوك مجموعة من صور لافتات شوارع القاهرة، وقد سأل أصدقاءه أن يمدوه بأي معلومات ومصادر تخصها. لديه كل الحق، فهذه اللوحات المعدنية المطبوعة بعناية، تتراقص فوقها الخطوط المكتوبة بعناية ولطف، وبحفر أبيض على أرضية من الأنامل الأزرق الجميل. وبها زينت مداخل كل شوارع القاهرة القديمة، من أكبر طريق لأصغر عطفة.

اللافت فيها هو المستوى المتقن الذي كتبت به، بخطوط غلب عليها خط الثلث. ومعه كتابة بالحروف اللاتينية، وقليلها كتب بخط النستعليق (الفارسي). وكوني خطاطا أكاديميا دارسا، كنت أسمع من أساتذتنا في مدرسة الخطوط بباب اللوق بعضا من تاريخ الأعمال الظاهرة في شوارع المدينة، جوامع ومبان وشوارع، وكذا الطوابع والعملات. المهنة كانت بها تراتب وشيوخها المؤثرين معروفين، وإليهم كانت تلجأ الدولة لتزيين رموزها بأجل الكتابات وأجملها. بعض أساتذتنا كانوا شيوخ المهنة، كالحج محمد عبد القادر عبد الله، والأستاذ حمام، والحج سيد إبراهيم، وعبوش، يرحمهم الله، والأستاذ سعد غزال أمد الله في عمره. وسمعت من بعضهم عن بدايات العناية الرسمية بالخط العربي.

***

في اللافتات، ربما أقدم من خطها هو التركي عبد الله الزهدي المشتهر بخطاط الحرمين. حيث أوفدته مصر للمشاركة بخطه في عمارة المسجد الحرام. وقد استقدمه الخديو إسماعيل لتزيين المباني التي حلم بأن تحول قاهرته لباريس على النيل. وفي تلك الفترة برزت في المدينة أفضل سطور الكتابة العربية. أسهم الزهدي بخطه في موجة إعادة تخطيط وتحديث شوارع المدينة. وخدم غايات الخديو إسماعيل الذي عاين باريس خلال مراهقته وشبابه، وطالع فيها ما دشنه لويس نابليون من تغيير جذري، صممه مهندسه الأهم جورج هوسمان. ويقال أن هوسمان نفسه قد استدعاه نوبار باشا بناءا على طلب من الخديو لإعادة تخطيط القاهرة على طراز باريس.

ثمة ما يشير إلى أن العمدة من الخطاطين قد أسهموا في كتابة اللافتات المبكرة، وعلى رأسهم محمد عبدالعزيز الرفاعي، الشهير بعزيز، الذي جاء من تركيا إلى مصر بطلب خاص من الملك فؤاد ليخط له مصحفا يحمل اسمه. وعزيز قد خلف آثارا خطية مهمة، لعل أشهرها الموجود في واجهات مسجد الرفاعي المواجه للسلطان حسن وفي إيواناته الداخلية. وهو المسجد الذي رعت بناءه أم الخديو خوشيار خانم. المسجد الذي يحمل تحفا خطية ومعمارية لافتة، بناه المعماري حسين باشا فهمي (الشهير بالمعمار) في 1880، وتعطل المشروع، حتى عهد عباس حلمي، فانتقل لعهدة أحمد خيري باشا، الذي استدعى لاستكمال البناء المهندس ماكس هرتز باشا (اليهودي من أصل مجري) والرجل بالرغم من كونه غير مسلم، له حكاية تحكى في خدمة الآثار الإسلامية. سمي المسجد بالرفاعي نسبة للزاوية القديمة التي حل محلها، وكانت تنسب لأحد الشيوخ واسمه أبو شباك، وهو حفيد الشيخ العراقي أحمد الرفاعي، ولا زال له قبر أبو شباك موجودا بجوار المسجد.

***

في خدمة لافتات الشوارع يبرز بالنسبة لي اثنان، هما أكثر من طورا الخطوط في بداية القرن وقد عملا في قلم الرسم الملكي ، المصري مصطفى بك غزلان، الذي ينسب إليه النسخة المصرية من الخط الديواني والتي تسمى بالديواني الغزلاني، ونجيب بك هواويني، الذي ينحدر من أصول شامية، وكان شاعرا ومحاميا.كان العمل في خدمة الخط الملكي يكفل الحصول على البكوية، وقد منحت تشريفا لكبار الخطاطين حينذاك.

أبدع غزلان وهواويني بحافز وتشجيع من رئيس الديوان اللواء محمود باشا شكري، وهو أول مصري يتولى منصب رئيس أركان الجيش، وكان قبلها قد ترأس الديوان الملكي في عهد السلطان حسين كامل، ثم عمل ياورا للملك فؤاد. كان شكري مفتونا بالخط العربي، وبخاصة قلم الديواني، ويجيد كتابته، فوجه الخطاطين البارعين للعناية به. لم يظهر الديواني في لوحات الشوارع، لاحتكار الديوان الملكي له، لكن كتابات هذين الخطاطين بالثلث والنستعليق (الفارسي) كانت بذاتها تحفا أفاضت بجمالها على مداخل شوارع المدينة.

الذكاء الاصطناعي والهلوسة بالعربية

لم تنته الحكاية عند طلب عبلة، وما تذكرته من أمر الخط العربي. إنما أثارني في التأريخ لهذه الأعمال ما أوردته إحدى المعلقات على منشور الفنان محمد عبلة، وهي سيدة فاضلة رأت أن تستعين بأحد أنظمة الذكاء الاصطناعي، كتشات جي بي تي وغيره، من أجل البحث سريعا عن معلومة تسعف فناننا السائل.

وكان تعليقها يشمل مصادر استوقفتني بشدة. فعلى الرغم من أني مولع بتاريخ القاهرة وعمرانها، لكن يبدو أن تلك المصادر لم تمر بي، وأن الذكاء الاصطناعي يعرف أضابير الموضوع وكهوف فيها لم أخط بها خطوة يوما.قالت، واقتبس هنا من تعليقها، نقلا عن نظام الذكاء الاصطناعي: “توجد العديد من المراجع التي تتناول أسماء الشوارع في مصر القديمة والحديثة. ومعظم هذه المعلومات تأتي من دراسات تاريخية وبحوث علمية.

  • “شوارع القاهرة” لعلي الرافعي: كتاب يتناول تاريخ وتطور شوارع القاهرة القديمة والحديثة وأسماءها.
  • “تاريخ القاهرة” لمحمد عزالدين عبيد: يقدم هذا الكتاب نظرة شاملة عن تاريخ مدينة القاهرة، بما في ذلك الشوارع وأسماءها.

بالطبع، إليك مزيدًا من المراجع الموثوقة التي تتناول أسماء الشوارع في مصر القديمة:

  • “تاريخ الشوارع في مصر القديمة والحديثة” لمؤلف غير معروف: كتاب يشمل دراسة تاريخية شاملة لتطور الشوارع في مصر منذ العصور القديمة حتى الوقت الحاضر.
  • موقع الهيئة العامة للمعلومات المدنية: يمكن أن يوفر هذا الموقع معلومات مفيدة حول تسمية الشوارع والميادين في مصر، بما في ذلك الأسماء التي تغيرت مع مرور الزمن.
  • “الشوارع والأزقة في مصر: دراسة تاريخية” لمؤلف آخر: كتاب يتناول تطور الشوارع والأزقة في مصر بناءً على مراجع تاريخية متنوعة.
  • مجلة “مصر الأثرية”: تحتوي هذه المجلة على مقالات ودراسات حول تاريخ مصر القديمة، قد تتناول أسماء الشوارع كجزء من الدراسات الأثرية”.
***

وقد استفهمت منها عن إن كانت قد راجعت ما أفاد به نظام الذكاء الاصطناعي، لتشككي في وجود المصدر الأول للمدعو علي الرافعي. وحقيقة بحثت قبلها لرفع الشك عن هذا المصدر في قواعد بيانات الكتب المتاحة. ولم أعثر على أي شيء يفيد بوجوده. ثم بحثت عن تلك المجلة المسماة “مجلة مصر الأثرية”. فكان الحال نفسه إذ عجزت تماما عن الوقوف على أي ذكر لهذا المصدر. فيما لم يعرج نظام الذكاء الاصطناعي على دوريات أكاديمية معتبرة منها المجلة التاريخية المصرية التي تصدر عن الجمعية المصرية للدراسات التاريخية بالقاهرة. أو مجلة البحوث الأثرية الصادرة عن جامعة القاهرة!

كتبت استفهم من الأصدقاء ليمدوا يد العون في توكيد صحة تلك المراجع التي أفاد بها الذكاء الاصطناعي، من عدمها. وكانت المفاجأة هي أن المصادر التي أوصى بها نظام الذكاء الاصطناعي مختلقة جميعها. لم أقع على أي أصل لأي منها.

وهنا تأكد لدي ما يقال عن “هلوسة” نظم الذكاء الاصطناعي. فسألت صديقا مختصا، يعمل معي في نفس المؤسسة الأكاديمية. فأفاد بأن بعضا من هلوسة تلك النظم مرده في نوعية المصادر التي يعتمد عليها النظام اللغوي لتشكيل ردوده. وفيما فهمت منه أن أغلب المصادر ليست مهيأة ليفهمها النظام. وكثيرها غير معد ليناسب أنظمة تغذية وتعليم الآلة التي تعتمد عليها تلك النماذج اللغوية. وهو جهد غائب، لا زالت تحتاج إليه مصادرنا العربية، ليمكن تحويلها لصيغ تستطيع نظم الذكاء الاصطناعي هضمها. وقد بات الأمر ضروريا إذ تشكل تلك النظم واجهة المعرفة اليوم.

عود على عمران القاهرة ولافتاتها

سألني محمد عبلة حين طالع ردي على التعليقات عنده: هل من مصادر توصون بها أفادكم الله؟ فأجبته بما يعلق في ذاكرتي فقلت: إن الشوارع الأقدم نجده عند على باشا مبارك في “الخطط التوفيقية”، وبعضه في كتاب عبدالرحمن زكي “بناة القاهرة في ألف عام”. وربما هناك مزيد عند المؤرخ إدوارد لين وكتابه “القاهرة منتصف القرن التاسع عشر”. وللمتعة وبلمحة أدبية، يوصى بجمال الغيطاني في كتابه الرائع “ملامح القاهرة في ألف عام”. وربما وبدرجة أقل عباس الطرابيلي في “شوارع لها تاريخ”. ثم تذكرت أنهم أعادوا طباعة الكتاب الجميل “ترام القاهرة” للكيلاني، وبه حكايات كثيرة عن الشوارع وتاريخها. ومن دائرة الأصدقاء، أتذكر رحمهما الله، مكاوي سعيد في كتابه “مقتنيات وسط البلد” وحمدي أبو جليل، في كتابه “شوارع وحواديت”.

وقلت لعل في بعض الكتب التي تتبع تاريخ الحرف ما يفيد. خصوصا وأن الكثير من تلك الشوارع قد ارتبط مسماها بحرف بعينها، ربما بسبب التوزيع الطائفي للمهن في ذلك الزمان. وكنت قد رأيت كتابا اسمه “موسوعة الحرف التقليدية في القاهرة التاريخية” أعدته إحدى الجمعيات المعنية بالتراث. وتذكرت أيضا عديد الكتب المهتمة بالعمارة التقليدية والتاريخية في القاهرة. وبعضها حكي عن تاريخ المكان الذي تقع به المباني التراثية. ويوصى منها بكتاب فتحي حديدي “التطور العمراني لشوارع القاهرة”. وكتاب رضوى ذكي عن تطور عمران القاهرة المملوكية. كذلك كتب سير الأعلام، وكثيرهم ارتبط اسمه بشوارع. وقد لمع في ذاكرتي تاريخ حارة أبو طاقية، المنسوبة لشهبندر التجار الشهير من العهد العثماني، وهو المذكور في كتاب كتبته عنه أستاذتنا الجليلة الدكتورة نيللي حنا.

***

ثم تذكرت أن عبلة قد شدد على أنه يعتني تحديدا باللافتات من هذا النوع المبهر، ولم يسعفني خيالي لإفادته. تذكرت كتاب خالد عزب عن خطاطي العهد الملكي، لكن لم أتذكر إن كان به ذكر للافتات الشوارع تلك. كما تذكرت أن شيخا أزهريا من محافظة الغربية، وهي مشهورة بالخطاطين، وبمن يعتنون بالخط العربي توثيقا وتأريخا. وقد اعتنى هذا الأزهري بأمر اللافتات بسبب ولعه بخطوطها. لكن وللأسف قد هرب من ذاكرتي السيئة اسمه.

اقرأ أيضا:

النقد التشكيلي الراهن

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر